اطبع هذه الصفحة


المعرفات العنكبوتية

د. سعد بن مطر العتيبي

 
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله.. أما بعد..

فهذا موضوع يحتاج إلى توضيح وتفصيل، لما فيه من أخطاء ومحاذير قد تصل إلى القدح في أصل الديانة لدى العبد؛ فليس الأمر سهلا كما قد يظهر لبادي الرأي. والحق أن البيان في هذا يطول، ولكن إليكم التأكيد على القضايا الكلية والضوابط الرئيسة في النقاط التالية:
أولاً: أنَّ الأصل في الأسماء والكنى والألقاب الإباحة والجواز؛ فدائرة الأسماء المشروعة واسعة جداً؛ مثل: عبد الله وعبد الرحمن؛ والتسمي بأسماء الأنبياء والمرسلين _عليهم الصلاة والسلام_، أو بأسماء الصالحين ومن شهد لهم بالخير والفضل كالصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وهو مما استحبه العلماء، للاقتداء بهم في الخصال الحميدة. وكذلك كل اسم لا محذور فيه.

ثانياً: أنِّ هناك ضوابط شرعية لا بد من التنبه لها عند اختيار الأسماء والكنى والألقاب؛ وهي على النحو التالي:

الضابط الأول: تجنب الأسماء والكنى والألقاب، التي فيها محاذير شرعية؛ وهي نوعان:

النوع الأول: ما كان ممنوعا لاختصاصه بالله _عز وجل_ إما من جهة التعبيد، وإما من جهة ذات الاسم أو الوصف؛ فعن عبد الرحمن بن عوف _رضي الله عنه_ أنه قال: كان اسمي عبد عمرو - وفي رواية عبد الكعبة -، فلما أسلمت سماني رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عبد الرحمن. رواه الحاكم وصححه 3/306 ولم يتعقبه الذهبي. و كذلك التسمي باسم من أسماء الله _تبارك وتعالى_ أو صفة من صفاته، التي اختص بها _سبحانه_: الخالق، أو القاهر أو ملك الملوك، ونحو ذلك؛ ومن أدلة منعه قول الله عز وجل: (هل تعلم له سميا)؛ فهو استفهام بمعنى النفي، إذ المعنى: لا سمي له. فلا يجوز التسمي بأسمائه سبحانه. و لا يجوز التكني بشيء من ذلك بحال، فلا يجوز التكني بأبي العزيز أو أبي البصير مثلا؛ لقول الله _عز وجل_: "لم يلد ولم يولد".

النوع الثاني: ما كان ممنوعا لاختصاص أهل الكفر بالتسمي أو التكني به أو اتخاذه لقبا، أو لكونه صار علماً على ما فيه محادَّة لله _عز وجل_. فمثال الأول: التسمي بأسماء الكفار الخاصة بهم، الدالة عليهم دون غيرهم، مثل: خادم المسيح، وبطرس، ويوحنا، وكاهانا، ونحوها من الأسماء الدالة على ملة الكفر، أو التكني بأب اليسوعيين أو التلقب بالبابا أو الحبر الأعظم أو القديس أو ما حمل هذا المعنى من مثل: سانثومس وسانجورس ونحوها. ومثال الثاني: التسمي بأسماء الأصنام أو الطواغيت المعبودة من دون الله، كالتسمي بشيطان، ومارد، وفينص، ونحوه، وكذلك التكني بأبي الفراعنة أو اتخاذ لقب من ذلك، كإله الحب؛ ونحو ذلك مما هو موجود في المنتدبات العربية فضلا عن غيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فهذه كلها يحرم تسمي المسلم بها، ويجب على من تسمى بشيء منها أو سماه به غيره أن يغيره، اللهم إلا ما كان صاحبه حديث عهد بالإسلام، وكان اسمه لا محذور فيه لذاته، مثل: جون أو بن (بنيامين)، فلا يلزمه تغييره. أما لو كان فيه معنى كفري أو شركي مثل عبد المسيح؛ فيلزمه تغييره.

القسم الثاني: ما يكره التسمي به أو التكني به أو ارتضائه لقبا؛ لتضمنه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بتحسين الأسماء. وله صور عديدة، منها: التسمي بما تنفر النفوس من معناه، إما لما يحمله من معنى قبيح أو غير محبوب، ومثالها: التسمي أو التلقب بحرب، ولهب، وهيام، ونحوها من الأسماء التي تحمل معان قبيحة أو منفرة.

ومنها: التسمي بأسماء فيها معان رخوة أو شهوانية، ويكثر هذا في تسمية الإناث، كالأسماء التي تحمل أوصافا جنسية أو شهوانية. ويرى بعض العلماء وجوب تغيير أمثلة من هذا النوع، مثل: وصال و سهام و نهال و غادة وفتنة (السلسلة الصحيحة، للألباني: 1/379).

ومنها: التسمي بأسماء الحيوانات المشهورة بالصفات المستهجنة، مثل: حمار وكلب و قرد ونحوها.

ومنها: التسمي بكل اسم مضاف إلى الدين والإسلام، مثل نور الدين وشمس الدين وكذلك نور الإسلام وشمس الإسلام، لما فيها من إعطاء المسمى فوق حقه، وقد كان علماء السلف يكرهون تلقيبهم بهذه الألقاب، ومنهم النووي و ابن تيمية _رحمهما الله تعالى_.

ومنها: التسمي بأسماء الملائكة، وكذلك بأسماء سور القرآن مثل طه ويس ونحوها، وهذه الأسماء هي من الحروف المقطعة وليست من أسماء النبي _صلى الله عليه وسلم_. ( انظر تحفة المودود لابن القيم رحمه الله _تعالى_ ص109).

وهذه الأسماء المكروهة، إنما يكره التسمي بها ابتداء، أما من سماه أهله بذلك وقد كبر ويصعب عليه تغييرها فلا يجب عليه التغيير.

الضابط الثاني: مراعاة الدافع والباعث على اختيار الاسم أو الكنية أو اللقب؛ لأنَّ لذلك أثراً في الحكم؛ فإن كان الدافع أمراً مشروعا كان اختياره مشروعا، وإن كان الدافع إليه غير مشروع فاختياره لذلك غير مشروع؛ لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "إنما الأعمال بالنيات".

فقد يصل اختيار الاسم أو الكنية أو اللقب، إلى درجة الكفر والعياذ بالله؛ كمن يتسمى بأسماء الكفار أو كناهم أو ألقابهم، حبا لهم وإعجابا بدينهم إن كانوا على دين، أو فلسفاتهم المناقضة للدين أو إلحادهم إن كانوا زنادقة أو ملحدين، وقد نظرت في قائمة الأعضاء في بعض المنتديات العربية، فوجدت فيها من يتسمون بأسماء الزنادقة والملحدين ودعاة القومية من أعداء الدين، وقيادات الأحزاب الشيوعية والعَلمانية، ورموز المذاهب الأدبية المستخفة بالملة، ونحوها؛ ويؤكدون الإعجاب بهم وبكفرهم، بذكر بعض مقالاتهم الفلسفية الكفرية - والعياذ بالله - فيما يعرف بالتوقيعات، ومنهم من لا يكتفي بذلك، فيكتبها بلغة القوم، ويضع صورهم الحقيقية أو الخيالية إمعانا في الضلال والانهزام، والتبعية المنافية حتى للولاء القومي والوطني الذي يزعمون. فهي عندهم في مقابل ما يضعه أهل الإسلام من الآيات والأحاديث والحكم والمقولات المشروعة، من كلام أهل علماء الإسلام وقادته العظام.

وقد يكون الأمر دون ذلك مع ما فيه من المخاطرة في الديانة، إذا كان اختيار الاسم أو اللقب أو الكنية لسبب آخر كمجرد التقليد؛ ولكن يبقى الحكم في دائرة التشبه، وقد قال _صلى الله عليه وسلم_: "من تشبه بقوم فهو منهم"، وقد فسره بعض العلماء بأنه يكون مثلهم في كفرهم، وإن كان الراجح – إن شاء الله تعالى – أنه من قبيل الوعيد؛ وما جاء فيه وعيد فهو من كبائر الذنوب التي تستوجب التوبة والإقلاع عن الذنب مع العزم على عدم العودة؛ فكيف بمن يرضى بالبقاء في جو الإثم بالكبيرة، نسأل الله العافية والسلامة.

وهكذا الشأن في التسمي أو التكني أو التلقب بأسماء الفساق والعصاة من المسلمين؛ فقد يصل إلى درجة الفسق، لما فيه من التشبه، كمن تعمد التسمي بأسماء المبتدعة من المسلمين، أو الفساق من المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات ونحوهم؛ مع ما في ذلك من الدعاية لهم.

أما ما كان باعثه أمراً حميداً، ككون الاسم حسناً ولا محذور فيه، ورغبه المسمي لحسنه، أو كان الدافع جهلاً بحال الشخص المسمى على اسمه، واغتراراً بحاله؛ فيجوز التسمي بما لا محذور فيه من هذه الأسماء والألقاب، لكن لأجل معانيها الحسنة وليس لأجل التشبه بأصحابها أو تقليدهم.

وهكذا التسمي بأسماء فيها معان تدل على الإثم والمعصية، مثل سارق وظالم، أو التسمي بأسماء الفراعنة والجبابرة مثل فرعون وهامان وقارون.

الضابط الثالث: مراعاة أثر الاسم أو الكنية أو اللقب على صاحبه، أو على من كان له به صلة. ويمكن بيان ذلك فيما يلي:

أولاً: أن للاسم أو اللقب أو الكنية أثراً على صاحبه؛ وهذا أمر جاء به الشرع في صور عديدة منها:
الأولى: ما جاء في أثر ذلك في الاقتداء والتأسي والموالاة، ولهذا كان الصالحون من الأمم السابقة يسمون بأسماء أنبيائهم، والصالحين منهم؛ فعن المغيرة بن شعبة _رضي الله عنه_ قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون: "يا أخت هارون"، وموسى ٌبل عيسى بكذا وكذا؟ فلما قدمت على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ سألته عن ذلك، فقال: "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" رواه مسلم؛ وفي حديث آخر مرفوع: "تسموا بأسماء الأنبياء" رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وهو مما يحتج به بشواهده. وفي الصحيحين أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم".

الثانية: ما جاء في أثر ذلك في استساغة معنى الاسم أو اللقب أو الكنية، وقد يؤدي إلى التلبس بما يدل عليه؛ فقد غير النبي _صلى الله عليه وسلم_ اسم بنت الفاروق _رضي الله عنه_ من (عاصية) إلى (جميلة) كما في صحيح مسلم. ومنه ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن زينب كان اسمها (برّة)، فقيل: تزكي نفسها، فسماها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ (زينب). ومنه ما جاء من أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ سأل (حزناً) - جد سعيد بن المسيب - فقال: (ما اسمك؟) قال: اسمي حزن. قال: بل أنت سهل). قال: ما أنا بمغير اسماً سمانيه أبي. قال ابن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد. رواه البخاري.

الثالثة: ما جاء من أثر ذلك في حسن الجواب أو بشاعته، التي ربما أوقعت بعض الناس في التطير وسوء الظن بالله _عز وجل_؛ ومنه ما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح، فإنك تقول: أثم هو. فلا يكون، فيقول: لا".

ثانياً: أن للاسم أو اللقب أو الكنية أثراً في حق من كان عرف واشتهر به. وذلك من جهة الإساءة إلى من اشتهر به.

وقد منع بعض العلماء تسمية القرى والمدن بأسماء الأنبياء؛ لِما فيه من " تعريض هذه الأسماء لمَا لا يلِيقُ بقَدْرهم، ومَنزلتهم، في مثل ما لو اشْتَجَرَ خلافٌ، أو وَقَعَتْ مُنافَسات بين أهل ومكان تلك القرى، فقد يقع في قرية، أو قرى منها مُوبِقَاتٌ، ومُنكَرات، فتُنْسَب إلى اسم النبيِّ أو الرسول الذي عُرفت به، أو سُميت باسمه القرية، أو يَسُبُّ أهل قرية، أهل قرية أخرى، وكل منهما قد تُسمَّى باسم نبيٍّ أو رسول، فيَتناول السب والأذى اسم كلٍّ مِن القريتين وهو اسم نبي أو رسول ".
و يظهر نحو ذلك في تسمي بعض الكتاب – في المنتديات - باسم عالم كبير، ويعرض اسمه وعلمه للأذى والاحتقار ممن يردون (يعقِّبون) على المتسمي بذلك.

ومن يتسمى بذلك فئتان: أهل خير، يفعلون ذلك من باب حب هذا العلم العالم؛ ولكنهم - مع ما في ذلك من تزكية النفس، وأكده بعض مشايخنا - يتسببون في تعريضه للإساءة والتنزيل من قدره، ومسبة ذوي الأهواء ممن يغيظهم ذكره، ولو فيما يكتب من الردود والتعقيبات؛ فتجده يطرح موضوعاً، ويأتي من يناقشه ويصفه بعبارات لا تليق بعوام المسلمين فضلاً عن علمائهم؛ كما تجد بعض من لا خلاق له من المتعصبة، يستخدم مثل هذه المعرفات بأسماء العلماء والمحققين في التدليس؛ فتجده ينسب إلى العالم ما لم يقله، فإذا ضيق عليه في البحث، قال: إنما قصدت فلاناً صاحبنا في المنتدى! فأي جرأة على العلم وأهله يورثها السماح بمثل هذا التسمي؟!

والفئة الثانية: قوم يعرِّفون أنفسهم بأسماء علماء الإسلام وقادة الأمة أو كناهم أو ألقابهم التي اشتهروا بها، وذلك للنيل منهم ومن علمهم، والاعتداء على الثوابت الشرعية باسمهم؛ فقد رأينا من يتسمى بأسماء الفضلاء ويأتي بمقولات لا يقبلها عامة المسلمين فضلاً عن غيرهم؛ ويكون في طروحاته على عكس من عرَّف نفسه باسمه أو كنيته أو لقبه من أهل العلم والفضل.

وعلى كلٍّ ففقه الأسماء والكنى والألقاب في الشريعة عظيم الحِكم؛ وقد نبه إلى ذلك عدد من العلماء منهم ابن القيم في مواضع، منها قوله: "لما كانت الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها؛ فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح والخفة والثقل واللطافة والكثافة كما قيل:

وقلما أبصرت عيناك ذا لقب *** إلا ومعناه إن فكرت في لقبه"

(زاد المعاد: 2/336).

فإذا علم أن هذا الاسم سيعرف به من تسمى به، ويلازمه و يرتبط بشخصيته، وقد يسبب له من الضيق والإحراج ما يجعله يضيق به مستقبلا؛ علم شأن هذا الضابط، وأهمية مراعاته. فينبغي تقليب الاسم أو الكنية أو اللقب على وجوه عدة، في ذاته، و معانيه وإيحاءاته، ومدى مناسبة الكنية إذا تكنى بها، واللقب إذا تلقب به؛ وعند الحيرة ينبغي له أن يستشير من يثق به في ذلك.

والخلاصة: أن الأمر مضبوط في شريعة الله، وأن الأصل في التسمي والتكني المشروعية والجواز؛ ما لم يتضمن ذلك أمراً محذوراً في الشرع، فحكمه حينئذ المنع، إما تحريما إن كان المحذور من باب المحرمات على اختلاف درجاتها، كالتعبيد لغير الله تعالى أو تعظيم الكفرة والملحدين والفجرة والظالمين والفسقة، أو الترويج لأفكارهم وشعاراتهم ومعتقداتهم، وإما كراهة إن كان المحذور من باب المكروهات، كتضمنه تزكية للنفس أو قبحا في المعنى. والله تعالى أعلم.

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية