اطبع هذه الصفحة


التقعيد لمكانة المرأة في الإسلام وفلسفة اختلافها عن الرجل (2)

د. سعد بن مطر العتيبي


في الحلقة الماضية كان الحديث عن قواعد عامة تبيِّن مكانة المرأة في الإسلام, وتتلخص في: تأكيد المساواة بين المرأة والرجل في الإنسانية, وأنَّه لا فرق بينهما في ذلك بأي حال؛ و أنَّ أحكام الإسلام المتعلقة بالجنسين تنطلق من مبدأ العدل؛ وأنَّ الإسلام برَّأ المرأة من التهم الموجهة إليها من رجال الديانات المحرّفة, وكشف زيف ادِّعاءاتهم؛ وأنَّه أكرمها بإبطال التصرفات الاجتماعية الظالمة وتجريمها, وبيّن حقوق المرأة المهضومة في المجتمع الجاهلي؛ وبيّن ذلك كلّه بياناً عملياً تطبيقياً, لِعِظَم شأن المرأة, وتأكيد كرامتها بالنصوص الشرعية, وما يتعلق بها من الأحكام التشريعية, ولمزيد تأكيد كرامة المرأة وبيان مكانتها في النصوص الشرعية, نجد أنَّه قد ورد ذكر المرأة في القرآن الكريم في عشرات المواضع, وقد أشرت إلى بعضها في القواعد السابقة؛ ويكفي أن نعلم أنَّ المرأة وردت في أكثر من عشر سور من الكريم القرآن الكريم بشكل مباشر, منها: سورة البقرة, وسورة المائدة, وسورة النور, وسورة الأحزاب, بل سميت سورة كاملة بسورة (النساء)!, وحملت سورة أخرى أوصاف بعض من طالبن بحقوقهن, بل خلّدت هذه السورة طريقة المطالبة, كما في سورة ( المجادِلة), وخلّدت سورةٌ أخرى المشاركة النسائية في الجانب السياسي, وذلك بذكر عرض أهم الموضوعات التي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وقبولهنّ لذلك, وهو ما حمله اسم سورة ( الممتحنة)؛ بل بيّن الله عز وجل عِظم شأن شريحة من النساء تنظر إليها بعض المجتمعات نظرة ازدراء, وكثيرا ما تنتهك حقوقهن, وهي شريحة المطلقات, ففصّل فيها تفصيلاً عجيبا, حتى جعل من حقها أن تأخذ أجرة على إرضاع ابنها من نحرها! وفي سورة تحمل اسم ( الطلاق), هذا بالجملة, وإلا فهناك عشرات الآيات التي تبيِّن أحكام النساء وحقوقهن وواجباتهن, فأي عناية أعظم من هذه العناية, وهذا كلّه فضلاً عن بقية نصوص القرآن الكريم التي تبين الأحكام الشرعية والآداب المرعية, التي تشمل الجنسين, ويعبّر فيها بتعبيرات تشملهما, مثل: الناس, والذين آمنوا, والذين كفروا, وغيرها.

تلبيس وردّ: وهنا سؤال يُطرح في هذا الموضوع فيُقال: لماذا ترث المرأة أقل من الرجل إذا كان لها مقام كبير في الإسلام؟

وهنا يقال: يجب على من يريد الحكم على شيء أن يتصوره تصوراً صحيحاً, فكثير ممن يتكلمون في الأحكام الشرعية لا يعرفون تفاصيل الأحكام الفقهية, ولا يدركون فلسفة التشريع الإسلامي, ولذلك ربما يفشلون في الفهم الصحيح لنصوص القرآن والسنة, وإذا أردنا تطبيق هذه الحقيقة على هذا السؤال سيتضح لنا جلياً أنَّه سؤال مبني على معلومات مبتورة وأفكار خاطئة وتصورات ناقصة, إذ الحقيقة أنَّ المرأة يختلف مقدار إرثها مقارنة بالرجل, من حال إلى حال, فالمرأة يختلف إرثها عن الرجل في حالات, وتتفق معه في حالات, وتزيد عليه في حالات, وتنقص عنه في حالات! ففي دراسة استقرائية متخصصة منشورة, قام بها أحد أساتذة الشريعة الإسلامية, في موضوع إرث المرأة, لكشف النسبة التي ترثها المرأة في مقابل الرجل, ظهر فيها: أنَّه بدراسة ثلاثين حالة يرث فيها الذكر والأنثى, تبيّن ما يلي:


* وجود حالات تأخذ فيها المرأة مثل نصيب الرجل تماماً؛ ومن ذلك ميراث الإخوة لأم مع الأخوات لأم؛ وهذه الحالة جاءت في قول الله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ} (سورة النساء: 12), وهي صريحة في تساوي نصيب المرأة مع نصيب الرجل في هذه الحال, ومن هذه الحالات - أيضاً - ميراث الأم مع الأب في حال وجود ابن وارث.

* وجود حالات تأخذ فيها المرأة أكثر من نصيب الرجل, وهذا كثير في حالات إرث النساء بطريق الفرض (أي النسبة المحددة شرعا), فلو هلكت امرأة عن زوج وأختين لأم, وأخوين شقيقين, فإنَّ كل أخت لأمٍّ تأخذ ضعف نصيب الأخ الشقيق! مع كونه أقرب إلى المتوفى, وفي هذه الفقرة ينبغي أن نعلم أنَّّ أكبر نسبة في الفروض هي (الثلثان) وهي خاصة بالنساء فقط!

* وجود حالات ترث فيها المرأة, ولا يرث فيها نظيرها من الرجال! ومن ذلك الجدات, فكثيراً ما يرثن, ولا يرث الأجداد, فلو توفي شخص عن أب أم, وأم أم, فهنا ترث أم الأمِّ, ولا يرث أب الأم,
وَجَد الباحث أربع حالات محدّدة, ترث فيها المرأة نصف الرجل؛ منها وجود البنت مع الابن, كما في قول الله عز وجل: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} (النساء :11), والحالات الأربع التي يرث فيها الذكر مثل حظ الأنثيين, تتفق في تشريعها مع فلسفة التشريع الإسلامي الفائقة, لمسألة الإرث, وبهذا يتضح أنَّ فلسفة التشريع الإسلامي لمسألة الإرث, تقوم على معايير لا تحكمها الذكورة والأنوثة, وإنَّما العدالة الإلهية, وهذه المعايير, لخّصها بعض المفكرين العارفين بالعلوم الشرعية – في ردِّه على مثيري هذه الشبهة - بأنَّ: التمايز في الميراث, .. محكوم بمعايير ثلاثة:


أولها
: درجة القرابة بين الوارث – ذكراً أو أنثى – وبين المورِّث – المتوفّى- فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث.

وثانيهما
: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال. فالأجيال الأقل سناً التي تستقبل الحياة عادة, يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال الأكبر سناً التي تستدبر الحياة, وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين. فالبنت ترث أكثر من الأم – وكلتاهما أنثى – بل وترث أكثر من الأب! والابن يرث أكثر من الأب – وكلاهما من الذكور!.

وثالثهما
: العبء المالي الذي يوجب الشرع على الوارث القيام به حيال الآخرين,. وهذا هو المعيار الذي يثمر تفاوتا بين الذكر والأنثى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين} (النساء:11), لأنَّ الذكر الوارث هنا – في حالة تساوي درجة القرابة والجيل – مكلَّف بإعالة أنثى (زوجةٍ). بينما الأنثى – الوارثة – إعالتها فريضة على الذَّكر المقترن بها أو الذي سيقترن بها – وحالات هذا التمييز محدودة جدا إذا ما قيست بعدد حالات المواريث, وبهذا المنطق الإسلامي يكون الإسلام قد ميّز الأنثى على الذكر في الميراث, لا ظلماً للذكر, وإنَّما لتكون للأنثى ذمّة مالية تحميها من طوارئ الأزمان والأحداث وعاديات الاستضعاف!

والخلاصة
: أنَّ هذه الشبهة هي في مصلحة التشريع الإسلامي لا ضدّه, لأنَّ الدراسة الموضوعية المتعمِّقة – وليس العاطفة المجرّدة - تثبت أنَّها شبهة صادرة عن جهل بأحكام التشريع الإسلامي, وأنَّ التشريع الإسلامي في توريث المرأة قمّة في الدِّقة والعدالة, يقوم على معايير منضبطة ومستقرّة؛ حتى في الحالات القليلة التي ورثت فيها المرأة أقل من الرجل, انطلق التشريع فيها من مراعاة واجبات مالية شرعية يتحمّلها الرجل ولا تتحمّلها المرأة؛ ولا غرو أن نجد هذه العظمة في التشريع الإسلامي, فالمشرِّع هو الله الحكيم الخبير, و هو الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى, وهو العالم بما يصلح كلاً منهما, وصدق الله العظيم: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.



التقعيد لمكانة المرأة في الإسلام وفلسفة اختلافها عن الرجل (3)

ملاحظة : نشر في موقع رسالة الإسلام

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية