اطبع هذه الصفحة


الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية (5) ( أصول ونماذج )

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

د. سعد بن مطر العتيبي

 
في الحلقة الماضية كان الحديث عن الخصائص المتعلقة بذات الشريعة وسياستها الشرعية؛ وتبيّن من خلاله أنَّ تلك الخصائص لا وجود لها في السياسات الوضعية؛ بل إنَّ انتفاءها من السياسات الوضعية يُعد من خصائصها !؛ " ولولا أنَّ الشريعة من عند الله لما توفرت فيها صفات الكمال والسمو والدوام، تلك الصفات التي تتوفر دائماً فيما يشرعه الخالق، ولا يتوفر شيء منها فيما يضعه المخلوق " (1).

وفي هذه الحلقة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن الخصائص المتعلقة بالخضوع للشريعة..

الثانية : الخصائص المتعلقة بالخضوع للشريعة، والامتثال لها.
وعمادها أمران :
أ‌- احترام الشريعة الربانية، والانقياد لأحكامها رغبةً واختياراً.

وغاية هذا الأمر أنَّ الشريعة بحكم مصدرها تكتسب هيبة وقدسيّة وإجلالاً، واحتراماً من قبل المؤمنين بها، مهما كانت منزلتهم الاجتماعية؛ ومن ثم يلتزمون بها وينقادون لأحكامها برضى وانشراح صدر.
وأمَّا القوانين الوضعية فتفتقر - ضمن ما تفتقر إليه - إلى هذه المَزِيَّة؛ فدرجة احترامها لدى المُلْزَمين بها – إن وجدت - فمتردية؛ بل من يُخضعون لها يحرصون على إيجاد السبل والوسائل للتفلُّت منها؛ لعدم ثقتهم بعدالتها، وبسلامة واضعيها من التحيُّز والخطأ، ومنفذيها من الهوى والظلم، مع عدم الشعور الداخلي بلزوم احترامها. وهكذا يتضح أنَّ امتثال المؤمن للشريعة رغبة واختيار، وامتثال الناس للقوانين الوضعية قهر وإجبار (2)، هذا هو الأصل. فما أكثر التجاوز إذا أمنت المؤاخذة القانونية.
نعم وجد في جيل غربي - لا زالت بقاياه - كبارُ سنّ يحترمون القانون قناعة، ولذلك أسباب يتحدث عنها اباحثوا في موضوعات فلسفة القانون والقوة الملزمة به، وسأكتفي منها بأمر واحد تقريبا للفكرة ليس إلا، وهو : أن ذلك الجيل مرّ بمعاناة الفوضى المتمثلة في ظاهر منها الحروب السابقة للاستقرار؛ مما جعله يعضّ بالنواجذ على ما فُرض عليه من قوانين؛ وهذا يشبه ما تمسك كبير السن بالريال أو الدرهم أو نحوه من العملات المحلية، بسبب معاناته من العوز والفقر وشظف العيش فيما سبق، بينما نجد الجيل الجديد من الشباب الذين عاشوا الرغد مذ كانوا صغارا، لا يجدون – بسبب عدم معاناتهم - قيمة للريال أو الدرهم تجعلهم يحافظون عليها كما يحافظ عليها الآباء أو الأجداد ! وهكذا هو الجيل الجديد في المجتمعات الغربية، فإنهم ليسوا كآبائهم في احترام القانون والحرص على التزامه، لعدم معاناتهم من الانفلات الأمني الكبير ولا سيما زمن حروبهم الطاحنة التي كانت في تلك البلاد؛ وهذا من أسباب بحث الجهات التقنينية في تغيير القوانين وتشديد العقوبات الجنائية والجزائية على المخالفين المتجرئين على القانون، كبحا لجماح هذه الظاهرة في الجيل الجديد، ولعل هذه الصورة كافية في بيان المراد هنا.

ب - الجزاء على الأحكام الشرعية دنيوي وأخروي، يشمل العقوبة والمثوبة
(3).
وبيان هذه الخاصية : أنَّ جميع السياسات والقوانين تفرض على المخالف عقوبة رادعة؛ فالموجِب لانقياد الكافَّة (الشعب) لأحكام السياسة العقلية : ما يتوقَّعون من ثواب الحاكم بها، بعد معرفته بمصالحهم (4)، وما يتخوَّفُونَه من عقابه بتقدير عدم الانقياد؛ ويتحصل من ذلك أنَّ ملاك الطاعة : الرغبة والرهبة (5)؛ لكن الأمر في الشريعة مختلف في حقائقه عن القوانين الوضعية من وجوه، منها :
1) الجزاء في الشريعة دنيوي وأُخروي؛ بل إنَّ الأصل فيها الجزاء الأخروي، وإنَّما الدنيوي رادع لمن لم يؤمن بالدار الآخرة من المنافقين، أو من كانوا للكفر مظهرين، ولمن يضعف إيمانه أمام شهوة وقصد إلى معصية، وقد تكون جبراً لتقصيره، وتكفيراً لخطيئته، ليسلم من العذاب الأخروي (6).
أمَّا الجزاء في القوانين الوضعية، فهو دنيوي دائماً، تقرِّره وتوقعه السلطة البشرية التي وضعته؛ لتدبير نظامها في الدنيا، وهي سلطة لا تملك من أمر الآخرة شيئاً (7).

2) الجزاء الأخروي الذي تختص به الشريعة قد يكون مثوبة، وقد يكون عقوبة؛ فهو مشتمل على المثوبة للمحسن، والعقوبة للمسيء (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره*ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [الزلزلة]؛ كما أنَّ العقوبة فيه قد تكون بعدم المثوبة (الحرمان من الفعل ومثوبته)، وذلك عند عدم عمل المكلف للمستحب والمندوب، مع اعتقاده بحكمه؛ وقد تَدِقّ، كما لو أقدم على مكروه غير محرَّم. وذلك لأمرين :
الأول : أنَّ الأحكام الشرعية، منها الإيجابي بالأمر ومنها السلبي بالنهي. مثال الأول : أمرها بالمعروف عن طريق الثواب؛ ومثال الثاني : نهيها عن المنكر، من طريق الوعيد للمخالف بالعقاب (8).
وأمَّا القوانين الوضعية فسلبية فقط؛ ولهذا تقتصر على العقوبة دون المثوبة؛ وقد انبنى على سلبيتها خلوها من المندوبات والمكروهات (9)، بدلالاتها الشرعية.
الثاني : امتزاج أحكام الشريعة بالمعتقدات والأخلاق، امتزاجاً لا يبقى معه وجودان مستقلان؛ ولهذا فإنَّ الأحكام الشرعية والفقهية، تضع النية والقصد في اعتبارها ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)) (10).
وهذا أمر لا وجود له في القوانين الوضعيَّة؛ فإنَّها تُعنى بالظاهر، وتقف عند السلوك الخارجي، ولا تتعدَّى ذلك إلى هواجس النفوس، والنوايا الخفية، مهما انطوت عليه من خبث أو شرّ (11).
وهكذا فالسياسة الشرعية يستند الحاكم بها إلى شرع منزَّل من عند الله U؛ يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه، الذي جاء به مُبَلِّغِه (12).
مِمَّا سبق يتضح بجلاء أنَّ اختلاف المصدر بين السياسة المقيدة بـ(الشرعية)، والسياسات الوضعية، هو أصل الاختلاف، ومنبع تفجر الفروق، الذي يجب على طالب الحقيقة أن ينطلق منه في بحثه، فإن الإيمان بالشرع يستتبع العمل فتحقق السعادة، والإعراض عنه بضد ذلك، كما أن القناعة بصحة مصدر الشريعة، عند من لم يؤمن بها إيماناً يستتبع العمل – كافية في المنع من الاعتراض على تشريعاتها عقلاً، وعرفاً، على اختلاف الملل والنحل، ومن ثم فينبغي أن يكون البحث مع أهل الكفر : وجوب التزام الإسلام في المقام الأول؛ أما المناقشات المتفرعة عن ذلك فهي وإن كانت مطلوبة، لكنها إنما تعالج أطراف الجرح لا وسطه وعمقه، فلا يصح أن تكون هي الأصل في مجادلة الكافرين، ومن يتَّبِعهـم؛ فهـذا أساس المفاصلـة والاستقلال، بين الشرْعيَّـة التعبديِّة، والوضعيَّة العلمانية.
لعل في هذا ما يكشف شيئا من المراد..
وفي الحلقة التالية سيكون الحديث في ذكر الفروق من حيث الأصول التي يرجع إليها في تقرير السياسات إن شاء الله تعالى.

---------------------------------------
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي، للشيخ عبد القادر عودة رحمه الله : 1/25.
(2) ينظر : الإسلام مقاصده وخصائصه، د.محمد عقلة :30، ط1-1405، مكتبة الرسالة الحديثة : عمّان؛ والمدخل في الفقه الإسلامي، لمحمد مصطفى شلبي : 284- 285.
(3) ينظر : مقدمة ابن خلدون : 2/773 (ت/ علي عبد الواحد وافي)، وقاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمر الثقلين، لأبي العباس ابن تيمية [ ملحقة بمختصر الفتاوى المصرية ] : 640. تصحيح الشيخ/ محمد حامد الفقي بإشراف الشيخ عبد المجيد سليم، دار الكتاب العلمية : بيروت، والموافقات، للشاطبي :3/ 386، والمراجع اللاحقة.
(4) ينظر : مقدمة ابن خلدون : 2/773 (ت/ علي عبد الواحد وافي)، والمراد بالثواب : ما يعود على المجتمع من نفع في تطبيق ما وضع من سياسة روعيت فيها مصالحه. وينظر : المرجع اللاحق.
(5) ينظر : بدائع السلك في طبائع الملك، لابن الأزرق : 1/293.
(6) ينظر : المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، للشيخ د.عبد الكريم زيدان : 38-39؛ والمدخل في الفقه الإسلامي، محمد مصطفى شلبي : 284؛ والمدخل للتشريع الإسلامي، د. محمد فاروق النبهان :10، ط1-1977، وكالة المطبوعات : الكويت، ودار القلم : بيروت.
(7) ينظر : المدخل في الفقه الإسلامي، محمد مصطفى شلبي : 279.
(8) ينظر : القواعد الفقهية، لشيخنا د. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين : 158، ط1-1418، مكتبـة الرشد : الرياض؛ والمرجع السابق : 280.
(9) ينظر : المصدر السابق : 158.
(10) رواه البخاري : ك/ بدء الوحي، ب/كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، ح(1)؛ ومسلم : ك/ الإمارة، ب/ قوله "صلىالله عليه وسلم" : إنَّما الأعمال بالنية وأنَّه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، ح(1907) (155).
(11) ينظر : القواعد الفقهيـة، لشيخنا د. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين : 158؛ والمدخل للتشريع الإسلامي، د. محمد فاروق النبهان : 28.
(12) ينظر : مقدمة ابن خلدون : 2/773 [ ت/ علي عبد الواحد وافي ]؛ وبدائع السلك في طبائع الملك، لابن الأزرق : 1/291.



نشر في موقع المسلم http://www.almoslim.net/

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية