اطبع هذه الصفحة


ضغط العامة على المفتي

د. خالد بن عبد الله المزيني

 
توطئة:
ينظر كثير من طلبة العلم إلى ضغط العامة على المفتي، وتوارد استفتاءاتهم على قضية معينة؛ بشيءٍ من الريبة، بل يراها بعضهم من أسباب انحراف الفتوى. ولاشك أن لهذه الظاهرة ـ في بعض جوانبها ـ أثراً سلبياً على عملية الإفتاء، غير أن هذا لا يطرد في جميع مواردها وتطبيقاتها. وفي ظني أن ظاهرة ضغط العامة على الفقيه لاستصدار فتوى بإباحة أمر من الأمور التي تهم المجتمع، أو شريحة واسعة منه، يمكن تقسيمه إلى قسمين:
1 ) قسم مذموم.
2 ) قسم ممدوح.
ويهمنا هنا القسم الممدوح منه، إذ الآخر معلوم لدى الكثيرين، فلا حاجة إلى الكلام في تأصيله.

تعريف:
يمكن ضبط " الضغط " الممدوح بأنه : " توارد أسئلة الناس واستفتاءاتهم على الفقيه ، في مسألة يقعون بسبب منعها في حرج لا تأتي الشريعة السمحة بمثله ، مما يؤدي إلى عدوله عن العزيمة إلى الرخصة ".
وذلك أن هذه الشريعة المباركة إنما جاءت على مقتضى العدل والإحسان ، نابذة عن العالم الإصر والأغلال التي كانت عليهم ، قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء (107)]. وأولى الناس بهذه الرحمة هم أتباع نبي الرحمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا الأمر من أصول الإسلام، وقطعيات الشريعة.
فإذا ترتب على حكم " شرعي " حرج ومشقة ظاهرين، جاء الإسعاف " الشرعي " بالتيسير، بالتخفيف تارة: كإسقاط الجمعة ، وبالتنقيص تارة: كالقصر ، وبالإبدال تارة: كالتيمم ، وبالتأخير تارة: كالجمع ، وبالترخيص بتناول المحرم: كالخمر عند الغصة.
والأصل في ذلك قوله تعالى { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة (185)]، وهذه قاعدة محكمة عامة ، يمكن الاستدلال بها عند كل حكم يوقع بالناس مشقة خارجة عن المعتاد .

تقدير المشقة:

معلوم أن تقدير " المشقة " وضبطها يتفاوت فيه العلماء، كسائر بني آدم، فما يراه زيد مشقة شديدة ، لا يراه عمرو كذلك ، بل ربما أنس به، والعكس صحيح.
فهي على ذلك أمر نسبي تقديري ، أو فلنعبر بتعبيرهم فنقول هو أمر اجتهادي ، يسوغ فيه الخلاف . والذي يحصل هو أن بعض المفتين إذا تواردت عليهم الاتصالات والاستفتاءات من كل حدب وصوب ، تسأل وتستفتي عن حكم شرعي معين ، وتتلمس فيه رخصة ومخرجاً ، عندئذ " يشعر " ذلك العالم أن عامة الناس " أو الأمة " محتاجة إلى التيسير في ذلك الحكم ، وأنهم واقعون بسبب منعه في مشقة ظاهرة ، والدليل هذا العديد من الاتصالات.

أمثلة:

وهاهنا أمثلة كثيرة على ذلك ، منها أن بعض العلماء كان يرى في مسألة التورق شبهة قوية تقتضي المنع ، ومع الاستفتاءات الكثيرة المتنوعة الجهات والظروف ، رأى أن الناس قد اشتدت حاجتهم لهذه المعاملة ، فأفتى بجوازها .
ومن ذلك مسألة الرمي بالليل في أيام منى، فقد كانت الفتوى بالمنع في هذه البلاد، أما اليوم فلقد ترى كبار الفقهاء لا يرمون إلا ليلاً.
ومنه التصوير الفوتوغرافي ، فقد كانت الفتوى على التشديد فيه إلى وقت قريب ، ومع التطور الإعلامي الهائل ، واشتداد حاجة الناس لذلك ، عدل الكثيرون عن الفتيا السابقة .
في أمثلة كثيرة معلومة ، يطول سردها ، مما يخرجنا عن المقصود .

والحاصل أن الضغط في ذاته
والله تعالى أعلى وأعلم

 

د. خالد المزيني
  • خواطر وتأملات في إصلاح البيوت
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية