اطبع هذه الصفحة


التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا

د. سعد بن مطر العتيبي

 
(1/3)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله أما بعد :

فقبل بضع سنوات ، تفتقت عبقرية ! الحاخام اليهودي الكبير / موشيه فيشر رئيس مدرسة هيكل التوارة في القدس وقاضي محكمة الحاخامية عن فتوى ! عنونتها صحيفة معاريف بـ : "الخنازير لحماية الباصات" ! وافق على إصدارها هذا الحاخام ، وهي فتوى يسمح خلالها لليهود باستخدام أكياس نايلون مليئة بدهن الخنزير يجري ، تعليقها في الحافلات والمتاجر والقاعات ، وذلك لردع أي استشهادي من الوصول للجنة !! . وقال هذا الحاخام : "إنَّ الله لن يسمح لهؤلاء الاستشهاديين بدخول باب الجنة ؛ لأنهم تدنَّسوا بدهن الخنزير" !!

هذه الفتوى الساذجة - وإن أردت دِقّة في التعبير فقُل : الاقتراح السخيف ! - لأحد كبار الحاخامات اليهود من ذوي المناصب الكبيرة في الكيان الصهيوني ! ، عرضت على عدد من الفلسطينيين ، فعلّق عليها أحدهم بقوله بعد ضحك كاد أن لا يتوقف : "إنَّ كل خنازير الأرض لن تنجي الصهاينة من غضبنا" .. وعلّق عليها مجاهد فلسطيني آخر بعد شروعه في الضحك ، إثر طرح أحد المراسلين للسؤال عليه حول رأيه فيها : "إسمع ، حتى لو وضع اليهود جلد شارون في الباصات ، فإنَّ هذا لن يردعنا عن مواصلة نضالنا" !!

تذكرت هذا الطرح الحاخامي الساذج اليائس ، بعد أن بدأتُ في استعراض بعض المقالات المستميتة في إيقاف مسيرة الصحوة الإسلامية التي يقودها علماء الأمة وقادتها المسلمون ، والتي تعاضد في تنميتها ، ولاة أمرنا من الأمراء والعلماء المخلصين ، على بصيرة من نور الوحي الذي أبى الله عز وجل إلا أن يتمه ولو كره من كره ! وكفى تأكيدا لذلك النص على ضمان المسيرة الإسلامية في حكم الكتاب والسنة في (النظام الأساسي للحكم) ، ثم في معاهدة خادم الحرمين الشريفين اللهَ عزّ وجل على أن يجعل القرآن الكريم دستوره .. وفي ضوء هذا التقدم الذي لن يقهر إن شاء الله تعالى ، أحببت أن أقدم بالمقترح الصهيوني البليد ؛ لما فيه من دلالات لا تخفى على ذي لبّ ، سنرى منها - إن شاء الله تعالى - في حلقات هذا المقال ما يُبكِي الفَرِح ويضحِك الحزين !

1) فإنَّ مما بليت به أمتنا في هذا العصر إشغالها بعدد من المُصَدَّرين أو المتصدِّرين للإعلام بصفة ظاهرة مستمرّة ، وإشغالها بتقلّبات بعض المنتسبين للعلم واضطرابات بعض المنسوبين له إعلاميا في أحايين منتقاة أو عفوية ، أو على ما جرت به الرياح وإن لم تشته السفن ! واللهم {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} .. ولقد كنت - كغيري من طلبة العلم - أتابع بعض ما يلفت الانتباه من المقالات ، والطرح الإعلامي المضمَّن نصوصاً شرعية ونقولاً إسلامية ! يريبك فيه - أوّل ما يريبك - أنَّه طرح حاسر الرأس ، صادر من غير مختص ! بل هو صادر من عوامّ في عرف علماء الأصول ؛ وتجد فيها ما يزيدك ريبة في دراية كاتبها أو طارحها بما يطرح ، وتزداد ريبة فوق الريبة حين تجد الكاتب قد وضع على رأسه عمامة العالِم ، وحاول أن يضع فوقها قبعة الإفرنجي ! فتحدّث في مسائل أكبر مما تحتهما ، ومهما حاول القوم الخداع فلحن القول يُعرِّفهم للعالمين ، بل حتى لو حاول بعضهم الظهور الإعلامي بلحية إرشيفية أو نحوها !

وما عليك للتأكّد ، إلا أن تقرأ لأحدهم تعالماً ، ثم تشاهد له حوارا مباشراً ، وحينها ستردد : (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) . كنت أتابع ذلك ، وربما كتبت مقالا حين لا يسع الصبر على حجم الاستغفال ، وخطورة المآل .. ولكن السير مستمرٌّ في ذات الاتجاه على نحو مريبٍ ، وقد كفانا مؤنة الحديث عن خطورته أبو عبد الله ، فضيلة الشيخ /د. سعد البريك - حفظه الله - في مقولاته ومقالاته .. والحقّ أنَّ هذه المسيرة التنظيرية الحثيثة المتناغمة من جمعٍ غير مختصٍ ، تدعو للتوقّف والتأمّل !!

2) وبعد استعادةٍ لبعض المقالات من بداياتها ، والنظر فيها بعد وضعها في سلّة واحدة ، وجدت أمامي عملية يمكن وصفها بمحاولة تسلل مشبوهة - ومكشوفة أحياناً - إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا !! في سبيل الانتقال إلى المرحلة التي وصفها الله عز وجل بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} . تلك المرحلة التي لا زالت محاولاتها الفاشلة تتالى بين رسالة نابليون بونابرت وتفاعلات تقرير راند 22م ؛ وقد تحدثت عن شيء من ذلك في مقال نشر في موقع القلم ، بعنوان : (مسلسل الخَوَر اللعين : ومحالة النيل من الدِّين) . وهاهي الفكرة مستمرّة في فرض نفسها بأنفاسٍ من غير أهلها ، أُرجِّح أنَّ بعضهم لا يعرف عن الأمر أكثر مما تعرفه العامّة عنه ؛ فمن محاولات إقناع الأمّة بفصل الدين عن الدولة في الإسلام ! إلى محاولةِ إقناعنا بإعادة تشكيل العقل العربي . ومنها إلى محاولة استغفالنا بتأويل النص الشرعي تأويلاً يعود على معناه بالبطلان ، ثم المحاولات التي لا تكلّ في طرْق موضوع الحريّة التي يراد منها الانطلاق لنقد الدِّين (الإسلام) ذاته عند بعضهم ، بل وعدم التثريب على من شاء التحوّل عنه والعياذ بالله! بزعم الحرية الدينية! كما صرح بعضهم بذلك في بعض المنتديات التي تولت إغلاقها الجهات المسؤولة بحمد الله .

ومحاولة الولوج إلى ذلك من بوابة نقد التكفير بإطلاق ، والحديث عن (المكفّراتية) [وهو مصطلح سبق إليه بعض الإسلاميين في نقد الفكر التكفيري المنحرف] ، و استقطاب كتّاب يخدمون الفكرة عن جهل ، وأخيراً إلى الولوج في نقد العلماء الشرعيين ، حملة العلوم الشرعيّة المؤهلين تأهيلاً شرعيّاً والتنقّص منهم مع سبق الإصرار ، والردّ عليهم بجهل وسوء أدب ، والتعالم عليهم أحياناً بأساليب ممجوجة تستجلب الرِّقّة لحال المسيء لنفسه بالتعالم ، إلى درجةٍ ينسب فيها بعضُهم - في صحف سيّارة - بعضَ آيات القرآن الكريم التي يحفظها عامّة المسلمين ، إلى غير مواضعها من كتاب الله عز وجل !!

وفي خضم هذا المكر الكبّار الذي لا يماري عاقل في أنَّه وراء الكثير من ذلك ، ولا سيما مع وجود تقارير إفرنجية تتحدث عن هذا الطرح وعن (شركاء)! سواء علم بعض هؤلاء الكتّاب العرب أو لم يعلموا - تذكّرتُ رسالةً بُعِثَت إلى أهل مصر ، وتذكرت منها الجملة التالية : "يا أيها المصريون : قد يقولون لكم إنني ما نزلت في هذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم ، فذلك كذب صريح ! فلا تصدقوه ، وقولوا للمفترين ! : إنني ما قدمت إليكم إلا لكيما أخلِّص دِيْنَكُم وحقَّكم من يد الظالمين ، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه و تعالى ! وأحترم نبيه محمد ! والقرآن العظيم !". (من نص الرسالة في : مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس ، للجبرتي [ت1241هـ ] اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل موسى الشريف :61 ، دار الأندلس الخضراء) .

أما صاحب الرسالة فهو المجرم الحقود السفاح الفرنسي نابليون بونابرت عليه من الله ما يستحق !! إنها رسالة دجل كاذبة لجأ فيها نابليون إلى النفاق عندما وجد المجتمع المصري متحصناً بعقيدة الولاء والبراء .. وعُدْ - إن رمت تفنيدها - للكتاب المحال إليه ولا تنس مقدمة محققه التي تستحق أن تفرد . ومن هنا ، رأيت أن أتحدّث عن عدد من المسائل المطروحة - إن شاء الله تعالى - بأسلوب علميّ ، أُبيِّن فيه بعض مغالطات التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا على نحو موجز ، يوضح الفكرة ، ويكشف المحاولة ، ويُبين طريقة الاستهداف ، ويصحح المغالطة .
 



(2/3)


كثيرة هي المسائل التي يطرقها القوم في محاولاتهم التسلّلَ إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا ، غير أنِّي سأشير - إن شاء الله تعالى - إلى بعض القضايا ، التي يمكن وصفها بالإرهاصات ، وأقف عند ما يتعلق منها بموضوعنا الأساس ، لأنَّ مسيرة التسلل - التي تكرر فشلها في دولٍ مجاورة على مدى عقود - بدأت تتسارع في تهورٍ ظاهرٍ ؛ لتصل إلى موضوعات خطيرة جداً ، فيما يمكن وصفه بإحراق المراحل ( العقلانية ) ، في سبيل الوصول لما يسمى بـ( الدولة المدنية ) !! بمفهومها الغربي .

وأحب أن أنبِّه بداية بالقول :
إنَّ قراءة محاولات التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا لا يمكن أن تكون شاملة من خلال النظر في كتابات بعض الصحفيين أو اللقاءات ببعض رموز القوم في وسائل إعلام بلادنا فحسب ، بل لا بد أن تمتد النظرة إلى أصولها في منتدياتهم المشبوهة ، التي دافع بعضهم عن بعضها في صحافتنا عندما تم حجبها رسمياً ، لجرأتها على ثوابت الشريعة ، ومكونات الوطنية الإسلامية ، وتهجمها على الحكم الإسلامي في المملكة ؛ وكذلك ما وقفت عليه بنفسي من لقاءات إعلامية مرئية ومسموعة في وسائل إعلام غير محلية .

فمن الارهاصات بين يدي المطمح الكبير ما يلي :

أ) انكار المؤامرات على الإسلام والمسلمين ، وعلى الشريعة الإسلامية ؛ لأهداف تختلف من شخص لآخر :

منها : دفع تهمة الخيانة ممن ينفذ أجندة أجنبية معارضة ، وهي التهمة التي ينفر منها الأحرار في كل العالم .

ومنها : إشعار الأمَّة بأنَّ محاولات التسلل - في صورة مقال أو قصيدة أو مشهد تمثيلي أو رواية أو ( كاريكاتير ) أو غيرها - ليست سوى فكر إصلاحي من الداخل ، لا علاقة له بالأجنبي ، وأنه ليس فكراً مستورداً ، وأنهم لا ينقصهم إبداع ...

ويبدو أن هذا الهدف الأخير بات مكشوفاً مع محاولة التغطية ، واعترفوا بفشلهم في تمريره ، فانحدروا في تطبيع استيراد الفكر ، وتجاوزوا ذلك إلى تطبيع السرقات الفكرية ، وما رسومات ( الكاريكاتير ) التي اعترفت بها بعض الصحف عنا ببعيد !!

ب) محاولة تفسير النصوص الشرعية على غير وجهها ، والتستر وراء بعض الأقوال المرجوحة ، ونماذجها كثيرة جدا ، ومن ذلك فيما يخص موضوعنا : مدلول ( أولي الأمر ) ، إذ سوّقوا تفسيراً بقصره على الحكَّام التنفيذيين ، دون وعي لشرط المشروعية عند القائلين به ؛ ويتبين لنا أثر ذلك بصفته خطوة من خطوات التسلل لإقصاء الشرعية الإسلامية العليا حين نعلم أن هذا القول يمكن الإفادة منه - مؤقتاً - في ترويج فكرة الدولة المدنية ، التي تقوم في طرحها على عزل الحاكِم عن العالِم .. وهو من أقدم الارهاصات لموضوعنا .

ج) النقد الجائر لجميع السلطات في المملكة العربية السعودية ، التي هي أفضل نموذج للدولة الإسلامية في هذا العصر ، وكثيرا ما يبدأ هذا النقد - الذي يتحدّر في أسلوبه ، في الوقت الذي يرقى فيه إلى نوع من تصفية الحساب مع الوطن وقياداته ومؤسساته - في وسائل إعلامية من وراء الحدود ثم يتسلل فيما بعد ولو تحت شعار الدعوة لإصلاح وطني .. ولم يقتصر الأمر على السلطات التنفيذية ، ولا التنظيمية ، بل قفزوا قفزة العَدَّاءِ الأخيرة في ( ماراثون ) التسلل ، إلى السلطة القضائية ، بخطوة مشدودة لتحقيق فوزٍ في تسللٍ لم يخف على العامّة فضلاً عن غيرهم .

وقد كتبت في هذا الموقع عن حملة إعلامية على المحاكم الشرعية من هذا النوع ، كانت متناغمة في التوقيت والوجهة حول قضية واحدة . ولم يكتف القوم بذلك ، بل أخذوا يتباكون تباكي الصبي أمام والديه ، إذ قدّموا عرائض تدعي انتهاك حقوق الإنسان والحريات ، إلى جهات أجنبية!! محاولين تدويل بعض القضايا التي كانت تسير في طريقها النظامي الشرعي إجراءً وقضاءً ، معلنين بذلك تناقضا صارخاً بين دعاوى الوطنية التي لا يفترون من تردادها في الوقت الذي يخسرون ودادها . وهذا أمر سنكشف جذوره — إن شاء الله تعالى - بنصوص من أجندة أجنبية سابقة ، لا زالت سريّة منذ ما يزيد على قرن ونصف من الزمان .. ولكن الانبهار يحجب الاعتبار ، فلا يلتفت المصاب به للتاريخ ، ليحذر أن يكون ريشة في مهب الريح !!

د) النيل من العلماء حملةِ علوم الشريعة ، وأوعية حفظ نصوصها ومعانيها ، وأهل تحقيق مناطات أحكامها في الوقائع ..

وهذا لهم فيه طرائق منها :

- التنقّص من قدر العلماء ، بالسخرية منهم ، وإشباع الروح الرديئة من ذمِّهم بالكذب والزور والتحقير ، ففي الوقت الذي ينتقدون فيه أهل العلم ببيان الحكم الشرعي لجميع شؤون الحياة ، وتدخلهم في كل المجالات ( كما هي حقيقة شمول الإسلام للأحكام ) - حتى إخراج قوائم شركات نقية وغير نقية مزعجة لهم - نجدهم يصفونهم بعلماء الحيض والنفاس ! ولا يخفى ما فيه من محاولة التنقّص التضليلية من العالم الشرعي ، وما فيه احتقارهم هم للمرأة ، التي يتظاهرون بالدفاع عنها ! مع الغفلة عن حقيقة لا تنكر : أنَّ في العالَم متخصصون تخصصا حقيقياً في أمراض النساء التي منها الحيض ! والتوليد الذي يعرفون صلة النفاس به !! وأحياناً نجد التنقّص من العالم بالتهكم من علمه بحجة عدم فهم ما يقول وحيرتهم فيه ! فهلا سكتوا إذْ قصرت أذهانهم عن فهم عبارات العلماء ، ولو من باب : ( إذا ابتليتم فاستتروا ) ؟..

ومن آخر ذلك ما قرأته لبعضهم من سفاهة ممجوجة ، تطاول فيها على الشيخ الجليل العلامة الدكتور/ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء المعروف عالمياً ، بصنوف من قلّة الأدب ، في انغلاق ذهني فاضح ، ممزوج بنشوة صبيانية حمقاء ، وكأنهم في مجتمع لا يحظى العلماء فيه بتقدير الناس لهم : شعبا وقيادة ، تقديراً متأصِّلاً في نفوس إسلامية أبيّة .. اللهم اهد ضال المسلمين .

- محاولة بعض الكتّاب مساواة نفسه بالعالم دون حياء ! ومخاطبته مخاطبة الندّ للندّ ! وهذا غاية الجهل والسفه ! فمن أسفه من جاهل يقول للعالم المشهود له بالعلم والديانة : لي رأيي ولك رأيك ! ثم يشن حملة سفهٍ على رأي العالِم ، ليمرِّر جهله هو باسم الرأي ! سفهاً بغير علم ! {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } ؟!

- وصف علماء الإسلام برجال الدين ! والمؤسسات الشرعية ، بالمؤسسات الدينية ! والأحكام الشرعية بالأحكام الكهنوتية ! وإطلاق وصف رجال الكهنوت بل وإطلاق وصف القساوسة على علماء الإسلام ! فأي تكفيرٍ يمارسه هؤلاء لعلماء الإسلام ومرجعياته الشرعية ! هل هناك تكفير واستهانة بأهل العلم أشدّ من وصف العالم الشرعي بالأوصاف الكنسية ..

ولا تعجب ، فالقوم أعجز من أن يفقهوا ما يقولون ، إنَّهم ( رواديد ) يلحِّنون كلماتِ غيرهم أمامَنا .. إنّهم لا يأتون بشيء من عندهم ، بل وأجزم أنّ كثيراً منهم لا يعرف من أين يُؤتَى له بما يؤتى له به !! وهذا ما ستراه موثقاً في الأسطر القادمة إن شاء الله تعالى .

رجل الدين مصطلح أجنبي عن ديننا : عقيدة وشريعة ، ورجل الدين يشبه في معناه الإفرنجي ما يعرف في تاريخنا بالقصّاص ، وعوام الوعّاظ .. أما علماء الشريعة فهم من يجمعون صفات منها : معرفة علوم الإسلام عقيدة وشريعة ، وهم في حقيقة الأمر : علماء ربانيون وبالتعبير المعاصر هم أيضاً رجال قانون .. فنقْلً هؤلاء الكتاب لهذه المصطلحات وإسقاطها على علماء الشريعة نقلٌ مفضوح ، يمكن تقريبه بصنيع الطالب البليد الذي يغش في الامتحان بنقل كل ما في ورقة زميله بما في ذلك اسم هذا الزميل !

هـ ) الاعتذار للمخالفين في الملة ، والسعي في تجاوز حكم الردة .. ولعلكم تستذكرون الطرح المتكرر لمسألة عقوبة المرتد ، والدندنة حولها ، ومحاولة التهوين من شأنها ، والتشكيك في وجوبها ، وإثارة بعض الآراء الشاذة حولها .

و ) السخرية من الأحكام الشرعية القضائية ، كعقوبة الجلد .. وقد تحدثت عن ذلك في المقال الذي أشرت إليه سابقا حول الحملة على المحاكم الشرعية ، وذكرت فيه وجود هذه العقوبة في قوانين الإفرنج من الأمريكيين والإنجليز .

ز ) القدح في الجهات التعليمية والتربوية ، بدءا من الحديث عن مناهج التعليم وتقليص المواد الشرعية وكتابة تقرير حولها تفيد منها الجهات الأجنبية ، وانتهاء بالتشويش على الجامعات الإسلامية ، والكليات الشرعية ، والمعاهد العلمية ، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم وحلقات تحفيظه !! والتوجّع من النوادي الصيفية التي لا يخفى أثرها في بناء الشخصية الإسلامية الوسطية .

ح) الاستماتة في محاربة الجهات الرقابية الشرعية على السلوك ، وتصحيحه ، ولعلّ المثل البارز في ذلك : هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورجال الحسبة ، حتى إنهم ليتنادون لكتابة عرائض في المطالبة بإلغاء هذه المؤسسة التي هي جزء من مشروعية الدولة ، ومؤسسة دستورية منصوص عليها في النظام الأساسي بالحكم بوصفها واجبا من الواجبات المتفرعة عن مقاصد الخلافة الإسلامية . وسيأتي التعريج على هذا الموضوع في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

وعودا على بدء : كان القوم في بدايات التسلل نحو نقد الشرعية الإسلامية العليا ، يقدِّمون مقالاتهم بالثناء على الإسلام ووصف شريعته بأوصاف من مثل ( شريعتنا السمحة ) ، مع نقدٍ للإسلام بطريقة غير مباشرة ، تظهر في طيات الولولة من المسلمين وما آلت إليه حالهم من تشويه الإسلام !

كنَّا نسمع ونقرأ كثيراً جملة ( شريعتنا السمحة ) ! ولكن تبين لنا أنها كلمة حق كان يراد بها التسلل إلى الباطل ! ولذلك : قلّ وجودها في مقالاتهم المتخوفة بينما انعدم في المتهورة ! تظاهر جُلّ القوم بذلك كلِّه حيناً من الدّهر ؛ على أمل صرف النظر عن نواياهم ، والوصول إلى أهدافهم في تجاوز التقيّد بحكم الكتاب والسنّة ، إلى الارتماء في أحضان الفكر الغربي بخلفياته المعادية للأمة الإسلامية ، وتجاوز الحكم بشريعة الله عز وجل إلى الحكم بالقوانين الوضعية البشرية ، التي تُقصِي الدين عن الحياة !

أبى الله إلا أن يكشف الفكرَ المنحرف على حقيقته ، فلم يَعُد ينطلي على متابعٍ ، ما استُحدِث من مصطلحات التملّص من سوء الطويّة ، إذ وجدنا طرحا ينتقد بعض مصادر الشريعة كالسنة والإجماع ! كما وجدناهم يحاولون التسلل إلى وصف إسلامي بنقده من خلال وصف ( إسلاموي ) كمخرج طواريء !! هذا المصطلح النكرة النشاز في بنائه ومعناه ، وأظنه من مستوردات القوم كالعادة ، فقد قرأته في أول ترجمة عربية وقفت عليها لكتاب ( صدام الحضارات ) لصموئيل هنتنغتون قبل بضع سنوات ..

لقد أفصح القوم عن نظرتهم القاصرة للإسلام الذي ينقصهم معرفته على حقيقته ، فضلاً عن العلم به ، وصار الإسلام العظيم عند هؤلاء رجعية وظلامية وتخلفاً !! يذكرون ذلك كلّه عندما يتسترون تحت الأسماء المستعارة .. وإن أتى مغلفاً تغليفاً مزوقاً أو رديئا في المقالات التي توقع بأسماء حقيقية ..

وها نحن اليوم نقرأ لهؤلاء نقداً صريحاً للإسلام ذاته ، من خلال نقد المصطلحات الشرعية النصيّة ، وليس المصطلحات الفقهية التي هي آراء علماء - قابلة لنقدها من المؤهلين شرعياً لذلك - فحسب ! كما نقرأ دفاعاً عن هؤلاء من قوم لا زالوا بين بين تَحْدُوا مسيرتهم المصالح الآنية ، ينتظرون كفّة النصر للميل إليها .. ويأملون اللحظة التي يرددون فيها أمنية أسلافهم في التنكر للأمة : ( ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ) !

بل وصلت بهم الجرأة إلى وصف الإسلام بالفشل ! ونقد أحكامه نقداً سخيفاً ، يؤكِّد خواءً ثقافياً ، وضحالة علميّة ، لا تليق بطالب فاشل في مدرسة نائية .. ليتهم تعلموا الإسلام ولو على طريقة المستشرقين الذين يحترمون أنفسهم ، فيعبِّرون عن حقيقة الإسلام ، وهم الذين عاشوا في كنف ثقافة البلاد التي يعدها كتاب التفرنج بيننا مثلاً يطمحون إليه ..

بل لم يعد القوم يستحون حتى من ترديد مصطلحات أعداء الملّة والدولة ، من جهلة الأمم الشعوب التي خدعها الاستعمار حيناً من الدهر ، أعني بذلك تكرار مصطلح ( الوهابية ) في إعلام بلادنا !! هذا المصطلح الذي كان رائجاً في الهند أيام الإمبرياليين الإنجليز كإجراء وقائي ، للتنفير من الدعوة الإصلاحية في نجد ، التي كانت تدعوا لجهاد الأعداء ، والتي لم تكن تقبل الخنوع لأي محتل ، كل ذلك حين كانت بريطانيا العظمى التي قرأنا عنها في التاريخ ..

ولو أنّ هؤلاء المتسللين المكشوفين تعلموا الإسلام على حقيقته من غير تلقين أجنبي بشكل أو بآخر ، ولو في دورات مبسطة على نحو ما يجري في مكاتب توعية الجاليات ؛ لعلموا مقدار جهلهم بالإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا .. وهل من سبيل إلى ذلك ما لم يدرك هؤلاء حقيقة جهلهم وظلمهم لأنفسهم ، فلو أدرك هؤلاء هذه الحقيقة لتعلموا ووجدوا من الحقائق التي يصعب تجاهلها ما يوصلهم إلى مستوى المنصفين من الغربيين الكثر ، أمثال المؤرِّخ الإنجليزي الكبير مستر ويلز ، الذي لخّص قناعته في الإسلام في قوله :
" إنَّ الديانة الحقّة التي وجدتها تسير مع المدنيّة كيفما سارت ، هو الدين الإسلامي .. ولو طلب مني تحديد تعريف الإسلام في عبارة واحدة ، لقلت : الإسلام هو المدنية المرتقبة " !! وهو هنا يتكلم عن المدنية بمفهومها الحضاري الواسع ..

أو هنري دي شامبون الذي يقول :
" نحن الغربيين مدينون للشعوب الإسلامية بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة ، وحسبها أنها كانت مثال الكمال البشري في مدة ثمانية قرون ، بينما كنّا يومئذٍ مثال الهمجية " !!

أمَّا أن يبلغ علمهم بعظمة الشريعة حداً يجعلهم يشعرون بتخلف القوانين الغربية ، بإيجابية الباحث المتعمِّق وشفافية المبهور بما يقف عليه من حقائق ، فأمر مشكوك فيه ، اللهم إلا أن يصل أحدٌ منهم بعد وقفة جادة مع الذات تعلماً ومراجعةً تصحيحيّة ، إلى مستوى عميد كلية الحقوق بجامعة فينا ، البرفيسور شيرل ، الذي أعلن في مؤتمر الحقوق عام 1927م أمام نخبة من القانونيين الكبار :
" إن تشريع محمد صلى الله عليه وسلم سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة " !!!
 



(3/3)


في الحلقة الماضية تم استعراض عدد من إرهاصات التسلل إلى الشرعية الإسلامية العليا. وأظن القاريء الكريم مُنَتَبِّه إلى أنَّ بعضها هو في حدّ ذاته محاولة للتسلل، وإن كانت لا ترتبط ضرورة بالمشروعية العليا بشكل مباشر، وإنَّما تمهِّد له، وتحاوِل استباق الاعتراض الشرعي بما يشبه الطَّرح المشروع، كما تحاول التشويش على ما قد يقف في طريقها من اعتراضات يُبديها بعض علماء الأمَّة ومفكريها؛ فإنكار المؤامرات على الإسلام والمسلمين، وعلى الشريعة الإسلامية، ومحاولة تفسير النصوص الشرعية على غير وجهها، والتستر وراء بعض الأقوال المرجوحة، والنقد الجائر لجميع السلطات: التنفيذية، والتنظيمية، والقضائية، والنيل من علماء الشريعة بما في ذلك وصف علماء الإسلام برجال الدين والكهنوت! والمؤسساتِ الشرعية بالمؤسسات الدينية! والأحكام الشرعية بالأحكام الكهنوتية! واستعمال عبارات من مثل: (الإسلام الأرثوذكسي) وإطلاق وصف القساوسة على علماء الإسلام! كل هذه المحاولات لا تخرج عن الإطار العام الذي أشرت إليه بغض النظر عن مدى وعي منفذيها بخطورة ما ينفِّذون.

وقد أشرت إلى أن جميع هذه الأساليب ليست من ابتكارات القوم، لأنَّهم أقل شأنا من أن يوصفوا بالإبداع، وغاية أمرهم التسويق الساذج أو المأجور لبضاعة وافدة، وإنَّما يقتصر جهدهم على التلقي ثم الأداء، وحيث قلت: "إنّهم لا يأتون بشيء من عندهم، بل وأجزم أنّ كثيراً منهم لا يعرف من أين يُؤتَى له بما يؤتى له به!! وهذا ما ستراه موثقاً في الأسطر القادمة إن شاء الله تعالى"؛ فإني أفي هنا بما وعدت، مكتفياً بـ:

- الإشارة إلى وثيقتين.
- وإلى محاولة تاريخية، تكشف بعض ما أقول في إيجاز.

وقبل أن أنتقل إلى الوثيقتين أقول: ينبغي أن نعلم أنَّنا في العالم العربي لسنا أمام منظِّرين، بقدر ما نحن أمام مروِّجين منبهرين إلى حدّ التهور، أو مخدوعين إلى حدّ الذوبان.. مقلِّدين إلى دركاتٍ عميقة من الانهزام النفسي. وليس هذا في الفكر فحسب! فقد جاء في وصف المؤرخ الشيخ عبدالرحمن الجبرتي (ت/1241هـ) لمجرمي الحملة الفرنسية أتباع نابليون ما نصّه: "... خالَفوا النصارى والمسلمين، ولم يتمسكوا من الأديان بدين... وعقيدتهم السالكون فيها تحكيم العقل، وما تستحسنه النفوس بحسب الشهوات... ويحلقون لحاهم وشواربهم معاً، ومنهم من يبقي شعره لعارضيه فقط، ولا يحلقون رؤوسهم ..."، "...وقد أشرت إلى بعض صور انهزاميتهم في مقالات سابقة، كتأريخهم للحوادث الإسلامية بالتاريخ الإفرنجي النصراني! وهذا ما لا تكاد تخلو منه مقالاتهم، حتى صار من علاماتهم".

-الوثيقتين:
إنَّ الهجوم المتناغم على ثوابت الشريعة والنيل من علمائها، جاء -في الجملة- وليد أجندة أجنبية، وحفيد منهج علماني متطرِّف حمل على الاستبداد الكنسي النصراني ومفهوم رجل الدِّين في الفكر النصراني الأوربي وما يعرف بالحكم الثيوقراطي المزعوم، وكان من ثمار هذه الحملة وثيقتين:

الوثيقة الأولى (وهي عبارة عن خلفية تاريخية)/ المدونة البابوية:
وهي تجمع أخطاء الكنيسة وتستدرك عليها، وهي مدونة غريبة النشأة، عجيبة البنود! صدرت بعد مطالبة مؤدّبة! من (اللادينيين واليهود واللاأدرية) الذين اخترقوا المجمع الكنسي باسم الأب والابن وروح القدس!!! وصاروا من قياداته، ومما جاء في هذه المطالبة الجملة التالية: "ولنطلب حالاً من أبينا المقدّس حضرة البابا أن يمدنا بدستور يحدد مختلف الأخطاء المتعلقة بالكنيسة والسلطة الملكية... من المنفعة الكبرى أن تُقَدَّم تلك الأخطاء في لائحة..."! وقد صدرت هذه اللائحة وتحقق هذا الطلب بعد اثني عشر عاما، ولا زالت هذه اللائحة محلّ سريّة إلى اليوم، ولم يكشف عنها الفاتيكان رغم مرور أكثر من قرن ونصف، وذلك لما فيها من فضائح اختراق المجالس الكنسية ومزيد تحريف الديانة النصرانية المحرّفة أصلاً. وكان من نتائج العمل بها: حذف ما يتعارض معها في مناهج التعليم الأوربية! ومن ذلك ما يتعلق بنقد اليهود! على ما ذكر الدكتور محمد بريش سلمه الله. وسوف أُفرد بعض البنود المتعلقة بالسلطة المدنية في هذه المدونة في فقرة تالية مخصصة لبيان جذور طرح بعض الكتاب لما يعرف بـ (الدولة المدنية) التي هي نهاية مطاف محاولات التسلل إلى الشرعية العليا.

الوثيقة الثانية (وهي عبارة عن أجندة حالية)/ تقرير راند 2002م:
لقد جاء لتغيير الدين بالطرح النفاقي! وقد أشرت إلى خلاصتها في موضوع بعنوان: (مسلسل الخَوَر اللعين والنيل من الدين). ولعلي أختصر حقيقة هذا التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا -وأدواته في هذا التقرير- بذكر جزء من مقابلة أجراها موقع Muslim Wakeup مع مؤلفة تقرير راند: شيريل بينارد، إذْ أكدت ضرورة دعم الحداثيين والمفكرين الذين يخدمون أهداف التقرير ومشاركتهم مشاركة فعالة، وذكرت أن هذا الدعم لا يلزم أن يكون علنياً وعلى الملأ! وحتى لو أدى هذا الدعم إلى اتهامهم بالعمالة للغرب فلا بأس؛ لأنهم مصنفين من قبل الأصوليين كأدوات للغرب على أية حال؛ لذلك فإنَّ دعمهم -على الأقل- يجعل ميدان الصراع بين الفريقين متوازنا نوعاً ما! وإذا كان هذا قول شيريل فليصدقوها أو ليكذبوها!

-أما المحاولة التاريخية فيمكن تلخيصها بالقول:
إن النيل من الشريعة وعلماء الشريعة حالة ليست جديدة على عالمنا الإسلامي، بل هي تجربة متكررة تُبرِق للمخدوعين آمالاً، ولكنها -بحمد الله- لا تمطر.. ففي مصر، منذ نابليون بونابرت وحتى جهود تقليص دور الأزهر، نجد المنهج ذاته يتكرر، ومنهج إقصاء الدين بالتحايل عليه مرّ به الأزهر في مراحل، من أشهرها ما يعرف بتغييرات عام 1961م، وكان كما يقول الأستاذ عبد الحيلم عويس: "امتدادا طبيعياً لمنهج الحملة الفرنسية على مصر، وهو المنهج الذي يقوم على ترك الأزهر يموت تلقائياً ويتجاوزه الزمان، بينما تقوم حوله مؤسسات تغريبية حديثة تشلّ فاعليته وتجعل أبناءه في مؤخرة الصفوف... لجأ الاستعمار الإنجليزي إلى استخدام أجهزة الإعلام في التنفير والسخرية من طالب الأزهر وأستاذه، وراحوا يفرقون في المدارس بين مدرسي الدين واللغة وبين مدرسي المواد الأخرى تفرقة مرسومة، الهدف منها هو التنفير من التعليم الديني ومحاصرته".

وعوداً على بدء: فإنَّ المطالبات بدولة مدنيَّة -على النمط والمدلول الغربي الذي يجعلها في مقابل الدولة الدينية- هو كما أشرت من قبلُ: نهاية مطاف محاولات التسلل إلى الشرعية الإسلامية، بكل ما يحتاجه ذلك من مقدمات وممهدات، وحلول (امبريالية). وإذا عدنا إلى المدونة (البابوية) المشار إليها آنفا، فإننا نجد فيها عدداً كثيرا من البنود المتعلقة بتحييد الكنيسة (النصرانية) عن الحياة: قوانينها وقضائها بل وسلوكها! ومما جاء فيها ما يلي:

"19-الكنيسة ليست مجتمعا صحيحا ومثالياً كامل الحريّة، وليست لها حقوق خاصّة ودائمة ومخوّلة لها من طرف مؤسسها المقدس، بل من حق السلطة المدنية أن تحدد ما هي حقوق الكنيسة، وفي أي حدود يمكنها ممارسة تلك الحقوق.

13-إن حصانة الكنيسة والشخصيات الكنسية تشتق أصولها من القانون المدني.

31-إن المنتدى أو المحكمة الكنسية للأحكام الدنيوية لرجال الدين، سواء على الصعيد المدني أو الجنائي، يلزم أن تلغى كليّة، وحتى بدون استشارة الكرسي البابوي، ودون أي اعتبار لاحتجاجاته.

33-ليس للسلطة القضائية الكنسية وحدها الحق الخاص والطبيعي في توجيه التعليم بالمدارس اللاهوتية.

36-إن تعريف المجمع الوطني لا يقبل أي مناقشة ، والإدارة المدنية يمكن أن تتمسك وتقف عند نتائجه.

39-الدولة هي الأصل، والمصدر لكافة القوانين، وتتمتع بقانون لا تحتويه أية حدود.

41-إن السلطة المدنية -حتى لو كانت ممارسة من طرف حاكم كافر- لها قوة غير مباشرة مضادة للقضايا المقدّسة، ومن ثم فليس لها فقط براءة اعتماد القوانين، بل كذلك حق اسنئنافها والتعسف فيها.

42-في حال تعارض القوانين الصادرة عن كل من السلطتين (المدنية والكنسية) فإن الترجيح هو للقانون المدني.

43-يحق للسلطة المدنية التدخل في القضايا التي تتعلق بالدين والأخلاق والتوجه الروحي، ومن ثم فإنه يمكنها الحكم على الأوامر والتوجيهات الصادرة عن قساوسة الكنيسة.

45-إدارة المدارس العمومية التي تشرف على إعداد ناشئة بلد مسيحي باستثناء -وفي حد معين- المدارس الكنسية، يمكن ويجب أن تكون كليّة من اختصاص السلطة المدنية ومخولة لها، بحيث لا يعترف لأي سلطة أخرى بالتدخل في مناهج المدارس وترتيب الدراسات ومنح الشهادات وإقرار تعيين الأساتذة.

49-يمكن للسلطة المدنية أن تمنع الاتصال الحر والأخوي بين الكرسي الرسولي والأساقفة والمخلصين.

53-يلزم إلغاء القوانين التي تحمي ميثاق المجموعات الدينية وحقوقها ووظائفها. يمكن للحكومة المدنية أن تساند كل أولئك الذين يرغبون في التخلي عن الحالة الدينية التي اعتنقوها ومخالفة عهودهم الرسمية، وفي نفس الوقت يمكنها -أي الحكومة المدنية- أن تحل كل هذه المجموعات الدينية، وكذلك الكنائس الجامعية، ومكاسبها البسيطة في حق الإشراف، وإخضاع ممتلكاتها ومداخلها لإدارة وقوة السلطة المدنية.

55-يجب فصل الكنيسة عن الدولة، وفصل الدولة عن الكنيسة.

56-لا تحتاج القوانين القانونية الأخلاقية إلى مصادقة قدسية، وليس هناك حاجة على الإطلاق أن تطابق القوانين الإنسانية قانون الطبيعة، أو أن تتلقى من الله قوة النفوذ والوجوب. [ قلت : نعوذ بالله من الجرأة على الله وما أحلم الله بخلقه ].

57- إن علوم الفلسفة والأخلاق، وكذلك القوانين المدنية، يمكن أن تسحب من سلطان السلطة الدينية والكنسية.

62- ينبغي أن يعلن ويحترم ما يدعى بمبدأ عدم التدخل.

63- يسمح برفض طاعة الأمراء الشرعيين وكذلك الثورة عليهم.

64- بقدر ما يكون انتهاك الميثاق الأقدس أكثر عاراً من أي عمل إجرامي ومخالف للقانون الأبدي، ليس فقط لا ينبغي أن يلام على فعله، ولكن يعتبر مباحاً ومستحقاً للمدح والتنويه الكبيرين حين يكون ذلك في سبيل حب الوطن!".

وبخصوص الفقرة الأخيرة -وفي أجواء الشغب الذي شاهدناه بمناسبة اليوم الوطني- لا أدري أي وطن يمكن أن يحبه من ينتهك مواثيقه ويشرِّع رمي قوانينه في البحر بتأثّر خارجي؟! ولا سيما إذا علمنا أن الوطنية الحقيقية في الاصطلاح السياسي لا تنفك عن خصلتين: 1-حب الوطن. 2-والدفاع عنه ضد العدوان الخارجي، فكريا كان أو عسكريا.

ولست أشك أن بعض المسلَّلِين العرب، لا يعلم شيئاً عن الخلفية التي سبق الحديث عنها، لأنه ليس سوى مردِّد لمصطلحات يسمع بها أو يتلقنها من الآخرين في لقاءات متنوعة، ولكن ما عذر من علم حقيقة الأمر -الآن أو قبل- ثم بقي على قناعات غيره دون تمحيص؟! وهذا التسلل القديم يشهد به كتّاب غربيون مشهورون.

أكتفي بالاستشهاد بقول واحدٍ منهم بلغ به اليأس من جدوى التسلل التغريبي مبلغاً لم يستطع كتمانه، أعني المنظِّر اليميني/ صموئيل هنتنغتون، إذْ قال في كتابه (صدام الحضارات)، الذي كان أصله تقريراً إلى جهات سياسية: "جماعات المعارضة الديمقراطية اللبرالية وُجدت في معظم المجتمعات الإسلامية، ولكنها كانت -عادة- مقتصرة على عدد محدود من المثقفين وآخرين من ذوي الأصول أو العلاقات الغربية، مع استثناءات عرضية فقط؛ فاللبراليون الديموقراطيون كانوا غير قادرين على تحقيق دعم شعبي مستمر في المجتمعات الإسلامية" ويضيف -وتأملها جيداً-: "بل وحتى اللبرالية ذات المنحى الإسلامي، أخفقت في بناء قواعد لها في كل مجتمع مسلم، واحداً تلو الآخر... إنَّ الإخفاق العام للديمقراطية اللبرالية في أن تثبت وجودها في المجتمعات الإسلامية، هو ظاهرة مستمرة، ومتكرّرة، لمدة قرن من الزمان بالكامل، بداية مع أواخر القرن التاسع عشر".

ومن يرد فهم الطريقة التي يحاول أعداء الشريعة ومن خُدِع بهم التسللَ منها إلى نقد الشريعة الإسلامية فسيجدها واضحة في مثالها المحتذى، وهو الطريقة العلمانية الغربية في نقد الحكم النصراني الأوربي! صحيح أنه لا مقارنة بين الإسلام والنصرانية، ولكن كيف يفقه هذه الحقيقة من يردِّد أقاويل غيره دون تمحيص! وكيف يقدر على التمحيص العلمي من يفتقد أدواته! لقد كان المثقفون المصريون وكذا اليمنيون الذين تأثروا بالفكر الماركسي مثلاً، أكثر وعياً بالفكر الذي كانوا يحملونه، وكان لهم حظ من التأهيل الفكري للبحث عن الحقيقة، وهذا من أهم أسباب رجوع عدد منهم إلى الإسلام؛ بخلاف الماركسيين الخليجيين الذين تحولوا إلى فكر بديل، يمكننا أن نطلق عليه (الفكر الليبراكسي)، فهم يُفخفخون بالليبرالية، ولكن الفكر الليبرالي لا يتحمّل مجاملتهم، لذلك يلفظهم لفظ النواة. وقد تحدثت في مقال سابق عن ما وصفه أ.د. الركن بـ: (الهجرة إلى اللبرالية بعد سقوط أم الشيوعية). وذلك في كتابه القيم: "إيديولوجية الحرباء" الذي يسجل نماذج إعلامية متنوعة من محاولات التسلل.

لقد قرأنا لهم كتابات عن أهداف سياسية صريحة في منتدياتهم:
فمرَّة ينفون وجود دستور للمملكة العربية السعودية! ومرة يطالبون بدستور للمملكة العربية السعودية!!!
في الوقت الذي لا يستطيعون فيه إنكار وجود النظام الأساسي للحكم، الذي يعد أول تدوين متكامل لدستور المملكة العربية السعودية..
إذاً فبماذا يطالبون؟ وإلام يتوجه نفيهم وإنكارهم؟!
لقد أجبت كتاباتهم، وأجاب أحد منظِّريهم في برنامج فضائي لقناة أجنبية:

(بأنهم يريدون دستوراً لا يوجد فيه أدبيات وخطاب ديني) كما يقول!

الجدير بالذكر: إنَّ الدولة الإسلامية ليست مدنية ولا دينية بالمفهوم الغربي الذي يروِّج له القوم، فهم يؤسسون على قناعات فاسدة أصلاً، وسأتمم إن شاء الله تعالى بموضوع مستقل، عن الدولة الإسلامية بين مفهومي (الدولة الدينية) و(الدولة المدنية).

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وصل اللهم وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية