اطبع هذه الصفحة


سر النجاح

نزار محمد عثمان


5- منطلقات التعامل مع الآخرين

 

إنّ تغيير ما بالنفس يشمل جانبين: تغييرٌ ذاتي يتعلّق بذات الفرد ولا يتعداها لعلاقته بالآخرين ـ وهو ما تحدثنا عنه سابقاً: المسؤولية، وضوح الهدف وحسن قيادة الذات وإدارتها ـ وتغييرٌ آخر يتعدّى ليشمل علاقة الفرد بالآخرين وطريقة تعامله معهم، والتغييران يكمِّلان بعضهما، و النجاح في كليهما مطلوب، غير أن النجاح في التغيير المتعدي للعلاقة مع الآخرين لا بدَّ أن يسبقه نجاح في التغيير الذاتي.

إننا إنْ لم نغيِّر ذواتنا بحسن معرفتها والسيطرة عليها، وحسن توجيهها لا يمكن أن نغيير في الآخرين.. لذلك ما ذكرناه في المقالات السابقة مهمٌّ لإيجاد الشخصية المستقلّة المسؤولة والقادرة على التعامل مع الآخرين والتكامل معهم. من الحماقة أن نحاول بناء العلاقات دون أن نكون مستقلين في شخصياتنا.. إنّ أهمّ مكوِّن في بناء العلاقات ليس هو ما نقوله أو نفعله ((الأساليب)) بل هو شخصيتنا.. وإذا كانت كلماتنا وأفعالنا مناورات وليست انعكاسات لدواخلنا فإن الازدواجية ستتضح وستؤدي إلى مزيد من العلاقات المحطمة..

- إن الأساليب النافعة هي التي تنبع من الشخصية المستقلة الموطنة.. لذلك فالمكان الصحيح لبدء أي علاقة هو((نحن)) أنفسنا، وذلك بأن نكون مسؤولين، عالمين بأهدافنا، ومنظمين لأوقاتنا، مراعين للأولويات، متمركزين حول المبادئ.

- إن مشاكل الشخصية كثيراً ما تكون خفية على الشخص، فتنعكس على علاقاته بالآخرين حتى يظن الشخص أن المشكلة في الآخرين وليست فيه.. مشاكل العلاقات مع الآخرين واضحة وجلية، وتضغط الشخص للعمل على حلِّها وكثيراً ما نلجأ للحلول السريعة والتكتيكات العاجلة لحلِّها ظاهرياً، وتكون حالنا أشبه بمن يحاول أن يعالج العرض ((الصداع أو الحمى)) ويترك المرض..إذا فعلنا ذلك فسننجح فقط في البعد عن المشكلة الحقيقية.

منطلقات التعامل مع الآخرين:

قبل أن نتعامل مع الآخرين يجب أن نقف وقفة نراجع فيها بعض الأمور الأساسية مثل:

 التعامل مع الآخرين في التصور الإسلامي:

التصور الإسلامي في جانب التعامل مع الآخرين يوفر لك الطمأنينة وسكون القلب.. ويعصمك من التصرفات الانفعالية، ومن مجاراة الآخرين وعدم توطين النفس.. ذلك لأنه يعطيك جرعات إيمانية واقية.. تعلو بك في مدارج الأخلاق وتزيدك بصيرة ونوراً من هذه الجرعات:

أولاً: أنت تتعامل مع الله قبل أن تتعامل مع الآخرين..

لذلك عليك أن تعلم أنك إن أعطيت مالك فإنك إنما تعطيه لله، وإذا صبرت وكظمت غيظك فإنك إنما صبرت ابتغاء مرضاة ربك، وإذا عُدْتّ المريض وأطعمت الجائع وأرويْت الظامئ فإنك إنما تفعل ذلك لله وستجد ذلك عنده.

اسمع إلى قوله سبحانه و تعالى: ((ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم)) [سورة التوبة: 104]. فالله هو الذي يأخذ الصدقات، فأنت ترى الله قبل أن ترى الفقير أو المحتاج قال الإمام القرطبي: "((ويأخذ الصدقات))، هذا نصٌّ صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها، وأنّ الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة " [تفسير القرطبي: 8/251]. وقال: "وفي صحيح مسلم: (لا يتصدق أحدٌ بتمرة من كسب طيِّب إلا أخذها الله بيمينه ـ في رواية ـ تربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل" الحديث، ورُوي (أن الصدقة لتقع في كفِّ الرحمن قبل أن تقع في كفِّ السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوَّه أو فصيله، والله يضاعف لمن يشاء) [المرجع السابق].

وانظر إلى قوله تعالى: ((من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون)) [سورة البقرة: 245]، قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدُّق بماله ابتغاء ثواب ربِّه، وأورد الحديث التالي: عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت ((من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً)) قال أبو الدحداح: يا رسول الله! أوَ أنّ الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح. قال: أرِني يدك، قال: فناوله، قال: فإني أقرضتُ الله حائطاً فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأمُّ الدحداح فيه وعياله فناداها: يا أمَّ الدحداح! قالت: لبيك. قال: اخرجي قد أقرضتُ ربي عز وجل حائطاً فيه ستمائة نخلة.. وفي رواية زيد ابن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كم من عِذْقٍ رَدَاحٍ، ودار فياح، لأبى الدحداح)) [تفسير القرطبي: 3/237].

وليس هذا في الإنفاق والصدقة فحسب، بل كل عمل صالح.. انظر إلى الحديث الذي أورده مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: (يا ابن آدم مرضتُّ فلم تعُدْني) قال: يا ربِّ! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: (أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْه؟ أما علمتَ أنك لو عُدْتَه لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني)، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: (أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني)، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: (استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟) [صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، حديث رقم 4661].

فالمسلم في تعامله مع الآخرين إنما يتعامل مع الله.. لذلك يقدِّم الخير دائماً للناس لأنه يجد ذلك عند الله، ويصِلُ ما أمر الله به أن يوصل، ولا يهمه حال الموصل إليه أمن الكرام هو أم من اللئام … حسبه أن الله هو الآمر وهو الآخذ وهو الذي سيجازي لذلك. والمسلم الحق لا يكاد يرى الموصل إليه أبداً، ولا ينفعل باستجابته مطلقاً، فالمسلم قد رفع الحسنة شعاراً يجزي به عن السيئة.. أنه يدرأ بالحسنة السيئة.. أنه خاشعٌ لربه خائفٌ سوء الحساب صابرٌ ابتغاء وجه ربه فهل تعلم ما هو جزاؤه؟ اسمع قول الله سبحانه وتعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب. والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار. جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) [سورة الرعد: 20ـ24].

عاش المسلم في رحاب هذه الآية فصغر في عينه كل داعٍ للانفعال باستجابات الآخرين وإطاعة هوى النفس في الانتقام والمعاملة بالمثل.. وأي شيء يعدل جنة الله وسلام الملائكة الداخلين من كلِّ باب.

بهذا التصور الصحيح لا يكون هناك مجال في قاموس المسلم لعبارات مثل: هذا الصنف من الناسي لا تنفع معه الحسنة.. أو سأذيقه من نفس الكأس التي أشربني منها.. فالمسلم شعاره الحسنة.. وتعامله مع ربه وهو يشهد ويجازي.

وبهذا التصور الصحيح يطمئن القلب.. وتسكن النفس وتسمو الروح فوق ردود الأفعال ودواعي الانتقام ومجاراة الآخرين.

ثانياً: المسلم يؤمن أن هناك داراً آخرة يجد فيها ما قدمه في هذه الدنيا.. هذا الإيمان يجعل تصوره مختلفاً تماماً عن تصورات الآخرين.

خذ مثلاً قضية أكل مال اليتيم.. البعض يراها لقمة سائغة لطفل ضعيف لا يملك حولاً ولا قوة، ولكن المسلم يراها ناراً لا يمكن أن يسيغها أبداً.. ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)) [سورة النساء: 10]… إنها في نظر المسلم ليست أموالاً تُشتهَى بل نارٌ تتقى.

كذلك قوله: ((إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) [سورة البقرة: 174]. المال الذي يأخذه عالم السوء لقاء كتمان آيات الله .. ليس إلا النار المؤكدة والمعرفة بالألف واللام .. كما أن استمراء عالم السوء لهذا المال المتواصل إنما هو صبر على النار تعجّب ربُّنا منه ((أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار)) [سورة البقرة: 175] وأمثال هذا في القرآن كثير.

وكذلك في السنة فقد ورد في صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته؛ فخرج إليهم، فقال: (إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم، فلعل بعضهم يكون أبلغ من بعض؛ فأحسب أنه صادق فأقضي له. فمن قضيت له بحقِّ مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها). [السنن الكبرى: 19344].

كذلك أورد الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه (منهاج المسلم) قصة مفادها أن قوماً مروا برجل يجلس وحده وأمامه قوم يتسابقون فقالوا ما أجلسك وحدك؟ قال: لست وحدي معي ربي وملكاي. قالوا: من سبق؟ وأشاروا إلى القوم المتسابقين. قال: من غفر الله له. قالوا: أين الطريق؟ فأشار إلى السماء ثم تركهم ومضى. إن التصور الإسلامي الصحيح يجعلك ترى ما لا يراه الآخرون ـ وتلك هي الغربة ـ ويجعلك تتكلم بلغة لا يُقرّك عليها الأكثرون ـ وهذه هي الصعبة ـ فاحذر أن تنزل إلى تصوراتهم، واسْعَ إلى أن ترتفع بهم إلى تصوّرك وتصحِّح مفاهيمهم، وأن تلفِتَهم إلى معانٍ وتصورات إضافية هي أليق بالمسلم … جاء في السنن الكبرى عن عمرو بن شراحيل عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت لنا شاة أرادت أن تموت فذبحناها فقسمناها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عائشة ما فعلت شاتُكم؟) قالت: أرادت أن تموت فذبحناها فقسمناها، ولم يبق عندنا منها إلا كتف، قال: (الشاة كلها لكم إلا الكتف) [السنن الكبرى]، فما قدمته لأخراك هو الذي يبقى ((وللآخرة خير وأبقى)) [سورة الأعلى: 17].

ثالثاً: الرصيد العاطفي:-

- ذكر د. كوفي [The seven Habits of Highly Effective People، ستيفن ر. كوفي، ص 188 وما بعدها] ما يمكن تلخيصه في الآتي: "كلنا يعرف الرصيد المالي: أن يفتح إنسان حساباً في بنك، ويكون له رصيد مالي يمكن أن يسحب منه في حدود رصيده متى ما شاء.. لابد من إيداعٍ أولاً ليتكوّن الرصيد، ثم من سحب ثانياً، تخيل أن إنساناً ذهب إلى بنك ليس له فيه رصيد، وطلب مالاً...تخيل ماذا سيقول عنه الناس: ساذج غبي …الخ … الآن راقب معي في حياتنا الاجتماعية كم مرة نتصرف بطريقة هذا الساذج الغبي".

- في مجال العلاقات الاجتماعية إذا قمتُ أنا بإيداعات في بنككَ العاطفي، وكوّنتُ رصيداً من الثقة والأمانة والوفاء بالوعد ونحوها من الفضائل فستنشأ بيننا علاقة قوية ويمكنني أن أعتمد على هذه العلاقة التي بيننا، وعلى الرصيد العاطفي لي عندك.. بل يمكنني أن أرتكب أخطاء وحماقات ويشفع لي رصيدي العاطفي عندك..

وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ جاءتْ محاسنه بألف شفيعِ

- لكني إن كنتُ أظهرت لك أنني غير مهذب، كاذب، خائن، لا أحبك، أو لا أحترمك، أتوعّدك، فمعنى ذلك أن رصيدي العاطفي عندك تحت الصفر.. وسأكون عند التعامل معك كمن يسير في حقل ألغام.. أتوخى كل حذر في كل ما أقول أو أفعل وأحسب حساباً لكل كلمة أو إشارة أو تلميح.. إنها حياة صعبة لكن كثير من الأسر والمؤسسات والزيجات هذا حالها.

- إن علاقاتنا المستمرة (الزواج والأخوة والأبوة ونحوها) تحتاج منا إلى إيداعات مستمرة كذلك.. لأن الإيداعات القديمة مهما كانت كبيرة قد تتبخر لحرارة التوقعات، وكثرة الاحتكاك.

- هناك عملية سحب من الرصيد العاطفي تتمُّ تلقائياً ويومياً وربما دون علمنا أثناء تعاملنا مع أفراد العائلة والمقربين لذلك لا بد من أن تكون هناك أيضاً إيداعات مستمرة لحفظ التوازن وضمان العلاقات الناجحة.

- تجديد الإيداعات في رصيدنا العاطفي لدى الآخرين أمر على درجة كبيرة من الأهمية، إذ إنه في نفس الوقت إيداع في رصيد حسناتنا، ودرجة في سلم درجاتنا ـ متى خَلُصُت النية ـ وجوانب هذا الإيداع كثيرة متعددة سنعرض إلى أهمها في حلقة قادمة بإذن الله.


 

نزارمحمدعثمان
  • البحوث
  • المقالات
  • الردود الصحفية
  • قصائد وأشعار
  • في الأدب الإسلامي
  • برامج إذاعية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية