اطبع هذه الصفحة


مرايا محدبة
دفاعا عن العاطفة

نزار محمد عثمان


منذ عهد غير قريب ظهرت في العالم الإسلامي ـ تأثراً بالنهضة العلمية المادية في الغرب ـ آراء تعظِّم العقل وتستهجن العاطفة، وكأنهما طرفا نقيض يمنع وجود أحدهما الآخرَ، وقد وقف وراء هذه الآراء أفراد وجماعات أرادوا للأمة أن تكون كتلة ذهنية مجردة تتفاعل مع معطيات الواقع بميزان الربح والخسارة المادي.. بعيداً عن العواطف التي يرون أنها أسهمت في تخلف الأمة وتأخرها، فوصفوا تفاعل الشارع الإسلامي مع رفض الاحتلال الأجنبي والدعوة لمقاومته، أو الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم، والدعوة لردع المسيئين أو نحوه بالفعل العاطفي الذي لا يفيد، والأجدى منه التعقل وإقامة معاهد الدراسات والبحوث التي تضع الاستراتيجيات التي يمكن تبنيها حتى تقوى الأمة وتسترد عافيتها وتحمي مقدساتها!! ولست ضد أقامة مراكز البحث غير أني ضد هذه الدعوة الجامدة التي تريد أن تجرد الأمة من عاطفتها لأمور عديدة من أهمها :

أولاً: أنها تعمل على تحريف الفهم الصحيح للدين، والذي يعلي من قيمة العاطفة وعمل القلب ويُرتِّب عليهما من الثواب مالا يرتب على أعمال الجوارح.. بل لا سبيل إلى تذوق طعم الإيمان إلا بهذه العاطفة (ثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) فالحب والخوف والخشوع والرجاء والفرح ونحوه كله من صميم هذا الدين.

ثانياً: هذه الدعوة العقلانية قد تنجح في تكوين شباب مثقف نشط لكن علاقته مع ربه ستكون ضيقة محدودة جافة جامدة رسمية فارغة من الكيفيات الداخلية التي يجب على المؤمن أن يتكيف بها… فمن الطبيعي ومما يتفق والعقل والمنطق والقياس ـ في هذه الحال ـ أن يحيد ركب السعي والعمل عن جادة الإيمان بالغيب والحنين إلى الآخرة، والشوق إلى الشهادة، وطلب رضا الله والتفاني في حبه، تلك الجادة التي وضعه عليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى طلب الحكم والعز والغلبة والوصول إلى الحكم، وبالتالي المادية المجردة.

ثالثاً: العاطفة الصادقة هي شأن العارفين، يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: "لم يزل العارفون المحققون والعلماء الراسخون في كل دَوْر من أدوار التاريخ الإسلامي ينتصرون للحب والعاطفة ويثيرونهما، ويديلون من غلو العقل والمنطق والخضوع الزائد للمقدمات والمصطلحات، وجفاف القلب والروح، ويعيدون الحياة والنشاط والحماس والتفاني واللذة والنشوة إلى هذه الأمة التي تصبح في فترة من فترات التاريخ فريسة المادية الرعناء والتطرف العقلي والجمود العاطفي"

رابعاً: الحب الصادق والعاطفة الجياشة هما سبيل المصلحين والفاتحين على مر العصور والأزمان.. إنها قاعدة لا تتخلف أبداً.. يشهد لها التاريخ.. وتؤيدها السير.
لقد كان من رقة صلاح الدين الأيوبي وجيشان عاطفته أن قال عنه أبو شامة: "وكان ـ رحمة الله ـ خاشع القلب، رقيق الدمعة إذا سمع القرآن العزيز يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته" ولم يكن وحده كذلك ؛ انظر في تاريخ وسير كل من قاد الأمة لانتصار تجده من أهل الحب والعاطفة والعبادة والزهادة.

خامساً: إن العاطفة التي نريد مبصرة وليست عمياء، والقلب الذي نعرف يدرك و يعقل.. (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) ،والقلوب العاقلة.. التي عشقت العبادة.. وجربت الخلوة.. وعرفت المناجاة.. وذاقت حلاوة الإيمان.. وفاضت عاطفتها على الأكوان.. تنفذ بفكر صاحبها إلى ما وراء العالم المادي الطاغي في دنيا الناس اليوم وتصل إلى ما لاتصل إليه العقول المستنيرة ومعاهد الدراسات المترجمة.


 

نزارمحمدعثمان
  • البحوث
  • المقالات
  • الردود الصحفية
  • قصائد وأشعار
  • في الأدب الإسلامي
  • برامج إذاعية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية