اطبع هذه الصفحة


سماحة المفتي كما عرفته ! *

د.سعد بن مطر العتيبي


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد ..
فمما يتكرر أمام الشيخ حفظه الله في محاضراته ، ورود بعض الأوراق ضمن الأسئلة ، تطلب من الشيخ المسامحة من النيل منه والحديث عنه من غير تبيّن ، وكان جواب الشيخ دائماً : غفر الله لنا ولكم ، وقد يكون في بعض ما قلتم حق فنحن بشر ، لكن الواجب المناصحة ، والله يغفر لنا ولكم ..
وذات مساء ، تحدثت في مجلس أحسب جُلّ من فيه من الأخيار ، ولا أزكيهم على الله تعالى ، وإثر الإجابة على سؤال ، تطرقت لشيء من سِيَر بعض مشايخنا ، ومنهم سماحة المفتي حفظه الله .. ولما حان وقت انصرافي ، استأذنت في الخروج قبل انفضاض المجلس ، و ابتعدت عن الحضور قليلاً ، وإذْ بأحد الشباب يناديني ويلْحقني عجلاً .. تدانينا ، فناجاني بكلمات والعَبْرَة تخنقُه : أرجوك ! اعتذر لي من سماحة المفتي ! أرجوك ! لا تنس ! لقد تكلمت في عرضه في المجالس كثيراً .. دون أن أعرفه جيداً ، ودون أن أجلس معه .. وذكَر كلماتِ تأسفٍ صادقة .. قلت : هذا مع أني لم أذكر إلا شيئاً يسيراً لا يخفى على كل من عرف الشيخ عن قُرب ..
وحدثني أحد خاصة الشيخ أنَّ الشيخ علم بوفاة قريب له فذهب ليعزيه ، فلما خرج الشيخ تبعه أحد أولاد المتوفَّى ، وقال : يا شيخ أبح أبانا فإنَّ ربما تكلم فيك ! فقال الشيخ : الله يبيحه ويغفر لنا وله ، الله يسامحه .. وكان لهذا الخلق أثراً طيباً في أهل الميت .
والموقف الثاني ليس سوى موقف من أُخَر تتََكرَّر أمامي ، وتقع لي ولبعض أحبتنا المقربين من الشيخ حفظه الله ، مع عدد من الإخوة الذين لم يُعمِلوا قاعدة التثبّت والتبيّن التي ورد الأمر بإعمالها في الكتاب العزيز في مثل قول الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .. ولا سيما أنَّ الشيخ - حفظه الله وأطال في عمره على طاعته - حي يرزق بين ظهرانيهم !
نعم ، وددت أن استفتح مقالتي هذه ببعض ما أعرفه من أمور خاصة عن سماحة المفتي العام ؛ ليستشعر بعض أحبتنا ، من أمتنا ، في الداخل والخارج - كم يجنون على من لا يَعرفون ، وكيف يؤذون المؤمنين بغير ما اكتسبوا ، ويصيبوهم بجهالة ، ولا سيما من كان منهم من أهل العلم والفضل والعبادة والتواضع والإنصاف .. ومع علمي أنَّ هذا مما لا يرتضيه سماحته .. لكن هذا لن يمنعني بإذن الله من ذكر شيء من مواقفه على نحو عام دون ذكر وقائع بعينها ، ولا سيما بعد إصرار الأستاذ عبد العزيز قاسم سلمه الله على ذكر بعض مواقف سماحته ، ليطلع عليها الشباب ويفيدوا منها .. وعشمنا أن لا يعتب علينا سماحته ؛ لأننا عندما نتحدث عنه فإننا لا نتحدث عن شخصه فقط ولا عن مواقف خاصة ، وإنما نتحدث عن ملامح عامة من جهود قمة الهرم الشرعي المؤسسي في بلادنا ، مع ما له من حضور علمي وتوجيهي دولي في لقاءات علمية هاتفية ، ومؤتمرات علمية ودعوية يشارك فيها بالصوت والصورة أحياناً ، وهكذا شأن القيادات الشرعية العلمية المشهود لهم بالخير والصلاح في العالم الإسلامي ..
وبإطلالة سريعة على مجلس الشيخ – حفظه الله – يمكننا معرفة جزء من طريقته في التواصل والنفع ، فمجالسه ومكتبه ، يردها كثير من الناس على مختلف منازلهم العلمية والوظيفية .. فترى في مجلسه ومكتبه ، الصغير والكبير ، الأمير والوزير ، والعالم والداعية ، والمحتاج والمستشفع ، وذبك من عموم المسلمين ، من داخل المملكة وخارجها ..
فتارة يستضيف العلماء والدعاة ، فترى في مجلسه علماء ودعاة كثر ، ومن مشاهيرهم من علمائنا ودعاتنا على سبيل المثال : الشيخ عبد الله بن جبرين ، والشيخ عبد الرحمن البراك ، والشيخ سفر الحوالي ، والشيخ ناصر العمر ، والشيخ سلمان العودة ، والشيخ عبد الرحمن المحمود ، والشيخ عبد العزيز القاري ، وغيرهم كثير ، وربما اجتمع هؤلاء جميعهم وعشرات سواهم في مجلسه في زيارة ، أو على مائدته في استضافة ..
وتارة ترى المحتسِبين الناصحين من الشباب وغيرهم ، وهم يستصحبون ما يؤكِّد موضوع الاحتساب من وثيقة كإعلان صحفي مثلا عن منكر ما ، وهو ما يؤكِّد الشيخ أهمية إرفاقه في قضايا الاحتساب تأكيدا للتثبت ، واطِّراحاًً للشائعات .. ومن الظريف المعبِّر أنَّك ربما تجد المحتسِب ومن يُحتسَب عليه سوياً في مجلس سماحته ، ولا عِلْم لأحدهما بالآخر ! الأول جاء ناصحاً ولم يعلم أن الشيخ قد علم بالموضوع ، والآخر جاء استجابة لدعوة الشيخ له لذات السبب ، ولينصحه بالأسلوب المناسب ، في حال تأكد ما نسب إليه ! .. فكم أبطل الله به من إفساد ، وأزال به من منكر ، وصدّ به من آخر .. مرّة بالاتصال المباشر بصاحب الشأن ، ومرَّة بالذهاب إلى المسؤول ، وأخرى بالمكاتبة ، وهكذا نصح عام وخاص ، شأن أهل العلم العاملين .. وما أشدّ تأثر الشيخ – حفظه الله – حين لا تؤتي النصيحة ثمرتها العاجلة ، وهذا أمر يعلمه كل من كان قريبا منه حفظه الله ..
وتارة ترى مجموعات الشباب الزائرة من حلقات تحفيظ القرآن الكريم ، التي قلّ أن يعتذر الشيخ عن تشريف احتفالاتها.. وأحياناً تراهم يحملون وسائلهم الخاصة لتوثيق لقاءاتهم بالشيخ ، فإذا سألتهم ، قالوا : نريد أن يرانا أهلنا ونحن مع سماحة المفتي في مجلس توجيه وتربية .. وموقف سماحته من حلقات التحفيظ ومجالات تربية الشباب وأماكن حفظهم لا تخفى على المتابع لجهوده حفظه الله ، كيف وهو من أشد المدافعين عن الحلقات والمراكز الصيفية ، والمكذبين لما يشاع حولها من أباطيل ، فهو بعرفها عن قرب ، ويدرك أثارها الحسنة في السباب في التوجيه الوسطي للشباب ..
وهكذا يدير سماحته الحراك العلمي التعليمي والتوجيهي ، ويحرص على التشاور مع أهل الشأن ، ليثمر تعاوناً على البر والتقوى في المشهود والمنتظر .
وأما ما لا يكاد يفارق النظر متى جئت ، فذاك كثرة المستفتين والمحتاجين – ذكوراً وإناثاً – الذين ينتظرونه في جامع الإمام تركي كل فريضة من الفرائض الخمس ,,
ومما يحسن ذكره هنا للقراء ولا سيما أحبابنا الشباب : أنَّ للشيخ حفظه الله عناية خاصّة بالإعلام ومنكراته ، وله جهود متكررة مع متابعة عجيبة ! و احتساب خاص على كتاب الصحف وبعض رؤساء التحرير ، ومديري القنوات .. فهو عندما يقرأ مقالاً خالف فيه كاتبه ما لا يسوغ فيه الاختلاف شرعا ، تجده يتصب به مباشرة أو يدعوه إلى بيته ، ويناصحه بأسلوب لطيف ، يبدأ فيه بذكر ما يعرفه من محاسن الكاتب أو رئيس التحرير ، ثم يثني بما يعرفه عن والده أو أسرته من أعمال الخير وصفات الفضل ، ثم يعود إلى أصل الموضوع فيكشفه من الناحية الشرعية بالأدلة النصية والمعاني الشرعية ، بأسلوب لطيف ونصح واضح ، فلا يكاد يخرج الكاتب إلا وقد شعر بحكمة الشيخ وصدقه في النصح .. فالله يعلم كم من منكر ومخالفات شرعية ، حالت دون كتابتها ونشرها تلك النصائح والتوجيهات ، إما قناعة وإما حياء جعل صاحبه يعدل عنه .. فلا شك أنَّ لها أثراً في النفوس الشريفة ، حتى إنَّ بعض الكتاب يَعِد الشيخ أن لا ينشر شيئاً شرعياً حتى يعرضه على سماحته للتأكد من سلامته ، وبعضهم يستأذن في كتابة ما جرى بينه وبين الشيخ ، إلا أن الشيخ يمنعه من ذلك ويؤكِّد عدم سماحه بنشره ، وإن كان بعضهم قد نشر بعض ما دار بينه وبين سماحة المفتي قبيل الحج ، ولكن ذلك وقع دون إذن مسبق حسب علمي ..
ويمكن تلخيص منهج الشيخ في الاحتساب على ما دونه أحد خاضته في : المناصحة ، وعرض الحق مع الرفق ، وحسن الظن بالمدعو ، مع الانطلاق في ذلك كله من المنطلق الشرعي والبعد عن الأمور الشخصية ، ثم عدم التحدث بذلك .
هل نرى من الإعلام لجوءاً إلى سماحته لأخذ رأيه في كلِّ قضية شرعية ، بدل التسابق إلى أخذ رؤى شخصية فردية لا تمثل الأمة ، بلْه فتح المجال لمن ليسوا من المتخصصين ، أو هم من المتهمين في الشرع أحياناً ، ليتكلموا في كلِّ قضية علمية شرعية أو دعوية وتربوية ، تثار إعلاميا ؟
أجزم أنهم سيجدون عند الشيخ حفظه الله متابعات دقيقة مذهلة ، وحلولا شرعية للقضايا العامة والخاصة ! تعيد لهم شيئاً من المصداقية في الطرح الشرعي والدعوي ، ولا سيما أن سماحته كثير المشورة لأهل العلم ممن يظن عندهم رؤية شرعية من هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة وغيرهم من علماء الأمة وأهل الرأي فيها ..
لن نيأس بإذن الله ! فإنَّ في الأمة في كل مجال رجال ..
هذا والله تعالى أعلم . وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله .


وكتبه / د.سعد بن مطر العتيبي .
عضو هيئة التدريس بقسم السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء
11/12/1426 .
 

-------------
* مقدمة لقراءة خطبة سماحته في عرفة عام 1426هـ نشرت كما هي آنذاك .

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية