اطبع هذه الصفحة


توضيح بشأن العضوية في لجنة مراجعة النص التاريخي لمسلسل الفاروق عمر رضي الله عنه

د. سعد بن مطر العتيبي


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أمَّا بعد

فقد سألني غير واحد من الإخوة والأخوات الأفاضل في (تويتر) وغيره، سؤلاً ينم عن غيرة ونصح وحب للحق أو سؤال استفسار: كيف تشارك في مراجعة النص التاريخي لمسلسل الفاروق (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) ، مع العلم بأنَّ النصّ التاريخي سوف يُنفَّذ ؟


والجواب :
يبدأ من جملة مهمّة جاءت في السؤال ، وهي : "مع العلم بأنَّ النصّ التاريخي سوف ينفّذ" . ذلك أنَّه لو كان محلّ ظنّ أو مجرد احتمال، لما شاركت في مراجعة النصّ . وتوضيح ذلك في النقاط التالية :

أولاً :
لست مفتياً، ولم أتصدّر للفتوى العامّة أصلاً، وإن كنت قد أجيب على بعض ما يقصدني به بعض المحبين من أسئلة . ومن هنا فلم يصدر مني –شخصياً- أي فتوى تجيز تجسيد الصحابة رضوان الله عليهم؛ بل لا أرى ذلك . مع علمي بالخلاف في مسألة (الدراما التاريخية الجادة)، وأنَّها ليست محلّ اتفاقٍ على المنع، كما يصوّر بعض الإخوة هداهم الله، في إخلال ظاهر بالأمانة العلمية، مما تسبب في تأثيم بعضِ من تجاوزوا أدب الخلاف عند السلف، لمن يرون القول بالجواز بقيود شرعية . وإن كان أكثر الفقهاء على منعها، إمَّا منعاً لأصل التمثيل، أو منعاً لتمثيل الصحابة دون غيرهم، أو لعدم إمكان تحقق شروط الجواز عندهم .

ثانياً :
أنَّ عملي في اللجنة : عمل نقدي وتقويمي لكتابة النصّ التاريخي، كبقية المشايخ والأساتذة الكرام في اللجنة؛ وإنَّما رأيت الموافقة على المشاركة، بعد عرضها عليّ شخصياً، وبعد الاستخارة والاستشارة؛ إذ إنَّها فرصة أُتيحت للتصحيح والإصلاح عن قرب؛ مما يساهم في تنقيح النص التاريخي، حتى لا تشوه الحقائق، ولا تُدخل الدسائس في عمل قد تقرّر القيام به على مستوى عالمي، يخاطب العرب والعجم، المسلم والكافر؛ مما يعني تضمنه رسالة إيجابية ظاهرة لمن يعرف أهمية الدراما على المستوى العالمي.

ولذلك:
اقترح أعضاء اللجنة عدداً من الكتب الأصيلة، التي تبرز الصورة الصحيحة لحياة الصحابة رضوان الله عليهم وحياة الفاروق بخاصّة، ولا سيما في مجال إقامة العدل الإسلامي وإعمال السياسة الشرعية خاصّة؛ وفي هذا العمل من اللجنة قطع للطريق على أي معلومات تُستقى من مصادر مشبوهة أو مغلوطة، وما أكثرها . وقد وفّر القائمون على العمل تلك المصادر والمراجع للكاتب، وقد عاد الكاتب إليها فيما كتب وما لم يكن قد كتب ، وأفاد منها، وصحح كثيراً من المعلومات من خلالها .

ثالثاً :
تم التحفّظ من كلٍّ منَّا على ما لا يرى مشروعيته، وإن لم يكن من عمل اللجنة، وبيّن ذلك في حينه، في جوّ علمي دعوي احتسابي أخوي ، دون مجاملة لأحدٍ ؛ سعياً في تقليل المفاسد ما أمكن؛ وقد بينت تحفظي على عدد من الأمور، استبعد بعضها بحمد الله، وأُبقِي بعضها بناء على آراء من يرون الجواز من الفقهاء؛ ولا زلت متواصلاً مع القائمين على العمل في كلّ ملحوظة تصل إليّ، وتبيّ لي أنَّ بعضها غير دقيق .

رابعاً :
بحكم عضويتي في اللجنة، أدركت صحة وجهة نظري في أهمية وجود لجنة تصحيح وتنقيح، وأهمية المشاركة فيها، ولا سيما بعد أن حالت اللجنة دون إدخال كثيرٍ من الروايات والتصورات والمفاهيم الخاطئة؛ فقلَّلت بذلك المفاسد المتوقعة في عملٍ درامي تيقنت اللجنة أنّه سينفّذ؛ وسيدبلج ويترجم للغات العالمية .

خامساً :
ثمة نقاط مهمّة تتعلق بالتأصيل العلمي، ينبغي ملاحظتها قبل الحكم على الأمور، واتهام من يريدون الإصلاح ما استطاعوا :

1)
أنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره ؛ ليمكن تكييفه ثم بيان حكمه ، ثم اتخاذ الموقف الأصلح فقهاً بشأنه .

ولا سيما أنَّ تصور كثير من الشرعيين في هذا النوع من القضايا يغلب عليه التصور العام، لا التصور التفصيلي الذي يمكن بناء الحكم عليه . وهذه إشكالية قد تعيق الفهم، بل كثيراً ما تحول دون التفهّم . ولا سيما ضرورة التفريق بين (الدراما التاريخية الجادة) التي أجاز تمثيل الصحابة فيها بعض أهل العلم؛ وبين (التمثيل الكوميدي الساخر) المتفق على حرمة تمثيل الصحابة فيه بين الجميع؛ وأثر ذلك عالمياً .

2)
أنَّ الحكم النظري المجرد، يختلف عن الحكم التطبيقي لواقعة بعينها، لكون الوقائع لا تكون مجرّدة في العادة؛ وإنَّما تصحبها ظروف وتحتفّ بها ملابسات ، تجعل الحكم فيها حكم واقعة معينة، ومن ثم لا يجوز تعميم الموقف منها على غيرها؛ فضلاً عن تقويل الناظر فيها، ما لم يقله .

3)
أنَّ فقه الاحتساب على المخالفات في الأعمال الفردية، أيسر من فقه الاحتساب على المخالفات في الأعمال المؤسسية، سواء كانت رسمية أو غير رسمية.

4)
أنَّ سعة دائرة العمل، تؤثر في الحكم ، فمقاطعة المنكر المحدود بمكان معين قد تفيد في محاصرته . بخلاف العمل الذي يعم العالم بأهم لغاته، وينظر إليه الآخرون عملاً جاداً، دون الإيحاءات التي تصنعها ثقافة بعض المجتمعات الإسلامية .

5)
ينبغي التفريق بين تجسيد الشخصية، الذي يقتضي وجود شخص يقوم بأعمالها وأقوالها؛ وبين تمثيل الشخصية الذي من الممكن أن يقع دون تجسيد، في مثل ما يعرف بتدخل الراوي، الذي يتحدث بأقوال الشخصية في موضع حديثها من المشهد، دون أن تكون هذه الشخصية مجسّدة؛ وهو خيار كان مطروحا أمام المنتجين . وبه يتضح الفرق بين المراجعة التاريخية، وبين تنفيذ العمل .

وقد كنت كتبت قبل عامين قبل مشاركتي في اللجنة وبعده مقالاً حول الدراما، وكتبت قبل أكثر من عام أكثر من جواب خاص لأسئلة وردت حينها من بعض الإخوة والأخوات ؛ غير أنَّي اكتفيت هنا بهذه النقاط التي أراها كافية في بيان ما يتطلب البيان .

والخلاصة :
أنَّ المشاركة في اللجنة مبنيّة على قاعدة من قواعد السياسة الشرعية، وهي قاعدة : الموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين المفاسد ذاتها؛ إذ كانت الغاية : أن يخرج العمل -إذا خرج كما كان متوقعاً- بدون أخطاء تاريخية، تشوّه سيرة الفاروق والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، أو تنتقص منه بوجه خاصّ، وبقية الصحابة بوجه عامّ ، ما أمكن ذلك.

وأخيراً :
إذا اتضح ما سبق ؛ فتبقى المشاركة في المراجعة التاريخية عملاً اجتهدت فيه قبل ما يقارب العامين، من خلال موازنة فقهية، اقتنعت بها بعد الاستخارة والاستشارة؛ فإن أصبت فهذا ما أرجوه، وأسأل الله أن لا يحرمني أجر ذلك ؛ وإن أخطأت فأستغفر الله وأتوب إليه مما لا يرضيه، وأسأله أن لا يحرمني الأجر بمنه وفضله وكرمه .

وصل اللهم وسلّم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه ..
 

سعد بن مطر العتيبي
الرياض / شعبان/ 1433هـ
 


 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية