اطبع هذه الصفحة


الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
(الفروق من حيث جهة تقرير السياسات)

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

د. سعد بن مطر العتيبي

 
يتطلب ذكر الفروق بين السياسات الشرعية والسياسات الوضعية من حيث جهة تقرير السياسات، تقسيم هذا العنوان إلى فقرات.
وبيانه على النحو التالي:

أولاً:
جهة تقرير السياسات في كل منهما:
أ‌- الجهة التي تقرر السياسة الشرعية هي "أولوا الأمر"(1).
ب‌- والجهة التي تقرِّر السياسات الوضعية هي ما يعبر عنه بـ" سلطة إعداد الدستور"(2)، وذلك في أرقى صورها؛ وتختلف هذه السلطة قوة وتسمية، تبعاً لنوع الدستور الذي تضعه، من حيث كونه ناشئاً، أو معدَّلاً؛ وهي في أشهر تقسيماتها نوعان: (3)
1) تأسيسية أصلية. وهي التي تُعِد دستوراً جديداً، بعد انهيار المؤسسات الدستورية القائمة - نتيجة انقلاب أو ثورة أهلية مثلا - فتنشئ السياسة، وتجسِّد الفكرة القانونية في الدولة.
2) تأسيسية مشتقة. وهي التي ينص الدستور القائم على وجودها، فهي لا تنشئ دستوراً لكنها تعدِّل الدستور القائم، ولذلك تسمى: سلطة التعديل؛ وقد تتحول إلى سلطة تأسيسية أصلية، بمجرد تقوية كيانها، وزيادة صلاحياتها من مجرد التعديل الجزئي إلى التعديل الكامل الذي يشمل الإلغاء.

والخلاصة: أنَّ مُقَرِّرِي السياسة الشرعية " أولوا الأمر"؛ ومُقَرِّرِي السياسات الوضعية المعاصرة: أعضاء " سلطة إعداد الدستور ".

ثانياً:
ذكر الفروق بين جهة تقرير السياسة الشرعية، وجهة تقرير السياسات الوضعية المعاصرة بالنظر في المؤهلات.
يتجلَّى الفرق بين " أولي الأمر" و " سلطة إعداد الدستور" بالنظر فيما يلي:
أ- النظر في مؤهلات كلٍّ من الجهتين(4).
ـ فـ(أولوا الأمر) يشترط أن تكون تقريراتهم نتيجة (الاجتهاد المعتبر) الذي يشترط - ضمن ما يشترط لصحته - أن يصدر من مجتهد، والمجتهد يشترط فيه استيفاؤه شروط الاجتهاد – المطلق أو الجزئي بحسب الموضوع - وهي شروط كثيرة، لخصها العلامة أبو إسحاق الشاطبي - رحمه الله - بقوله: " إنَّما تَحْصُل درجة الاجتهاد لمن اتَّصَفَ بوصفيـن:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها "(5)، بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة (6)؛ وهذه المعارف تستلزم استعداداً شخصياً، ودراسة تكفل الإحاطة بأسباب الاجتهاد، ووسائله على نحو يوصله إلى القناعة بالحُكْم، التي يثمرها الشعور الحقيقي لدى المجتهد بأنَّه قد استفرغ وسعه في الوصول إلى الحكم عن طريق الاجتهاد المعتبر.
هذه لمحة مختصرة للمؤهلات العلمية والشخصية، " لأولي الأمر" فهم لا يُقِرِّون شيئا إلا من طريق الاجتهاد المعتبر.
أمَّـا " سلطة إعداد الدستور" فمُؤهِّلاتها لون آخر، فهي - كما مرّ - قسمان: تأسيسية أصلية، و تأسيسية مشتقة.
فالتأسيسية الأصلية تتكون من مجلسٍ منتخب، أو فردٍ يستعين بأشخاص معينين، أو منتخَبين (7)، أي أنها تتكون عن طريق الانتخاب، أو التعيين، وقد تتكون هذه السلطة من مجلسين(8).
والتأسيسية المشتقة تتكون مما ينص عليه الدستور السابق ضمانا للاستمرارية بين الدستور المرعي، والدستور المراد وضعه (9)، وهذه السلطة المنصوص عليها قد تكون معينة وقد تكون منتخبة.
ومن هنا فسلطة إعداد الدستور، إما أن تكون منتخبة، وإما أن تكون معينة؛ وهذا بيان مؤهلات كل منهما:
أمَّا السلطة المنتخبة - التي تتولى التنظيم (10) - فيشترط في أعضائها بعض الشروط المتعلقة بالقدرة على القراءة والكتابة (11)، والفوز بتأييد أغلب الناخبين (12)، وفقاً لنظام (الاقتراع العام) (13)، الذي لا يشترط في الناخبين فيه سوى شروط عادية، لا تتضمن معياراً علمياً، ولا دلالة على بصيرة (14).
وهذه النظرة المتساهلة في السياسات الوضعية، مبنيَّة على قاعدة مقتضاها حرية الجماعة في تقرير ما تشاء من تنظيمات بالطرق (الدستورية)، وهي قاعدة مبنية على الفكر الوضعي، الذي يمنح حق (التشريع) لغير الله، ليشرع ما لم يأذن به الله (15).
وأمَّا السلطة المعيَّنة، فإنَّ تحديد مؤهلات أعضائها، راجع إلى من يُعَيِّنُهم، فرداً كان أو حزباً، وهذا لا يمكن تحديده هنا، ولو أمكن في سياسة لم يمكن في أخرى، فقد يعود إلى فكر، أو هوى، أو مكانة ما.
وبهذا اتضح أنَّ تحديد المؤهلات في حالة (الانتخاب) و (التعيين)، أمام المؤهِّلات الشرعيَّة في غاية الضعف، ثم هو راجع إلى الفكر البشري، حيث يقوم (الشعب) بغثِّة وسمينه، أو (الفرد)، بتحديد أعضاء (سلطة إعداد الدستور).
ومن خلال العرض السابق، يتجلَّى بكل وضوح أنَّ مؤهِّلات: (أولي الأمر) تختلف اختلافاً جوهريا عن مؤهلات: (سلطة إعداد الدستور).
فالأولى لا يرقى إليها إلا من وصل رتبة الاجتهاد، وقد سبق الإشارة إلى شيء من شروطها، التي تَضْمَن استفراغ جهد العالم المعرفي والعلمي في بيان الحكم وحسن تطبيقه، وهذا ما جعل بعض الغربيين يصف الحكومة الإسلامية، بأنَّها: "حكومة العلماء" (16).
وأمّـا الثانية فقد تضم في عضويتها: المحامي - الذي يبحث عن الربح والمنصب في الغالب - والعالم، والممثل - الذي لا تقبل شهادته في القضاء الشرعي، وما هو أسوأ من ذلك، والواقع أظهر شاهد.

ثانياً:
بين " المجتهد " في الشريعة، و" الخبير القانوني ".
على فرض وجود صفة (الاجتهاد) في أعضاء (سلطة إعداد الدستور)؛ فإنَّ ثمَّة فروقاً جوهرية - أيضا - بين (المجتهد) في الشريعة، والخبير القانوني (17)، منها:
1) أنَّ المجتهد يشترط فيه شروط قوية، لا تتوفر إلا في القلة النادرة من الفقهاء - ممن يجمعون بين العلم والفكر - ليس أقلها التصور العام لأحكام الشريعة في العبادات والمعاملات، إضافة إلى ما سبق الإشارة إليه من شروط.
أمَّا الخبير القانوني أو " المجتهد في ظل القوانين الوضعية " (18) - إن سَلِمَ التعبير - فلم توضع له شروط محددة، ولا يشترط فيه الإلمام بجميع فروع القانون، وتبعاً لذلك، فإنَّ كلَّ من آنس في نفسه القدرة على التخصص في فرع من فروع القانون، يمكنه التصدي لذلك دون حرج، ما دامت عقيدة الحلال والحرام - التي تخيف المجتهد الشرعي وتحكم ضميره بالعدل؛ مستبعدة في القوانين الوضعية.
2) أنَّ المجتهد الشرعي مقيد بأصول استنباطية متعددة، محددة، أوسع بكثير من مصادر القانوني، ولذا فإنَّ مهمته تستلزم قدرات علمية شخصية، للقيام بوظيفة تحقيق المناط في موارد الاجتهاد، التي تتنازعها عدة أصول، وهذا أمر لا تستلزمه مصادر القانوني المتغيرة (19).
3) عمل المجتهد الشرعي مقيد بضوابط استنباطية أصولية، بينها الأصوليون في علم أصول الفقه، لا بد من مراعاتها والتقيد بها، وهذا علم لا نظير له في إطار القوانين الوضعية(20)، ونظراً لحاجة القانونيين إليه تم فرضه مقررا في عدد من كليات الحقوق العربية، كما يرى أستاذنا الشيخ الدكتور يعقوب الباحسين حفظه الله.
وهذا العلم يمنع ادعاءَ أهليَّة الاجتهاد ممن ليس أهلاً له، كما أنَّه معيار صحة الاجتهاد، المؤدية - بعد توفيق الله تعالى - إلى الصواب في الحكم عند سلامة التطبيق.
4) خير الفروق، وأرجاها.. وهو: أنَّ المجتهد الشرعي مثاب ومأجور على اجتهاده، حتى لو أخطأ فيه ما دام حسن القصد، باذلاً الوسع، مؤهلاً لذلك؛ فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر(21).


--------------------------------------
(1) ينظر: ما سبق في شرح التعريف المختار للسياسة الشرعية بالمعنى الخاص؛ و دور أهل الحل والعقد في النموذج الإسلامي لنظام الحكم، لأخينا د.فوزي خليل: 154.
(2) ينظر: الدستور والمؤسسات السياسية، د. إسماعيل الغزال: 35.
(3) ينظر: المصدر السابق.
(4) وهذا يعبر عنه بـ" الناحية العضوية ".
أمَّا مجال كل من الجهتين فهو موضوع الأمر الثاني، وهو ما يعبر عنه بـ"الناحية الموضوعية".
(5) الموافقات: 5/41-42.
(6) المصدر السابق: 5/43. وهذه المعارف كثر كلام الأصوليين فيها، غير أنَّه يمكن ذكر أهمها معدداً في النقاط التالية:
1- العلم بلسان العرب بحيث يمكن فهم نصوص الكتاب والسنة.
2- العلم بنصوص الأحكام من الكتاب والسنة الصحيحة وما يتعلق بها.
3- العلم بأسباب النزول ومناسبات السنة.
4- العلم بالناسخ والمنسوخ.
5- العلم بأصول الفقه: المنهج العلمي للاستنباط.
6- العلم بمواضع الإجماع، ينظر - مثلاً - إرشاد الفحول، للشوكاني:250-252.
7- العلم بما لا يُعْرَف موضوع الاجتهاد إلا به (الخبرة بالشؤون العامة).
ينظر: الموافقات: 5/128، وبحوث مقارنة في الفقه الإسلامي، د. محمد فتحي الدريني: 1/62-63؛ وأبحاث إسلامية، د. محمد فاروق النبهان: 126-127، ط-1406، مؤسسة الرسالة: بيروت.
(7) فالسلطة الأصلية الديمقراطية يتم اختيارها عن طريق الانتخاب في شكل مجلس وطني أو جمعية تأسيسية أو مؤتمر دستوري ويسمى الشكل التمثيلي أو شبه التمثيلي، أو في شكل مجلس تأسيسي يعد الدستور، لكنّه لا يدخل حيز التنفيذ إلا بعد موافقة الشعب؛ أو يتم اختيارها عن طريق الاستفتاء السياسي، بحيث يقبل الشعب ما يعرض عليه ولا يقرر شيئاً، وهذه الطريقة المعتادة لإعداد الدساتير في الحكومات الاستبدادية ـ مع أنَّها تعد شكلاً ديمقراطياً؟! حيث تضفي على هذه الدساتير الصفة القانونية؟!
والسلطة الأصلية الفردية، منها: المطلقة، التي يحدد مالك السلطة فيها سلطته تحت مسمى المنحة أو الهبة، أي أنَّه يمنح رعايا الدولة دستوراً ينظم بموجبه سلطانه، ويعرف بـ" الدستور الهبة " ومنها: المقيدة، التي لا ينفرد فيها الرئيس أو الملك بإعداد الدستور، بل يشترك معه ممثلو الأمة نتيجة للضغوط التي يمارسونها عليه، ويعرف هذا الدستور بـ" الدستورالميثاق ". هذه خلاصة كلام القانونيين في هذه المسألة.
ينظر: الدستور والمؤسسات السياسية.د. إسماعيل الغزال: 35-37 وما بعدها، وأسس العلوم السياسية في ضوء الشريعة الإسلامية، د. توفيق الرصاص: 153-154، والاستفتاء الشعبي بين الأنظمة الوضعية والشريعة الإسلامية، د. ماجد راغب الحلو:181 وما بعدها.
(8) وهذا يتجلى في الدساتير المرنة عند إرادة تعديلها أو إلغائها. ينظر: الدساتير والمؤسسات السياسية، د. إسماعيل الغزال: 204 وما بعدها.
(9) وقد تتولى السلطة القضائية تعديل الدستور عن طريق التوسع في تفسير النصوص الدستورية في الدساتير الجامدة.
(10) ومنها ما يسمى بـ" السلطة التشريعية ". وانظر ص: 71، الهامش رقم (3).
(11) ينظر: النظم السياسية والقانون الدستوري، د. سليمان بن محمد الطماوي:252، ط-1988م؛ والسلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، د. سليمان الطماوي:110-118؛ ود. فاروق البنهان: 126.
(12) ينظر: النظم السياسية والقانون الدستوري د. سليمان الطماوي: 253. والناخب: المنتخِب، بكسر الخاء، والانتخاب: " إجراء قانوني يحدد نطاقه ووقته ومكانه في دستور أو لائحة ليختار على مقتضاه شخص أو أكثر لرياسة مجلس أو نقابة أو ندوة، أو لعضويتها، أو ننحو ذلك. محدثة ". المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية: مادة (نخب).
(13) حيث يتم الانتخاب على قواعد تكفل اتساع نطاق التمثيل إلى أكثر عدد ممكن. ينظر: السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، د. سليمان الطحاوي: 318؛ و الاقتراع: الاختيار، والمقترع: الناخب الذي يعبر عن اختياره بإدلائه بالصوت، أي: الرأي الفرد في الانتخابات، من القرعة. ينظر: قاموس الدولة والاقتصاد، لهادي العلوي:26، ط1-1997م، دار الكنوز الأدبية: بيروت.
(14) كشرط الانتماء للبلد (الجنسية) والذكورة والأنوثة (الجنس)، والسنّ، وعدم اقترافه جرائم معينة، وإن كان هذا الشرط الأخير قد خُفف بطرق متنوعة. ينظر: النظم السياسية والقانون الدستوري، د. سليمان الطماوي: 211 وما بعدها وص 249.
(15) وهي ما يعرف بـ(نظرية السيادة) انظر في بيانها وبطلانها السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية، د محمد أحمد مفتي ود. سامي بن صالح الوكيل، ط-1411، مركز بحوث الدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى: مكة المكرمة، ونظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية، د. صلاح الصاوي، ط1-1412، دار طيبة: الرياض. وقد كتب فيها كثيرون، غير أنَّ كثيراً منهم لم يَسْلَم من لوثتها.
(16) وهو: سنوق هيرجرونج. ينظر: فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصمة أمم شرقية، د. عبد الرزاق السنهوري: 54 [ الأصل والهامش ] ط2-1993م، ترجمة/ د.نادية عبد الرزاق السنهوري ومراجعة د. توفيق الشاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(17) ينظر: الاجتهاد في الفقه الإسلامي، ضوابطه ومستقبله، د. عبد السلام السليماني: 457-458 [ مع بعض التوضيح ]، ط-1417، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية.
(18) المصدر السابق.
(19) ينظر الفرقان الأول والثاني في المصدر السابق.
(20) المرجع السابق، وعلم القانون والفقه الإسلامي، د. سمير عاليه:30، فقد خلت مباحث أصول القانون عن المجتهد الذي يستنبط الأحكام، وهذا حد أركان أصول الفقه.
(21) الاجتهاد في الفقه الإسلام ضوابطه ومستقبله، د. عبد السلام السليماني: 458. وآخره معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر »، رواه البخاري: ك الاعتصام بالسنة، ب / أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ح(7352)، ومسلم، ك /الأقضية، ب/ بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ح (15) (1716).



نشر في موقع المسلم http://www.almoslim.net/

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية