اطبع هذه الصفحة


ما مدى دستورية قرار وزارة العمل بشأن عمل المرأة ؟

د. سعد بن مطر العتيبي

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد ..

ففي الأيام القريبة الماضية كثر الحديث حول قرار توظيف النساء في محلات بيع الملابس النسائية ، الذي يقضي بقصر العمل في محال بيع المستلزمات النسائية الخاصة على المرأة السعودية . وكثرة الحديث أتت - فيما يظهر - لأسباب في صياغة القرار وإجراءات تطبيقه ، لعلّ أهمها توظيف النساء داخل إطار تسوق مختلط يوجد فيه البائعون والبائعات ، والمتسوقون والمتسوقات ، مع عدم قناعة كثيرين بالاحتياطات اللازمة لمثل هذا القرار في بلد إسلامي ، ومجتمع محافظ .

وقد تحدَّث عنه كثيرون ، في الصحافة وعلى صفحات المنتديات العنكبوتية ، بخلفيات ورؤى متنوعة ، كما تحدّث عنه - من قبل ومن بعد - الناسُ في المجالس ، ولا يزال الجَمْعُ يتحدَّث عنه ، ما بين طرح مقبول ، وتعليل معقول ، وصياغة حسنة ، وأخرى لم يُنزِل أصحابها الناسَ منازلهم ، فوجد لين في القول ، كما وجدت غلظة في اللفظ .. وكثير مما ذكرت من الاعتراض أو التأييد ، ليس بمستغرب الوقوع ، وإن كان غريب الكم .

غير أنَّ ما لفت انتباهي كثيراً ، أنَّ هذا القرار عارضه بشكل أو بآخر ، شخصيات لها وزنها العلمي والشرعي والرسمي ، فقد كان على رأس من عارضه - على نحو ما - عدد من قياداتِ أكبر المؤسسات الشرعية في المملكة العربية السعودية ، من أصرحهم عبارة سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية ، ورئيس هيئة كبار العلماء ، التي جاء في قرار الوزارة المذكور ، ما يخالف بعض قراراتها ، وكذا جمع من علماء الشريعة - التي يقوم عليها القضاء في المملكة العربية السعودية - وقد وقفوا من هذا القرار : ما بين محذِّر يتحفَّظ على تطبيقه على نحو ما قُرِّر ، ويطالب بتنفيذه بعد تخصيص أسواق نسائية مستقلَّة أو أقسام نسائية منفصلة ، وآخر يحاول كشف بعض آثاره غير المحمودة ، ويرى العدول عنه ، لما وراءه من مفاسد رأى أنها لا تخفى ، وذكر عدداً من مسوغات قوله ، وضم إلى ذلك ما احتف به من قرارات ، ودعوات إعلامية تزيد الريبة في تحقيقه لأهدافه المشروعة ، وتجعله محلّ نظر ، في تحقيق العفة والحشمة لبنات المسلمين .

ومن المقرَّر في أصول القوانين والأنظمة ، أنَّ النظام الأدنى (في أي صورة كان) لا يجوز ولا يصح أن يخالف النظام الأعلى الذي هو (النظام الأساسي للحكم) ، والنظام الأعلى كما هو معلوم ، مقيد بموافقة الكتاب (القرآن الكريم) والسنة (الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم) ، إذ جاء في مادتـه السابعة ما نصّه :
" يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله . وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة " ؛

فهي صريحة في أن ما خالف الكتاب والسنة فهو مستبعد حتى على فرض صدور نظام به ؟ كما نجد أن السياسة التي تدار بها الأمة ومصالحها في وطننا ، هي السياسة الشرعية ؛ ومرجع التحقق من وصف الشرعية في بلدنا إنما هي فتاوى علماء الشريعة المعتبرين فيه ، الذين هم أهل الذكر في نص الكتاب العزيز ؛ وهو ما جاء واضحاً في (المادة الخامسة والأربعون) من النظام الأساسي للحكم :
"مصدر الإفتاء في المملكة العربية السعودية .. كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم" ؛

كما جاء نص (المادة الخامسة والخمسون) من هذا النظام في غاية الصراحة والوضوح ؛ إذ تلزم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية ؛ وهذا نصها :
"يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية طبقا لأحكام الإسلام ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية والأنظمة والسياسة العامة للدولة وحماية البلاد والدفاع عنها" .

وهذا من الثوابت التي لا تقبل المزايدة ، كما يؤكِّد ولاة أمرنا ، وتصريحات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - وفقه الله وسدّد على طريق الخير خطاه - تؤكِّد حرصه على تطبيق الشريعة الإسلامية المتلقاة من كتب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونص كلمته في خطابه للأمة حين مبايعة الأمة له ، في غاية الوضوح والتأكيد .

ومن هنا لا يشك أي قانوني منصف - يعرف النظام الأساسي للمملكة العربية السعودية - أنَّ قرار وزارة العمل المشار إليه ، يكون محلّ نظر من الناحية الدستورية ؛ وإذا ما ثبت عدم دستورية قرار وزارى العمل المذكور ، فلا شك أنَّه يكون باطلاً ، وإذا ثبت بطلانه ، فإنَّه لا يصح تنفيذه ، ولا يترتب على مخالفته أي أثر قانوني تجاه من يخالفه ، بل يمكن المطالبة بالتعويض في حال تقدم متضررين منه بذلك ، أمام ديوان المظالم .

وهنا أجدني أكرِّر دعوات سابقة ، بالسعي الحثيث في تشكيل محكمة شرعية دستورية ، أو منح المحكمة العليا - التي ورد ذكرها في التعديل الجديد للجهاز القضائي - اختصاصات المحاكم الدستورية ؛ للبت في مثل هذه القضايا التي تثير الكثير من الجدل ، ويظهر بسببها كثير من اللغط .

هذا ما رأيت إيضاحه على نحو موجز بهذا الشأن ، في محاولة لإيجاد سبل نظامية ، لحلِّ مثل هذه الإشكالات التي تكون محلّ شكٍّ في عواقبها على حال ومآل مجتمعنا الإسلامي المحافظ ، الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ، وبالقرآن الكريم والسنة النبوية حكما . نسأل الله عز وجل أن يوفق ولاة أمرنا لما فيه خير العباد والبلاد ، وأن يعينهم على ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين ، بمنه وفضله وإحسانه . إنَّه وليّ ذلك والقادر عليه .

والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية