اطبع هذه الصفحة


نماذج من الرقابة الدستورية في صدر الإسلام (2/1)
الجمعة 26/04/2013

د. سعد بن مطر العتيبي


بسم الله الرحمن الرحيم


 في مقال سابق أُشير إلى شيء من تاريخ الرقابة الدستورية، وإلى وجود هذا النوع من الرقابة منذ العصر الإسلامي الأول، كما أُشير إلى تاريخ نشأته في القانون الغربي المعاصر..

وقد ذكر عدد من فقهاء الدستور الإسلامي المعاصرين جملةً من الأمثلة التي تُعد شواهد لتفعيل الرقابة الدستورية في الدولة الإسلامية منذ عصرها الأول..


ومن أهم تلك الأمثلة من الناحية التشريعية : ما جرى من ذلك في عصر الخلافة الراشدة،
بغض النظر عن صحة الاعتراض الدستوري من عدمها .. ويمثّل له باعتراض الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قرار أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إعلان الحرب على الممتنعين عن أداء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إثر توليه الخلافة .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

(قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ؛ فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله" ؟

فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة، حق المال، والله لو منعوني عناقاً، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.
فقال عمر بن الخطاب: فو الله ما هو إلا أن رأيتُ أنّ الله عزّ وجلّ قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنَّه الحق) . رواه البخاري ومسلم واللفظ له .


وقد بيّن الشاطبي -رحمه الله- في تعليقه على هذه القصّة شيئاً من فقه الدفع الدستوري الذي بيّنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه جواباً على شبهة عدم الدستورية
التي ظنّها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بداية الأمر، وكذا من اشتبه عليهم هذا الأمر مثله حينها، كما بيّن الشاطبي أثر هذا الدفع في رجوع المعترضين إلى الشرعية الدستورية الحقيقية التي تجلّت في التفسير الصحيح للنصّ؛ فقد قال رحمه الله : "ولما أراد أبو بكر -رضى الله عنه- قتال مانعي الزكاة احتجوا عليه بالحديث المشهور؛ فرد عليهم ما استدلوا به بعين ما استدلوا به، وذلك قوله: "إلا بحقها"، فقال: (الزكاة حق المال) - ثم قال: (والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه) . فتأمّلوا هذا المعنى ... لم يجعل لأحد سبيلا إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجرى في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان بتأويل؛ لأنَّ من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلا.. وفي هذا القسم وقع النزاع بين الصحابة، لا فيمن ارتد رأسا.. ولكن أبا بكر لم يَعذر بالتأويل والجهل، ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال: (والله لو منعوني عقالا) إلى آخره .. مع أنَّ الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحي ظاهر، تعضده مسائلُ شرعية وقواعدُ أصولية، لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهراً، فلم تقو عنده آراء الرجال أن تعارض الدليلَ الظاهر، فالتزمه؛ ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديما للحاكم الحق وهو الشرع ".

وقد نبّه أهل العلم في فقه هذه القصة إلى مسألة مهمّة، يحسن ذكرها، دفعاً لما قد يوجد من لبس، ولما فيها من أثر فقه الواقع في تنزيل الأحكام الشرعية عليه
، ومن ذلك قول الخطابي ونقله عنه النووي رحمهما الله : " فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان [القرن الرابع الهجري] كان كافراً بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك [من قاتلهم الصديق رضي الله عنه لذلك] أنّهم إنما عُذِروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها : قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ [قبل انقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم]، ومنها: أنَّ القوم [الذين قُوتِلوا لإنكارهم الزكاة]كانوا جهّالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريبا فدخلتهم الشبهة فعُذروا [في عدم تكفيرهم حينها وإن قُوتِلوا لامتناعهم] ؛ فأمَّا اليوم [يعني: القرن الرابع الهجري] وقد شاع دين الإسلام واستفاض في المسلمين عُلم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوّله في إنكارها؛ وكذلك الأمر في كلّ من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمّة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام [المعلومة من دين الإسلام بالضرورة] ؛ إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده؛ فإنَّه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر، وكان سبيلُه سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه؛ فأمَّا ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصّة ... فإنَّ من أنكرها لا يكفر، بل يُعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامّة" ، ومثل لذلك بأمثلة منها : منع القاتل عمدا من الإرث، وأن للجدة السدس ..

وإلى الحلقة التالية من هذا الموضوع في مقالة قادمة إن شاء الله تعالى ..

[...] ما بين المعقوفين توضيح من الكاتب ..

المصدر :


نماذج من الرقابة الدستورية في صدر الإسلام (2/2)

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية