اطبع هذه الصفحة


واجبنا تجاه تقارير مؤسسة (راند)؟
(مناقشة لطرح د. حمزة المزيني)

د. سعد بن مطر العتيبي

 
كتب د. حمزة بن قبلان المزيني مقالاً في جريدة الوطن، بعنوان (الثرثرة الراندية) وأود شكر د. حمزة على طرح هذا الموضوع، إذ إنَّه من الموضوعات التي يُعرِض عنها عددٌ لا بأس به ممن ينتمون أو يُنمَوْن إلى الثقافة، بل وربما التمس بعضهم الأعذار لصائغيه!

1) ومؤسسة (راند) هي إحدى المؤسسات المعنية بالدراسات المستقبلية والخطط الاستراتيجية، ومقرّها في الولايات المتحدة، ولها مكتب في دولة قطر. وقد اتجه تقريرها السابق إلى تغيير الإسلام ذاته، فعنوانه: (الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجياّت)، وأشارت المشرفة عليه شاريل بينارد إلى صعوبة هذه المهمّة في قولها: "إنَّ تحويل ديانة عَالَم بكامله ليس بالأمر السهل. إذا كانت عملية بناء أمّة مهمّة خطيرة، فإنَّ بناء الدِّين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها".

2) وحيث إن هذه التقارير مادة معلومات منشورة ومؤامرات مخطوطة مُعلنة، فإنَّها تُعد في علم (استشراف المستقبل) غنائم باردة، تختصر الكثير من الجهود. ولا سيما أنَّنا نشاهد تطبيقا لعدد من توصيات هذه الدراسات في عالمنا العربي والإسلامي، كالتقرير المشار إليه آنفا، ولا يحتاج التأكد من تطبيقه في واقعنا العربي كثير جهد.. ومن أمثلة ذلك مما يخصنا: الحرب التي تشن على ما يعرف بـ(الوهابية) - بغض النظر عن علم من يشنها بالتقرير أو عدم علمه – فمما جاء في التقرير على سبيل المثال: ما عبّر عنه التقرير بمواجهة المتشددين ومعارضتهم، وهم من يسميهم التقرير ذاته بـ(الوهابيين)، وقد عُرِّف (الوهابي) في التقرير بأنَّه: " نموذج متطرف ومتزمِّت وعدواني من الإسلام المتشدِّد، تأسس في القرن الثامن عشر الميلادي، وقد تبناه آل سعود دون غيره من أشكال الإسلام الأخرى، مثل الإسلام الصوفي والإسلام الشيعي، والإسلام المعتدل بشكل عام، باعتبارها انحرافات غير صحيحة عن الدين الحقيقي " (الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجياّت: ((مسرد الكلمات)). ومما ذكر في التقرير من أساليب مواجهة الوهابيين!: تحدي تفسيرهم للإسلام والكشف عن أخطائهم.. تشجيع الصحفيين لعمل تحقيقات صحفية في دوائر المتشددين حول الفساد والنفاق والأعمال غير الأخلاقية.. تشجيع الانقسامات بين المتشددين.. تشجيع وجهة النظر القائلة بفصل الدين عن الدولة إلخ.. ولذلك فإنَّ من واجبنا الإسلامي الوطني أن نعرف ما يقال عنَّا على أقلّ تقدير، وأنَّ نتولَّى مناقشة ما يوجه ضدنا من تهم وافتراءات؛ ومن هنا فإنني أخالف د. حمزة في دعوته إلى إهمال تقرير (راند)، وأرى أن متابعة هذه التقارير ورصد تطبيقاتها أمر في غاية الأهمية، فهو يوضح آلية فهم الآخرين لنا، وآليات سريان الخطط التي تستهدف مجتمعاتنا الإسلامية، كان أوضحها التقرير الذي أشرت إليه آنفا، وكان أفضحها التقرير الأخير 2007م الذي صرح بأسماء وميزانيات وقنوات فضائية ومعلومات في غاية الأهمية لكل من يعنيه الحفاظ على الثقافة الإسلامية لمجتمعاتنا، ولكل من يهمه أمننا الوطني على المدى القريب والبعيد.

3) أشكر د. حمزة على ذكره لجملة من الأسباب الخارجية للصراع مع السياسات الأمريكية تجاه المسلمين، وهو أمر نفتقده في طرح عدد من أصحاب المقالات الثابتة؛ وإن كنت لا أوافق د. حمزة في بعض ما ذكره في توصيف تلك الأسباب. وثمة ملحوظات:
أولها:
أن الأسباب التي ذكرها د. حمزة لا تختص بفكر اليمينيين المتطرفين الذين يقودون السياسة الخارجية الأمريكية ضد أمتنا، فهي تمتد زمانا إلى ما يقارب القرن كما ذكر الدكتور، لتشمل الجمهوريين والديمقراطيين ما بين صقور وحمائم إن صح التعبير، ومن تلك الأسباب المتوارثة حكوميا: غرس الكيان الصهيوني في المنطقة ودعمه له بدءا بالاعتراف الرسمي به ومرورا بالدعم العسكري والسياسي وانتهاء بترويجه كسبب من أسباب البحث عن الحلول السلمية، وكأنه في حد ذاته ليس مشكلا.

وثانيها: عدم ذكر د. حمزة لأسباب أخرى أكثر أهمية، منها على سبيل المثال: ما أكَّده Michel Bugnon - Mordont بقوله: "إن تبني الليبرالية المتطرفة كعقيدة تجارية واقتصادية هو الذي فرض هذه السياسات التي تهدف إلى محو ذاكرة الشعوب... وكل الوسائل يُسمح باستخدامها لتحقيق هذا الهدف دون أي رادع. وخلال صعود الليبرالية الجنوني أدركت الولايات المتحدة أن التنوع السياسي والجغرافي والتاريخي في العادات والتقاليد والمعتقدات والقوانين والثقافات يشكل حواجز وروادع إنسانية وأخلاقية أمام انتشارها فكان لابد من وضع خطط تفرض الرأي الواحد وتمحو هوية الآخرين" (أمريكا المستبدة: الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم:13)، وهو نص يكشف لنا بعض خلفيات وضع الخطط، التي تُعد مؤسسة (راند) من أهم جهات تنظيرها إن لم تكن الأهم.
ومنها: ما أكَّده الخبير الفرنسي المتخصص في الحركات الإسلامية في الغرب أوليفيه روي من: أن إصلاح البرامج التعليمية والضغوطات الأمنية لن تؤدي إلى القضاء على التنظيمات المتشددة، فالنظم العلمانية الشمولية هي التي راقبت الدين وحاصرت التدين، وهي التي مثلت قشة النجاة للأفكار المتشدِّدة لتعود بغلو أكبر إلى العالم الإسلامي.
http://www.islamonline.net/arabic/politics/2003/08/article10.shtml

4) قال د. حمزة المزيني: "وتناسى مؤلفو التقرير أن عداء الشعوب العربية والإسلامية للولايات المتحدة ليس جديدا، فقد كانت الحركات الليبرالية والتقدمية هي التي تحمل لواء ذلك العداء للأسباب نفسها التي تكمن وراء العداء الحالي لها. وكانت الولايات المتحدة هي التي دفعت بتصرفاتها غير المسؤولة هذه التيارات لعدائها. كما كانت السبب في إخفاق تلك التيارات وتحطيم مشاريعها". وهنا ثمة ملاحظات، أولاها: أنَّ الحديث عن الشعوب شيء، والحديث عن التيارات شيء آخر، فالشعوب لم يزل مطلبها: ترك الحرية لها في اتباع دينها والحكم بشريعة ربها، وهو ما تشهد به الانتخابات الديموقراطية في عالمنا العربي والإسلامي، وهذا ما جعل التقرير الأخير ينظر لنشر الديموقراطية نظرة أخرى تختلف عن الشعارات المعلنة. وثانيها: أنَّ التيارات التي أخفقت لم تكن مطالبها مطالب الأمة، بل كانت هي ذاتها سببا مهماً من أسباب نكباتها ونكساتها ومؤثراً مهماً في تخلفها، ولا غرو فهي ما بين غرس للمستعمر أو سلاح في يد خصومه ما بين شرق وغرب آنذاك.. ولولا طلب الجريدة للاختصار لذكرت بعض البراهين.
نعم ربما كان هذا صادقا في بعض القوميين ممن بقوا على الخط.. ولكن الواقع أثبت أن عدداً من رموز تلك التيارات ركب موجة المحافظين الجدد ذاتها ففرح بغزو العراق وسقوط بغداد، واستبشر بالوعود الأمريكية المبشرة بما سموه: الشرق الأوسط الكبير وانضوى تحت مصطلح الليبرالية – ولا أقول الليبرالية – وأعلن انتماءه إليها، بعد أن كان ماركسي الهوى وشيوعي الفكر!

5) قال د. حمزة: "وكان الأحرى بالتقرير أن يشير... إلى ما تقوم به عناصر متطرفة كثيرة ممن يسمون بالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة، والعناصر اليمينية المتطرفة في أوروبا، من تشويه للثقافة العربية الإسلامية وللمقدسات الإسلامية ونعتها بأبشع النعوت والسخرية منها".
وهذا كلام حسن يشكر عليه د. حمزة؛ ولكن كيف لنا أن ننتقد الأمريكيين اليمينيين وهم أصحاب فكر ورؤية تناقض مسلماتنا، في الوقت الذي يقوم بعض كتابنا بجهد أخطر مما يقوم به أولئك، كالهجوم الذي يوجهه بعض أبناء جلدتنا إلى مناهج تعليمنا ومؤسساتنا وأنظمتنا وسياساتنا الشرعية؟!

6) قال د. حمزة: "ولا يبعد أن يكون القصد من هذا التقرير وسابقه زرعَ الفتنة بين التيارات المتعددة في البلدان العربية والإسلامية لتنشغل بتبادل الاتهامات، وأهمها الاتهام بالولاء للولايات المتحدة والعمالة لها".
وهو وإن كان يحتمل التسريب لأكثر من هدف، إلا أنَّ نشر التقارير آليةٌ من آليات المؤسسة في طرح رؤيتها أمام الناس ولا سيما أنها أبحاثها ممولة من مؤسسات خاصة على ما يظهر..

ثم إنَّ الفتنة وجدت من قبل هذا التقرير؛ وكان أهم أسبابها: النقد والقدح في ثوابت الدين الإسلامي، وتشكيك عامة المسلمين بطروحات بعض المسلمين من غير المختصين ليقولوا في الإسلام ما يوافق أهواءهم تحت مسميات جملة من الأفكار الوافدة بعلَّاتها.. فنحن نقرأ لبعض كتاب صحفنا نقدا جائراً متتابعا، لمرجعياتنا العلمية ومؤسساتنا الشرعية وأنظمتنا المرعية.

7) وقال د. حمزة: "ولابد أن نتذكر الفرح العارم الذي اجتاح بعض المتسرِّعين عند صدور التقرير الأول... وقد بدأ المتسرعون في التعبير عن الفرح به واستخدامه أداة في حربهم المتخيلة ضد المثقفين والكتّاب والمعتدلين المسلمين عموما.".
وهنا أقول يا د. حمزة! ألا تراك هنا قد سرت في ركاب مصطلحات (الثرثرة الراندية)! فمن الذي يحدِّد الإسلام المعتدل أو المعتدلين المسلمين؟ أهي معايير التقرير التي وضعها في قالب أسئلة؟ أم هي المرجعية الإسلامية المتمثلة في أولي العلم بالشريعة الذين أحالنا الله تعالى إليهم في قوله سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}؟ أم هي فئة من تسميهم بالمثقفين؟ وهو مصطلح أتمنى أن تحرِّر لنا مدلوله.
ومن هم المتسرعون الذين تعنيهم؟ لقد تصدى لهذا التقرير ثلة من كبار المثقفين في عالمنا الإسلامي وفي الولايات المتحدة ذاتها.. بينما لم نجد من الآخرين إلا مخذِّلاً عن كشف التقرير وخفايا المؤامرات المكتوبة - لا عقدة المؤامرات المزعومة - التي طالما رُمي بها المثقفون الوسطيون الملتزمون بالوسطية الإسلامية الأصيلة.

هذا ما تيسر ذكره تعقيبا على رأي الدكتور بشأن طلبه إهمال هذا التقرير. والله الموفق.
 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية