اطبع هذه الصفحة


فضل العلم الشرعي في السنة النبوية

ناصر بن سعيد السيف
@Nabukhallad


     من أعظم فضائل العلم الشرعي في السنة النبوية كما جاء في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول ﷺ: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) ، فمن وفق الله تعالى للفقه في الدين فقد وفق للخير كله، يدلنا على ذلك تنكير لفظة (خير) في الحديث ليعم الخير كله ويشمل القليل منه والكثير، وهذا كله من فضل الله وكرمه وعظيم إحسانه على من وفق للعلم، وعلى العكس من ذلك من حرم العلم فقد حرم الخير، بدلالة الحديث نفسه، ويدل الحديث على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيراً، كما أن من أراد به خيراً فقهه في دينه، ومن فقهه في دينه فقد أراد به خيراً، إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل، وأما إن أريد به مجرد العلم فلا يدل على أن من فقه في الدين فقد أريد به خيراً، فإن الفقه حينئذ يكون شرطاً لإرادة الخير وعلى الأول يكون موجباً والله أعلم. ([1])

      وإن الله عز وجل وتقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، فضلهم عظيم وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في يوم القيامة بعد الأنبياء تشفع، مجالسهم تقيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العباد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج إلى أن قال: فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا. ([2])

     والأحاديث من السنة النبوية الدالة على فضل العلم الشرعي كثيرة، وفي النقاط التالية بعض منها وعليها تعليقات من كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى:


1. العلم ميراث الأنبياء عليهم السلام،
جاء في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا، ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). ([3])
في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل هم الذين يُعَلَمون علم النبي ﷺ، دون غيره، ألا تراه يقول: " العلماء ورثه الأنبياء " والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلم نبينا سنته، فمن تعري عن معرفتها، لم يكن من ورثة الأنبياء). ([4])

2.   من أراد الله به خيرًا فقهه في الدين وفتح له طريقا لطلب العلم،
جاء في الحديث عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول ﷺ: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين). ([5])
في هذا الحديث الاشتمال على ثلاثة أحكام: أولها: فضل التفقه في الدين، وثانيها: أن المعطي في الحقيقة هو الله، وثالثها: أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدًا. ([6])

3.   بالعلم يُعرَفُ اللهُ ويعبد ويوحد وهو النجاة في الدنيا من الشهوات والشبهات،
جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، وعالماً أو متعلماً). ([7])
في هذا الحديث لما كانت الدنيا حقيرة عند الله لا تساوي لديه جناح بعوضة، كانت وما فيها في غاية البعد منه، وهذا هو حقيقة اللعنة، وهو سبحانه إنما خلقها مزرعة للآخرة ومعبرا إليها يتزود منها عباده إليه، فلم يكن يقرب منها إلا ما كان متضمنًا لإقامة ذكره ومفضيًا إلى محابه، وهو العلم الذي به يُعرف الله، ويُعبد، ويُذكر، ويُثنى عليه، وبه يمجد، ولهذا خلقها وخلق أهلها. ([8])

4.   طالب العلم عَدل بشهادة رسول الله ﷺ،
جاء في الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين). ([9])
في هذا الحديث أخبر رسول الله ﷺ أن العلم الذي جاء به يحمله عدول أمته من كل خلف حتى لا يضيع ويذهب. وهذا يتضمن تعديله ﷺ لحملة العلم الذي بعث به، وهو المشار إليه في قوله: "هذا العلم" فكل من حمل العلم المشار إليه لابد وأن يكون عدلاً، ولهذا اشتهر عند الأمة عدالة نقلته وحملته اشتهارًا لا يقبل شكًا ولا افتراء. ولا ريب أن من عدله رسول الله ﷺ لا يسمع فيه جرح، فالأئمة الذين اشتهروا عند الأمة بنقل العلم النبوي وميراثه كلهم عدول بتعديل رسول الله ﷺ، ولهذا لا يقبل قدح بعضهم في بعض، وهذا بخلاف من اشتهر عند الأمة جرحه والقدح فيه كأئمة البدع ومن جرى مجراهم من المتهمين في الدين، فإنهم ليسوا عند الأمة من حملة العلم. فما حمل علم رسول الله ﷺ إلا عدل ولكن قد يغلط في مسمى العدالة، فيظن أن المراد بالعدل من لا ذنب له، وليس كذلك، بل هو عدل مؤتمن على الدين، وإن كان فيه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا ينافي الإيمان والولاية. ([10])

5.   طلب العلم خير ما يسعى إليه الإنسان وأفضل ما يمدح به،
جاء في الحديث عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ قال: (بينا أنا نائم، أتيت بقدح لبن، فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب" قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم). ([11])
في هذا الحديث وجه التعبير بذلك أي: تأويل اللبن بالعلم من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة المنافع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني، والعلم للغذاء المعنوي. ([12])

6.   تعلم العلم وتعليمه سبيل لمضاعفة الأجر والثواب، جاء في الحديث عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه رضي الله تعالى عنهما عن النبي ﷺ قال: (من علم علمًا فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل شيء). ([13])
في هذا الحديث أخبر ﷺ أن المتسبب إلى الهدى بدعوته له مثل أجر من اهتدى به، والمتسبب إلى الضلالة بدعوته عليه مثل إثم من ضل به؛ لأن هذا بذل قدرته في هداية الناس، وهذا بذل قدرته في ضلالهم، فنزل كل واحد منهما بمنزلة الفاعل التام. ([14])

7.   العلم نعمة يغبط صاحبها عليها،
جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويُعلمها). ([15])
في هذا الحديث ينقسم الحسد إلى حقيقي: تمنى زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة. ومجازي: الغبطة أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة. والمراد: لا غبطة محمودة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما. ([16])

8.   العلم نفعه متعدي بخلاف العبادة فنفعها لا يتعدى صاحبها،
جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع). ([17])
في هذا الحديث بيان أن فضل العلم على العباد من حيث أن نفع العلم يتعدى إلى الخلق كآفة، وفيه إحياء الدين، وهو تلْوُ البنوة. ([18])

9.   طالب العلم العامل به والمعلم غيره، لا ينقطع أجره وثوابه بعد موته،
جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: (إذا مات الإنسـان انقطع عملُهُ إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ   يدعو له). ([19])
في هذا الحديث التأكيد على أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، كذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية؛ وهي الوقف. وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح، وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه، وبيان فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع، وفيه أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمع عليهما، وكذلك قضاء الدين. ([20])

10.     طالب العلم المجتهد يؤويه الله ولا يعرض عنه،
جاء في الحديث عن أبي واقد الليثي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله ﷺ بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله ﷺ وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله ﷺ، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه). ([21])
في هذا الحديث لو لم يكن لطالب العلم إلا أن الله يؤويه إليه ولا يعرض عنه لكفى به فضلاً. ([22])


@  @  @
 
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق والسداد والقبول
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
ناصر بن سعيد السيف
27 رجب 1441 هـ


-------------------------------------------------------------
([1]) انظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، 1/65.
([2]) انظر: أخلاق العلماء، الآجري، ص13.
([3]) رواه ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني برقم الحديث (223).
([4]) انظر: صحيح ابن حبان، محمد بن حبان البستي، 1/171.
([5]) رواه ابن ماجه وصححه الشيخ لألباني برقم الحديث (220).
([6]) انظر: فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، 1/285.
([7]) رواه ابن ماجه وحسنه الشيخ الألباني برقم الحديث (4112).
([8]) انظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، 1/269.
([9]) رواه البيهقي وصححه الشيخ الألباني برقم الحديث (51).
([10]) انظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، 1/495.
([11]) رواه البخاري في صحيحه برقم الحديث (80).
([12]) انظر: فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، 7/56.
([13]) رواه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب وحسنه برقم الحديث (80).
([14]) انظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، 1/251.
([15]) رواه البخاري في صحيحه برقم الحديث (71).
([16]) انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجاج، النووي، 6/97.
([17]) رواه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب وصححه برقم الحديث (68).
([18]) انظر: شرح السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، 1/378.
([19]) رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني برقم الحديث (1403).
([20]) انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجاج، النووي، 11/85.
([21]) رواه البخاري في صحيحه برقم الحديث (71).
([22]) انظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، 1/103.


 

ناصر  السيف
  • كتب
  • مقالات
  • تغريدات
  • فيديوهات
  • الصفحة الرئيسية