اطبع هذه الصفحة


تحية العلم

د. سعد بن مطر العتيبي

 
السؤال  :
هل تحية العلم محرمة؟أرجو التفصيل.

الجواب  :
حكم تحية العلم فإنَّ ما يعرف بـ ( تحية العلم ) أحد التقاليد المشتهرة، وهو عمل يكون على هيئة معينة ، ويقصد منه التعظيم والإجلال والاحترام ، بوصفه شعاراً للدولة ورمزاً لعزتها وقوتها ، كما هو واضح في شروح التقاليد العسكرية والكشفية ؛ وتعظيم العلم وإجلاله تعظيم لغير الله _عز وجل_ وتعظيم لما لم يشرع الله تعظيمه ، والتعظيم عبادة تحتاج إلى دليل ولا دليل عليها من الشرع بل هي على خلاف الدليل ؛ وعليه فهي غير مشروعة ، ومما هو متقرر في قواعد الشرع أنَّ الأصل في العبادات التوقيف ، أي أنه يوقف في فعلها عند الحد الشرعي ، فإن وجد لها دليل شرعي يشرعها فهي مشروعة ، وإلا فتبقى على أصل التحريم ومنع الإحداث في الدين ؛ لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ " .
والتعظيم والإجلال في حقيقته عمل من أعمال القلوب ، وقد يظهر في عمل من أعمال الجوارح ، والقاعدة في ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يقوم بعمل يقصد منه التعظيم إلا بشرطين :
الأول : أن يكون التعظيم لله _عز وجل_ ، أو لما أمر الله _سبحانه وتعالى_ بتعظيمه ؛ كما في قول الله _عز وجل_ : "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ"(الحج30) ، وقوله _جل شأنه_ : "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ"(الحج32).
الثاني : أن يكون هذا العمل قد ورد به الشرع دليلاً وكيفية ؛ للحديث السابق .
وتشتد الحرمة ويغلّظ في المنع إن تضمنت التحية نوعاً من الانحناء.
ومن يتأمل طريقة السلام الشرعية ، وما جاء الشرع بمنعه من طرائق السلام الأخرى ، يجد أنَّ الشرع منع من كلِّ هيئة سلامٍ تتضمن نوعاً من التعظيم ؛ فقد نهينا عن الانحناء لبعضنا عند السلام ؛ كما في حديث أنس _رضي الله عنه_ ، قال : قال رجل : يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له ؟ قال : لا ، قال : أفيلتزمه ويقبله ؟ قال : لا ، قال : أفيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال : نعم . رواه الترمذي . وكذلك نهينا عن السلام بصمت مع إمكان النطق بعبارة السلام المشروعة ، كما في حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال : " ليس منا من تشبه بغيرنا ، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى ؛ فإنَّ تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف " رواه الترمذي ؛ وقد نصَّ بعض أهل العلم على بدعية التحية بالإشارة الخالية من لفظ السلام المشروع .. فكيف إذا كانت تحية العلم من أساسها تشبهاً باليهود والنصارى ؟ بل استحب بعض أهل العلم أن يجعل المصلّي وسط السترة من عمود أو اسطوانة أو نحوها إلى يمينه قليلاً أو إلى شماله ، فيكون على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمداً ، مع ما هو معلوم من مشروعيتها ؛ فكيف بمن يعمد ويصمد إلى العلم وعموده ويقف أمامه على هيئة معينة ؟!
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية ؛ فأجابت بأنها لا تجوز؛ لأنَّها من البدع المحدثة ؛ وهذا نصها :
" س : ما حكم تحية العلم في الجيش ، وتعظيم الضباط وحلق اللحية فيه ؟
ج : لا تجوز تحية العلم ، بل هي بدعة محدثة ، وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ " رواه البخاري ومسلم ؛ وأمَّا تعظيم الضباط باحترامهم وإنزالهم منازلهم فجائز ، أما الغلو في ذلك فممنوع سواء كانوا ضباطاً أم غير ضباط .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
(فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء :1/150 . و ينظر : 12/22) .
وقد بيَّن الشيخ صالح الفوزان - أجزل الله مثوبته – حكمَ تحية العلم، ووجهَ المنع في فتوى اللجنة الدائمة ، وذلك في ردِّه على بعض الكتّاب ، بقوله: " وأما تحية العلم، فالتحية تأتي بمعنى التعظيم ولا تكون تحية التعظيم إلا لله كما نقول في تشهدنا في الصلوات: (التحيات لله) أي : جميع التعظيمات لله _سبحانه_ ملكاً واستحقاقاً فهي تحية تعظيم وليست تحية سلام ، فالله يُحَيَّا ولا يسلم عليه ، وتأتي التحية بمعنى السلام الذي ليس فيه تعظيم وهذه مشروعة بين المسلمين ، قال _تعالى_: "فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً(61)" سورة النور. وقال _تعالى_: "وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا(86)" سورة النساء . وقال _تعالى_ عن أهل الجنة: "تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ". وقال _تعالى_: "تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ". وقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم ". فالسلام إنما يكون بين المسلمين ولا يكون السلام على الجمادات والخرق ونحوها لأنه دعاء بالسلامة من الآفات، أو هو اسم من أسماء الله يدعو به المسلم لأخيه المسلم عليه ليناله من خيراته وبركاته. والمراد بتحية العلم الآن الوقوف إجلالاً وتعظيماً له ، وهذا هو الذي أفتت اللجنة الدائمة بتحريمه لأنه وقوف تعظيم، فإن قيل إن في تحية العلم احتراماً لشعار الحكومة . فنقول: نحن نحترم الحكومة بما شرعه الله من السمع والطاعة بالمعروف والدعاء لهم بالتوفيق ، واللجنة حينما تبين هذا للمسلمين إنما تبين حكماً شرعياً يجب علينا جميعاً حكومة وشعباً امتثاله، وحكومتنا -حفظها الله وبارك فيها- هي أول من يمتثل ذلك " .
وبهذا يُعلم أنَّ في إثارة هذا الموضوع ما قد يدخل في التنقيب عن الفتن وإيقاظها ، كما أنَّ فيه خروجاً على ما جرت عليه الفتوى العامَّة الرسمية التي يسندها الدليل الشرعي ؛ وهما محذوران يناقضـان مقاصد الشرع ، وطريقة أهـل العلم الراسخين ، الذين أحال الله عز وجل إليهم في بيان الشرع مع مراعاة كبت الفتن .
ومما ينبغي التنبه له أن تحية العلم معمول بها في النشاطات الكشفية التي يتولاها في الغالب مربون أفاضل ؛ فعلى القائمين عليها أن يتقوا الله _عز وجل_ ، ويدعوها ؛ ولن نعدم وسائل مشروعة تؤكِّد على أهمية الولاء للأمة وأوطانها ؛ ومنها العناية بالنصوص الشرعية التي توجب طاعة الأمير بالمعروف حتى أمير الثلاثة في السفر سواء كان ذلك في طريقة معتادة ، أو مبتكرة لا محظور فيها ؛ وهي مشروحة في التفاسير وشروح السنة وكتب الفقه ومفصلة في كتب السياسة والآداب الشرعية .
وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
هذا والله تعالى أعلم .

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية