اطبع هذه الصفحة


سر النجاح

نزار محمد عثمان


7- معاً نرتقي
 

كيف ترى الدنيا؟ هل تراها من خلال ثقب ضيق؛ فتبدو لك صغيرة الأرجاء، ضيقة الأركان، قليلة الموارد، شحيحة الإمكانيات، مليئة بالمنافسين الذين يسعون للتغلب عليك؟ هل تتألم لنجاح الآخرين؟ هل تحبط لتفوق الأقران؟ هل ترى الدنيا كمعركة لا بُدَّ أن يكون فيها منتصر ومهزوم؟ أم هل تراها قليلة الخيرات إذا نال فيها شخص شيئاً من نجاح فمعنى ذلك أنه يُنقص من نصيبك.
إن كنت تراها كذلك فاعلم أن أعتى كفار قريش (أبا جهل) كان يراها كذلك؛ فإياك والتشبه به، فقد أخرج ابن اسحاق والبيهقي عن الزهري قال: حُدّثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلساً ليستمع منه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فتلاوموا، قال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق: فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج، حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال: يا أبا ثعلبة لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها. فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت. ثم خرج من عنده،حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا؛ حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى نُدرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. فقام الأخنس بن شريق(1).

عقلية السعة وعقلية الشح:

إن أبا جهل لم يمنعه من الإيمان إلا ظنه أن بني عبد مناف سيذهبون بالشرف كله ولن يبقى له و قومه شيء، وما درى أن هناك جوانب من الشرف لا تحصى ولا تعدُّ في اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم حازها الذين اتبعوه من أنصار وفرس وروم.
إن عقلية الشح تطلب الشرف كله لها وحدها، ولا تقبل أن تشارك الآخرين في ربح أو نجاح أو شرف، حتى ولو كانت مشاركة الآخرين تعود عليها بأضعاف ما تحصل عليه منفردة من ربح و نجاح وشرف، بل حتى ولو كان من يريد مشاركتهم أحد أصحاب الفضل عليهم من ذوى القربى.
وفي الجانب الآخر هناك عقلية السعة، التي ترى أن الكون واسع رحيب، موارده متجددة، وخيراته متعدده، يكفي الجميع، ويسع الكل، (ولله خزائن السموات والأرض والله على كل شئ قدير)، وأن النجاح والتفوق والسعادة والشهرة والثروة كلها ليست تقبل المشاركة فحسب بل تزكو وتتضاعف بالمشاركة، فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما نقص مال عبد من صدقة))(2)، كما صح قولهم عن العلم:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا(3)
إن النجاح الحقيقي هو النجاح في نقل النجاح للآخرين، وإن الفرح الحقيقي هو الفرح بنقل الفرح للآخرين، يقول الشيخ سيد قطب رحمه الله: "إن الفرح الصافي هو الثمرة الطبيعية لأن نرى أفكارنا وعقائدنا ملكاً للآخرين ونحن بعد أحياء، إن مجرد تصورنا لها أنها ستصبح ـ ولو بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض ـ زاداً للآخرين ورياً، ليكفي لأن تفيض قلوبنا بالرضى والسعادة والاطمئنان!
(التجار) وحدهم هم الذين يحرصون على العلاقات التجارية لبضائعهم؛ كي لا يستغلها الآخرون ويسلبونهم حقهم من الربح، أما المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم، ويؤمنوا بها إلى حد أن ينسبوها لأنفسهم لا إلى أصحابها الأولين!"(4).
إن الذي امتلأ شحاً وأنانية، واحتكر عمره لنفسه، وعاش حياته لذاته، وحجب خيره عن غيره، سيعيش عمراً قصيراً مهما طال، وسيموت حقيراً مهما حاز، يقول الشيخ سيد قطب رحمه الله: "عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرةً ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود! أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الانسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لهذه الأرض!
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهماً، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا، وليست الحياة بعدد السنين، ولكنها بعدد المشاعر، وما يسميه الواقعيون في هذه الحالة وهماً هو في الواقع حقيقة أصح من كل حقائقهم! لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة، جرِّد أي إنسان من الشعور بحياته تجرِّده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي، ومتى أحس الإنسان شعوراً مضاعفاً بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلاً.. يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلي جدال!
إننا نعيش لأنفسنا حياةً مضاعفة حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما يضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية"(5).

طرق التفاعل الإنساني:

يري بعض علماء الاجتماع(6) أن فلسفات التعامل الإنساني يمكن أن تلخص في الآتي:

[1] فلسفة أنا أكسب وأنت تكسب:
وهي فلسفة المنفعة المشتركة المرضية للطرفين في كافة المعاملات، والتي تقوم على نظرةٍ تعاونية ـ وليست تنافسية ـ للحياة، نابعةٍ من عقليةٍ تؤمن أن هناك متسعاً للجميع، وأن نجاح فرد لا يعني بالضرورة فشل الآخرين.
أكثر الناس ينظرون للحياة بحدية: أبيض أو أسود، أكسب أو أخسر، وهذه النظرة خاطئة؛ لأنها تعتمد على القوة والمركز الاجتماعي وعلى المنصب، لكن دائماً هنالك الخيار الثالث الذي توفره فلسفة (أنا أكسب وأنت تكسب)، الخيار الذي يقول ليست طريقتي ولا طريقتك، بل طريقتنا الأفضل.
إن فلسفة (أنا أكسب وأنت تكسب) تجعل الطرفين يقفان في خط واحد، يفكران ويتعاونان ويرتقيان، لذلك فهي تلغي التنافس الذي ينطلق من عقلية الشح، والذي يجعل الطرفين المتعامِلَين متضادين، غير أنها تتيح مجالاً للتنافس الشريف (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، التنافس في نشر الخير، ونفع الناس، وفعل الصالحات، والتقرب إلى الله، فذلك نبع مدرار، لا يغيض ولا ينضب، يأخذ فيه كل فرد بقدره، ويكون كالإخاذ(7)، قال مسروق: "لقد جالست أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجدتهم كالإخاذ (الغدير)، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المئة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله ابن مسعود من ذلك الإخاذ"(8)، وصدق الله العظيم : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها)(9).

[2] أنا أكسب وأنت تخسر:
وهي الفلسفة التي ترى الحياة مضمار سباقٍ كبير يتنافس فيه الناس، وإذا كسبت أنا فأنت لا شك خاسر.
الناس غرقون في هذه الفلسفة، وكثيراً ما نشجع الآخرين علىالتصرف وفق هذه الفلسفة دون أن ندري. إننا عندما نقارن شخصاً بآخر وعندما نقدم حبنا وجهدنا ومساعدتنا على أساس المقارنة؛ فإننا نخلق جواً مناسباً لهذه الفلسفة. كم من الآباء من يُنشّيء أبناءه على هذه الطريقة! ويربي عقولهم على هذه الفلسفة! ويقف موقف المشجع في حلبة صراع ليهنئ الفائز ويتحسر على الخاسر.
إن كل مقارنة لا يحدد فيها وجه المقارنة تعد من قِبل العموميات التي لا يقبلها منصف، ذلك لأن الناس ليسوا أرقاماً ولا كميات حتى نقول إن زيداً أكبر أو أصغر أو حتى مساوٍ لعمرو دون تقييد ذلك بجانب محدد، فكل إنسان متفرد عن الآخرين في جانب من الجوانب، ولا يمكن لأحدٍ أن يحل محل أحد بالتمام والكمال، والفروقات الفردية لا يمكن إلغاؤها بحال.

[3] أنا أخسر وأنت تكسب:
وهي الفلسفة التي تقوم على التضحية، ويسعى فيها أحد الطرفين للخسارة تضحية منه حتى يفوز الآخر، وهى كسابقتها تقوم على أن ما بالعالم لا يسعنا نحن الاثنين فلابد أن أضحي حتى تكسب أنت.
هذه الفلسفة عادة ما تخفي تحتها كثيراً من المشاعر العارمة غير المتوقعة، وربما المتناقضة، والتي تتجمع مع مرِّ الأيام لتنفجر في أبشع صورها.
كثير من الناس ـ خاصة الزوجات والأمهات وبعض المديرين ـ يتأرجحون بين فلسفة (أنا أكسب وأنت تخسر) وفلسفة (أنا أخسر وأنت تكسب)، فعندما يرهقهم الاضطراب وعدم الاستقرار، وتنقصهم القدرة على المواجهة؛ يفكرون بعقلية (أنا أخسر وأنت تكسب)، وعندما يتعبهم الإحباط، ويؤرقهم العجز يدفعهم الغضب إلى عقلية (أنا أكسب وأنت تخسر).

[4] أنا أخسر وأنت تخسر:
وهي الفلسفة التي يغذيها العجز وبغض الآخر وحب الانتقام، إنها فلسفة اليهود حينما كانوا (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين)(10)، فلسفة شمسون حين قال : "علىّ وعلى أعدائي"، وهي النتيجة الطبيعية لفشل فلسفة (أنا أكسب وأنت تخسر)، فتتحول عند استحالة الكسب إلى العمل على خسارة الجميع.

[5] أنا أكسب:
وهي الفلسفة الأكثر شيوعاً، فالمهم هو أن أكسب أنا، أما أنت فلا يهمني ما يحدث لك: تكسب أو تخسر، عليك أن تتدبر أمرك، وهذه الفلسفة أقل أنانية من فلسفة أنا أكسب وأنت تخسر. وقد تبدو لأول وهلة أنها فاعلة مُبلِغَة، لكنها تؤدي إلى فشل أكيد مع مرور الوقت.

أي الفلسفات أفضل؟

لا شك أن الفلسفة القائمة على المنفعة المتبادلة للطرفين هي الأفضل؛ لأنها تحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم الوارد في الصحيحين: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، ولأنها تنطلق من عقلية تؤمن بسعة الكون وتجدد موارده، ولأنها تقوم على نظرة تعاونية ـ وليست تنافسية ـ للحياة. ولأنها لا تصدر إلا من شخص: نبيل النفس، حر الخلال، محمود الشمائل، أريحي الطباع، ينطق الإيمان من محاسن خِلاله، ويتمثل الكرم في منطِقه وأفعاله، فلنسع إلى إيجاده بيننا، ولنسع إلى منفعة الأخرين، مثل سعينا لنفع أنفسنا أو أكثر، ولنردد: "معاً نرتقي".

----------
(1) الخصائص الكبرى، ج: 1، ص: 192.
(2) سنن الترمذي، ج6، ص: 591، وتهذيب الكمال، ج: 8، ص: 354.
(3) انظر وصية أبي اسحاق الإلبيري لابنه أبي بكر يحضه على طلب العلم في ديوان الإلبيري.
(4) أفراح الروح للشيخ سيد قطب رحمه الله، ص: 7-8.
(5) أفراح الروح للشيخ سيد قطب رحمه الله، ص: 4.
(6) انظر كتاب The seven Habits of highly effective people لمؤلفه س. ر. كوفي.
(7) الإخاذ والإخاذة: الغدير.
(8) المدخل إلى السنن الكبرى، ص: 16، نقلاً عن تفسير الصحابة للقرآن، مساعد بن سليمان الطيار، مجلة البيان، العدد: 98، ص: 20.
(9) سورة الرعد: 17.
(10) سورة الحشر: 2.

 

نزارمحمدعثمان
  • البحوث
  • المقالات
  • الردود الصحفية
  • قصائد وأشعار
  • في الأدب الإسلامي
  • برامج إذاعية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية