اطبع هذه الصفحة


أسس السياسة الشرعية
(4)
قاعدة الذرائع

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

د. سعد بن مطر العتيبي

 
(1)
سد الذرائع
 

الطريق الثالث : قـاعـدة الـذرائـع

الذرائع في اللغة : جمع ذريعة ، وهي : الوسيلة إلى الشيء ، سواءٌ كان هذا الشيء مفسدة أو مصلحة ، قولاً أو فعلاً . يقال : تذرع بذريعة : أي : توسل بوسيلة .

أمَّا في الاصطلاح ؛ فقد عُرِّفت بتعريفات كثيرة ، تكاد تنحصر في أحد قسمي الذرائع ؛ وذلك أنَّ كثيراً من العلماء والباحثين درجوا على إطلاق الذريعة على ما يُتَوَصَّلُ به إلى محظورٍ .

وهذا أحد قسمي قاعدة الذرائع ؛ فإنَّ الذرائع منها ما يُوصِل إلى المحذور - وهذا هو المشهور المتبادر عند ذكرها - ومنها ما يوصِل إلى المشروع ، وهذا ما يُعبِّر عنه بعض العلماء -كالقرافي - بـ" فتح الذرائع " ، واشتهر عند عامَّة الفقهاء تحت مسميات أُخرى ؛ والذريعة من حيث كونها طريقاً من طرق الاستدلال تشمل هذين القسمين .
من هنا يمكن تعريف الذرائع بمعنىً اصطلاحي عام يشمل هذين المعنيين ؛ فيُقال : الذرائع في الاصطلاح : ما كان وسيلةً وطريقاً إلى شيءٍ آخر حلالاً كان أو حرامـاً .
وبهذا يكون التعريف شاملاً قسمي الذرائع : ما يُسَدّ منها ، وما يفتح .

فقاعدة الذرائع تنقسم إلى قسمين قسم يسدّ ، وهو الأشهر لأسباب منها أنّه من قواعد المنع من المحظور ، والمحظور تدفع إليه طباع كثير من الناس ، ومن ثم يكثر طرق أسماعهم له أكثر من القسم الآخر الذي هو فتح الذرائع ، ومنها استعمال مصطلحات أخرى مرادفة لفتح الذرائع على ما يأتي بيانه في قاعدة فتح الذرائع إن شاء الله تعالى .

وبيان القسمين في قاعدتين على النحو الآتي :


أولاً : قاعدة سد الذرائع :
المراد بـ سد الذرائع : المنع من فعل ذرائع الممنوع ، لما تفضي إليه من الفعل المحرَّم ؛ فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة مُنع من ذلك الفعل .
والذرائع التي تُسد وتحسم عُرِّفت بتعاريف كثيرة ، لعلَّ أقربها إلى المعنى المراد في عرف الفقهاء أنَّها : أمر غير ممنوع لنفسه ، قويت التّهمة في إفضائه إلى فعل محظور .

حجية سد الذرائع :
سدُّ الذرائع من طُرق الاستدلال التي تظافرت أدلة الشرع على تأييدها ، و شواهده في الشريعة أكثر من أن تحصر ؛ من ذلك ما يلي :
1) قول الله تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108] ؛ حيث نهى الله سبحانه وتعالى عن سب آلهة الكفار مع كونه غيظاً وحمية لله تعالى ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة وتطرقاً إلى سب الله تعالى " وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل مالا يجوز " قاله بن القيم .

2) وقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 104] ؛ حيث نهى الله - عز وجل - عباده المؤمنين عن قول هذه الكلمة ( راعنا ) للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم - مع أنَّها كلمة عربية معروفة ، معناها : أرعني سمعك ؛ وذلك لئلا تكون ذريعة لليهود إلى سبِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإنَّهم كانوا يخاطبون بها النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - يريدون بها السَّبَّ ، يقصدون : فاعلاً من الرعونة ، ولئلا يكون ذلك ذريعة للتشبّه باليهود في أقوالهم وخطابهم .

3) وقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : (( مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ )) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ )) متفق عليه ؛ فقد جعل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - الرجل ساباً لأبويه إذا سبَّ سباً يَجْزِيْهِ النَّاس عليه بالسَّبِّ لهما ؛ لكونه سبباً ووسيلة إلى ذلك وإن لم يقصده .

4) أنَّ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين ، مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس : إنَّ محمداً – صلى الله عليه وآله وسلم - يقتل أصحابه ؛ وقد صرح النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك عندما سأله عمر – رضي الله عنه - أن يأذن له بقتل عبد الله بن أُبي بن سلول - رأس النفاق - حيث قال : (( دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) رواه الشيخان ؛ لأنَّ هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام " قاله أبو العباس ابن تيمية رحمه الله .

وهذه بعض شواهد سد الذرائع ، وهي كثيرة ، ذكر ابنُ القيم - رحمه الله - تسعة وتسعين شاهدا لها على سبيل التمثيل ؛ ومدارها على تأكيد أنَّ : ما جَرَّ إلى الحرام وتُطُرِّق به إليه ، فهو حرام مثله .
ومن هنا قرَّر العلامة الشاطبي - رحمه الله - أنَّ قاعدة سد الذرائع أُخِذَت من استقراءِ نصوص الشريعة استقراءً يفيد القطع ، وأنَّ الشارع يمنع من الفعل الجائز إذا كان هذا الفعل ذريعة إلى مفسدة تساوي مصلحته أو تزيد ، ثم قرر أنَّ هذا المعنى الذي أُخذ بالاستقراء من أحكام الشريعة ، يقوم مقام العموم المستفاد من الصيغة ؛ فيما يندرج تحته من الوقائع التي لم ينصّ عليها ؛ فيطبق عليها ، دون حاجة إلى دليل خاص من قياس أو غيره .

وأما الأدلة الخاصَّة على هذه القاعدة فكثيرة أيضا ، ومنها :

1- قول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : (( إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَإِنَّ بَيْنَ ذلك أُمورًا مُشْتَبِهَاتٍ – وَرُبَّما قال – وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمورًا مُشْتَبِهَةً وَسأَضْرِبُ فِي ذلك مَثَلاً : إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ حَمَى حِمًى ، وَإِنَّ حِمَى اللَّه ما حَرَّمَ ، وإِنَّهُ مَنْ يَرْعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى – وَرُبَّمَا قَالَ – يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ وإِنَّ مَنْ خَالط الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنْ يَجْسُـرَ )) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح " ؛ وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يُتْرَك ما يضارع الحرام وما يتوصل به إليه " قاله الباجي رحمه الله .

2- أنَّ قاعدة : " سد الذرائع " ، راجعة إلى أصل اعتبار المآل الذي قامت الأدلة الشرعية على اعتباره ، وشواهدها شواهد لهذه القاعدة ، ورجوع هذه القاعدة إلى هذا الأصل كافٍ في اعتبارها والتفريع عليها .

3- وقد حكى الاتفاق على إعمالها غيرُ واحد من العلماء ، منهم الشاطبي والقرافي ؛ بل صرح الشاطبي بأن استقراء أحكام الشريعة يدل على قطعيتها ، فقال : " سدّ الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية " .

ضابـط " سد الذرائع " :
الذين يُنَظِّرُون لقاعدة الذرائع لا يجيزون التوسع في سدِّها ؛ لأنَّ التوسّع فيه يؤدي إلى إيقاع الأمّة في الحرج ، وفي هذا إخلال بأصل شرعي آخر مهم هو " رفع الحرج " ؛ وعليه فلا يجوز الإفتاء بناءً على سدّ الذرائع مطلقاً مهما كانت ؛ بل لابد من تحقق مناط السدّ والمنع ، وقد نصَّ على ذلك عدد من العلماء والباحثين ، ومن نصوصهم في ذلك ، يمكن ضبط قاعدة المنع في الذرائع ، من خلال الشروط والقيود التالية :
1- أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة . فالمعوّل عليه في المنع : ما يترتّب على الفعل من المفاسد في مجرى العادة ، أو ما يقصد به في العرف ؛ وإن لم يثبت قصد خاص من الفاعل ، بل وإن ثبت القصد الحسن والنيـة الخالصة ، كما في مسألة سَبّ آلهة الكفار .
2- أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه ؛ فالفعل الذي يتضمن تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة لا يمنع – وإن كان ذريعةً إلى تفويت مصلحة أو تحصيل مفسدة من جهة أُخرى – إذا كانت المصلحة التي يجلبها الفعل راجحة على المفسدة التي تنشأ عنه ، أو كانت المفسدة التي تندفـع به ، راجحة على المصلحة التي تفوت به .
3- أن يكون إفضاءُ الفعل المأذون فيه إلى المفسدة مقطوعاً به ، أو كثيراً غالباً بحيـث يغلب على الظن إفضاؤه إليها ؛ أو أن تتعلق المفسدة فيه بمحظور خطيرٍ ، يقتضي الاحتياطُ من المجتهد درءَ المفسدة فيه ، ولو لم يكن إفضاؤها إلى المفسدة كثيراً .
4- أن لا يكون سد الذريعة شاملاً عاماً لكل صور المحكوم فيه وكل أحواله ؛ بل بالقدر الذي تندرىءُ فيه المفسدة ، وإذا زالت الخشية زال الحظر .

والخلاصة : أنَّ ( سدَّ الذرائع ) طريق وقاعدة راسخة من قواعد التشريع وطرق الاستدلال الشرعي المعتبر ، إذا توافرت فيه شروط العمل به .
ولمَّا كانت هذه القاعدة طريقاً حازماً في الحفاظ على حمى الأحكام ، و عقبة عسيرة المنفذ ، لمن رام الوصول للباطل من بوابات الشرع – تضجّر منها أهل الباطل وحاول القدح فيها المحرومون بها من ترويج الشبهات والاستمتاع بالشهوات .
وثمة ملاحظة مهمّة تجيب على المتسائلين عن كثرة الفتوى بسدّ الذرائع وهي : أنَّه كلّما كثر الفساد في النّاس ، كلّما كثرت الفتوى بسدّ الذرائع ، وهكذا الشأن في القضايا العامة ، وأمور الولاية : كلما وسد الأمر إلى غير أهله أو إلى من يشيع بين الناس اتهامهم بالسوء ، كلّما كثرت الفتوى بسدّ الذرائع . والعكس بالعكس !
 


(2)
فتح الذرائع


ثانياً : قاعدة فتح الذرائع .
سبق في أوَّل قاعدة الذرائع ، أنَّ الذرائع هي الوسائل ؛ وهي هنا : " الطرق التي يُسلك منها إلى الشيء ، والأمور التي تتوقف الأحكام عليها من لوازم وشروط " قاله الشيخ السعدي ؛ فالمراد فتح الذرائع المؤدية إلى جلب المصالح وتحقيق المقاصد ، التي لا تحصل إلا بها .
فالمراد بـ" فتح الذرائع " : فعل ما لا يُتَوَصَلُ إلى المأمور إلا به ؛ و يُعبِّر عنه بعض العلماء بـ" فتح الذرائع " كالقرافي ؛ ويُعَبُّرُ عنه عند عامَّة الفقهاء بتعبيرات أشهر ، من مثل : " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " وَ " ما لا يتم الأمر إلا به يكون مأموراً به " وَ " ما لا يتوصل إلى المطلوب إلا به " وَ " وسيلة الواجب " وَ " مقدمة الواجب " ، وهذا الغالب عند الأصوليين وفي كتب الشروح الفقهية ؛ وقد تلقب عند الفقهاء بـ"الاحتياط " ، وغيرها .

والمأمور يشمل ما أُمر بفعله وما أُمر بتركه ؛ " إذ الأمر هو الطلب والاستدعاء والاقتضاء ، وهذا يدخل فيه طلب الفعل وطلب الترك " ، " فلفظ الأمر عام لكن خصُّوا أحد النوعين بلفظ النهي ، فإذا قُرِن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين " قالهما أبو العباس ابن تيمية .

حكم فتح الذرائع :
الذرائع والوسائل التي لا يتم المأمور إلا بها ، نوعان :
فالأول : ما كان مأموراً بها بالنَّص الشرعي ؛ كالسعي إلى صلاة الجمعة ، كقول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ وكالطهارة للصلاة ، وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } ؛ وهذا النوع قد اجتمع على وجوبه دليلان : النَّصّ ، وقاعدة : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وهذا ظاهر ، لا يُحتاج إلى بيان حكمه .
والثاني : ما كان مباحاً من حيث الأصل ، لم يرد فيه أمر مستقل من الشارع ؛ كإفراز المال ؛ لإخراج الزكاة ؛ فهذا ليس بواجب قصداً ، إنما وجب بقاعدة : ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به . وهذا النوع الذي نعنيه هنا ، وخلاصته : أنَّ وسيلة المأمور به مأمور بفتحها ؛ فالذرائع هي الوسائل ، و الأصل في الوسائل أنَّ لها أحكام المقاصد .

قال العز بن عبد السلام : " للمصالح والمفاسد أسباب ووسائل ، وللوسائل أحكام المقاصد ؛ من الندب ، والإيجاب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة " .
وقال ابن القيم : " لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها ، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها ؛ فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ، ووسائل الطاعات والقُرُبات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها ؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود قصد الغايات ، وهي مقصودة قصد الوسائل " ، وقال : " القاعدة الشرعية أنَّ وجوب الوسائل تبع لوجوب المقاصد " .
وقال ابن سعدي : " الوسائل لها أحكام المقاصد ؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون ، وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها ، ووسيلة المباح مباح . ويتفرع عليها أنَّ : توابع الأحكام ومكمِّلاتها تابعة لها ، وهذا أصل عظيم يتضمن عدة قواعد … " .

ونجد التصريح بفتح الذرائع في نصوص من مثل قول القاضي أبي يعلى : " إذا أمر الله تعالى عبده بفعل من الأفعال وأوجبه عليه ، وكان المأمور لا يتوصل إلى فعله إلا بفعلٍ غيره ، وجب عليه كل فعل لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا به " .
وقول القرافي : " اعلم أنَّ الذريعة كما يجب سدّها ، يجب فتحها وتكره وتندب وتباح ؛ فإن الذريعة هي الوسيلة ، فكما أنَّ وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة ؛ كالسعي للجمعة والحج " .
وإنما أذكر عددا من النقول ليُعلَم أنَّ هذه القاعدة ليست غائبة عن فقهائنا .

حجية فتح الذرائع :
مما استُدِلّ به على حجية فتح الذرائع ما يلي :
1- قول الله عز وجل : {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ، ففيه اعتبار الشارع للوسائل ؛ وهذا يدل على حسن الوسائل الحسنة ، وفيه تنبيه على اعتبار الوسائل ، حيث اعتبر أعمال المجاهد في سبيل الله من حين يخرج من محله إلى أن يرجع إلى مقرِّه وهو في عبادة ، لأنَّ هذه الأعمال ووسائل لهذه العبادة ومتممات لها .

2- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ... وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ )) رواه مسلم ؛ ووجه الدلالة منه كما في الدليل السابق .

3- أنَّ الذرائع التي لابد منها في فعل المأمور من مقتضيات الأمر به ؛ فيكون دليلها ما أفاد الأمر من الأدلة .
قال الجويني : " الأمر بالشيء يتضمن اقتضاء ما يفتقر المأمور به إليه في وقوعه ؛ فإذا ثبت في الشرع افتقار صحة الصلاة إلى الطهارة فالأمر بالصلاة الصحيحة يتضمن أمراً بالطهارة لا محالة ، وكذلك القول في جميع الشرائط . وظهور ذلك يغني عن تكلف دليل فيه ؛ فإن المطلوب من المخاطب إيقاع الفعل الصحيح ، والإمكان لابد منه في قاعدة التكليف ولا تَمَكُّن من إيقاع المشروط دون الشرط " .
وقال الموفق ابن قدامة : " لكن الأصل وجب بالإيجاب قصداً ، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود فهو واجب كيف ما كان وإن اختلفت علة إيجابهما " .

وقال ابن سعدي : " فإذا أمر الله بشيءٍ كان أمراً به وبما لا يتم إلا به ، وكان أمراً بالإتيان بجميع شروطه : الشرعية ، والعادية ، والمعنوية والحسية ؛ إنَّ الذي شرع الأحكام عليم حكيم ، يعلم ما يترتب على عباده من لوازم وشروط ومُتَمِّمَات ؛ فالأمر بالشيءِ أمر به وبما لا يتم إلا به ، والنهي عن الشيءِ نهي عنه وعن كل ما يؤدي إليه " .
وبهذا يتبين أنَّ فتح الذرائع مأمور به شرعاً ، مُتَقَرِّرٌ لدى العلماء ؛ فيكون طريقاً من طرق الاستدلال الصحيح ؛ قال المجد ابن تيمية : " فقول من قال : يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب ، صحيح " .

بـل قد تكون ذريعة المحرم ووسيلته غير محرمة ؛ فتفتح ، وذلك إذا أفضت إلى مصلحة شرعية راجحة . وهذه من مستثنيات قاعدة : " للوسائل أحكام المقاصد " .
قال أبو العباس ابن تيمية : " النهي إذا كان لسدِّ الذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة " ، ومثَّل له بمنع التنفّل في أوقات النهي سدّاً لذريعة الشرك ؛ لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ، ومشروعية فعل ذوات الأسباب فيها ؛ حيث يحتاج إلى فعلها في هذه الأوقات ، وهو أمر يفوت فتفوت مصلحتها ، فشرعت ؛ لما فيها من المصلحة الراجحة .

وقال القرافي : " قد تكون وسيلة المحرّم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة ؛ كالتوسل إلى فداءِ الأسرى بدفع المال للكفار ، الذي هو محرم عليهم الانتفاع به ؛ بناءً على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة عندنا ، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يـزني بامرأة ، إذا عُجِزَ عن دفعه عنها إلا بذلك ... ؛ فهذه الصور كلها : الدفعُ وسيلة إلى المعصية بأكل المال ، ومع ذلك فهو مأمور به ؛ لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة " .
وقال ابن القيم : " ما حرم للذريعة يباح للمصلحة الراجحة ، كما أباح من المزابنة العرايا ؛ للمصلحة الراجحة ، وأباح ما تدعو إليه الحاجة منها " .

ومن تأمّل هذه النقول تبيّن له أنَّ للمسألة قيوداً وضوابط ، تجعل أمر إعمالها ، ليس إلا لمن توافرت فيه شروط الاجتهاد ، وأدرك مقاصد التشريع ، وموازين المصالح ، وقد مرّ الحديث عن قيود العمل بها ، فلا يعزب عن بالنا ذلك ، فالكلام في أحكام الشرع توقيع عن ربِّ العالمين ، لا يقبل من عابد غير فقيه ، بله متهمٍ في الدين .

وكثير من تطبيقات قاعدة فتح الذرائع لا يتفطن له كثير من النّاس ؛ وهذا يجعلني أقدِّم مثالاً لتطبيق علمائنا لهذه القاعدة ، وهو : تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية ، الذي لم يحرِّمه لذاته أحد من العلماء - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي منع فيها ، ولذلك استنكره حينها كثير من المواطنين حمية وغيرة من غير فتوى ؛ فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها ، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بتطبيق ( قاعدة فتح الذرائع ) بالسماح بتعليم المرأة ، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله ، فلمّا رأى النّاس ذلك اطمأنّوا إلى التعليم الحكومي وسلامته من الاختلاط وتوابعه ، فألحق كثير منهم بناته بتلك المدارس ، وانتشرت في البلاد حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ولله الحمد والمنة .




نشر في موقع المسلم http://www.almoslim.net/

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية