اطبع هذه الصفحة


للقوة وجه ضعيف

نزار محمد عثمان


من المفاهيم التي أحس أن خلطا كبيرا يحدث فيها: مفهوم القوة، فما أكثر ما ترى من يختار الاستجابات العنيفة من ثورات جامحة، وكلمات مؤذية، وتصرفات مزعجة بحجة أنه لا يريد أن يبدو ضعيفا، وأن القوة في البيت والمكتب والشارع أمر لا بد منه، وأنها لا تتأتى إلا بإظهار الشدة، وحمل النفس والآخرين على ركوب الصعب.
مثل هذا التصور يقود الأباء والإدارين ونحوهم إلى أن لا يدعوا متجازوا إلا وأنبوه، ولا مقصرا إلا وعاقبوه، ولا ملتزما إلا وخوفوه، ليس من العقاب الهين اللين، ولكن العقاب الذي يردع الآخرين حسب رؤيتهم. فتجدهم لا يكادون يتعاملون مع الآخرين إلا منطلقين من تصور أن الحياة صراع إرادات، والقوة أن تنتصر إرادتك في التو اللحظة، فذلك يرضي الغرور، ويدخل إلى النفس السرور، أما على مستوى النظر البعيد فليس يهم إن أتت هذة الفلسفة بالخسارة لاحقا، فالمهم هو المظهر القوي، والشخصية النافذة والرأي الذي لا يخالف، وما سواه تبع.
هذا المفهوم للقوة شائع بين الأقوياء والضعفاء على السواء، فكم من ضعيف يرى أنه لو استطاع أن يطبق هذا المفهوم لأصبح قويا مهابا، بل لا أبالغ إن قلت إن هذا النوع من الضعفاء هو الذي يسهم بصورة أكبر في بقاء هذا التصور ونمائه، لأنه يهيئ البيئة المعينة على ازدهاره ونمائه.

في تقديري أن هذا التصور للقوة ليس إلا وجها آخر للضعف، وجه قوي للضعف لا أكثر، وذلك لعدة أسباب من أهمها:
أولا: القوة الحقيقية كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضبط النفس واختيار الاستجابة، لا في الانفعال والصراخ والتدمير، قال صلى الله عليه وسلم : (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) ومعنى ذلك أن من لم يملك نفسه عند الغضب ليس بشديد (ضعيف) وإن تسربل بالقوة.
ثانيا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه عندما سأله الإمارة: إني أراك يا أبا ذر ضعيفا , وإني أحب لك ما أحب لنفسي , لا تأمّرن على اثنين ولا تولّين مال يتيم)رواه الشيخان، ومخطئ من يظن أن ضعف أبي ذر رضي الله عنه كان في غير قوته الظاهرة، فلو تولى على اثنين لشق عليهما، ولو أصبح مسؤولا عن مال يتيم لألزمه من الزهد وشظف العيش ما لا يطيقه، ومن قرأ سيرة أبي ذر رضي الله عنه وجد أن اختياراته كانت شديدة دائما، ومع أنه صاحب المناقب العظيمة والصدق ا لمعلوم، إلا أن كل ذلك لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول له إني أراك يا أبا ذر ضعيفا، فما أحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول الحق ولا يجامل، ويظهر الحب ولا يخشى (إني إحب لك ما أحب لنفسي)، وإظهار الحب (وكذلك الاعتذار) عند بعض الضعفاء من يتملكهم الفهم الخاطئ للقوة أمر مناقض للقوة والقيادة والحسم.
ثالثا: رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أقوى الأقوياء، ولم يعرف عنه البطش، ولا الإيذاء بالكلمات، ولا تجاهل مشاعر الآخرين، ولا نحو ذلك مما هو شائع في أقوياء الظاهر ضعفاء الباطن.
رابعا: القوة الحقيقية هي أن تبني لا أن تهدم، أن تصنع الأقوياء، لا أن تحيط نفسك بالضعفاء من الذين لا يملكون رأيا مع رأيك ولا شخصية في وجودك، وهذه لا تصنع بالأوامر التي لا تقبل المخالفة، ولا بالمحاسبة التي لا تسمح بالاجتهاد الشخصي، القوة الحقيقة هي في الأخذ بيد الضعيف ليكتسب ثقة في نفسه، ويجهر برأيه ويخرج ما عنده ويخطي ويصيب في جو صحي يعلم أنه لن يصنف ولن يبعد ولن يجرح، القوة الحقيقية في أن توطن نفسك وتملك زمام أمرك، وتقدم الأنفع في كل موقف، تدور مع الحق بالصبر، بحيث لا يستفزك فرد، ولا يأسرك عرف، ولا يحتويك ظرف، ولا يستبيك طرف.
القوة الحقيقية في أن تحرص على أن يكون من معك أعوانا ، لا أتباعا.

 

نزارمحمدعثمان
  • البحوث
  • المقالات
  • الردود الصحفية
  • قصائد وأشعار
  • في الأدب الإسلامي
  • برامج إذاعية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية