اطبع هذه الصفحة


خواطر وذكريات من وحي جنازة العلامة ابن جبرين رحمه الله

د. سعد بن مطر العتيبي


بسم الله الرحمن الرحيم


للتوِّ عدتُ من منزل الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين رحمه الله ! وقد عزيت إخوته وأبناءه ومن وجدت من أحفاده ..

حاولت حين عدت إلى المنزل أن أمارس حياتي الطبيعية في المكتبة ، لكني وجدت الذهن يشرد ! فقد تتالت كثير من الذكريات وأنا في طريقي إلى المنزل ، فلم أجد خيارا أفضل من الاسترسال مع الذهن ، وتدوين ما يمليه ، دون تعكيره بتكلّف نسق ما من الكتابة ! فوجدته يدفعني لأكتب ما يمليه .. فكتبت :

1) لقد رأيت جموعا كبيرة تتالى على منزل الشيخ للعزاء ، ما بين رجال ونساء ، وكان للدوريات حضور في تنظيم الناس ، و وقوف السيارات ..

ومن شاهد مسارات الناس التي تمتد خلال المنزل إلى مقرّ إخوة الشيخ وأبنائه داخل مجلس العزاء يوقن أن الحضور ليس كلهم على صلة بالشيخ أو ذويه .. والجميع يسلم ويعزي ويخرج حيث لا يسع المكان للجلوس لكثرة الناس ..

وكنت حضرت مع زميلين كريمين ، وكلنا له صلة بالشيخ وبعض أبنائه وبعض إخوانه ؛ فالشيخ الدكتور عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله أستاذ جامعي معروف ، وهو ممن عرفتهم منذ كنت طالبا في كلية الشريعة ، وكانت ثم صلات عديدة .. وأما الأستاذ ناصر أخو الشيخ فهو زميل قديم ، حين كنا بكلية الشريعة ، وكذا الأستاذ سليمان بن الشيخ عبد الله ، فهو من أقراني ، و زملائي مدة دراستي في كلية الشريعة بالرياض ، وعلاقتنا مستمرة من تلك الأيام ولله الحمد والمنّة ..

لكن ليس كل المعزِّين في الشيخ له صلة بالشيخ و بمن يعزونه في الشيخ ، شأن من حضروا صلاة الجنازة أو تبعوها وشيعوها إلى المقبرة .. فأن يعزي المَعَارف ، أمر عادي ، لكن أن يأتي معزون كثيرون لا معرفة لهم بمن يعزّون على الإطلاق ، فتلك المنقبة لهم وللشيخ رحمه الله !

وقد اختصر أحد كبار السن - ممن يظهر عليهم أثر الوجاهة - هذا المعنى بقوله ونحن نسلم عليه عند مدخل مجلس العزاء ، بقوله : كلنا نُعزّى في الشيخ ، فليس العزاء خاصاً بقرابته !
قلت : صدق والله ، فالشيخ شيخ أمّة !

2) وبالأمس كنت حضرت جنازة الشيخ ذاته ، وانتابتني مشاعر شتى ، أثارتها إضافة إلى الحدث : شجون الزمان والمكان ! وهنا أترك العنان للقلم ليخفف عني شيئا من وقع فقد هذا الشيخ الجليل على النفس .. ولا سيما أنني رأيته آخر مرّة في مكان أكاد أجزم أنه لم ولن يخطر على بال قاريء ! ووقع في ذات المكان ما آلمني كثيرا .. وسأذكر ذلك المكان في مناسبته من هذه المقالة إن شاء الله تعالى ، وإن كنت قد لا أطيق ذكر ما آلمني حينها ..

اتجهت الضحى العالي يوم الثلاثاء ، في الساعة الحادية عشرة والربع تقريبا إلى جامع الإمام تركي ( الجامع الكبير بمدينة الرياض ) واتصلت في الطريق على أحد حمائم ذلك الجامع ؛ لأحدد طريقة وصولي للجامع ، فأخبرني أنه موجود في المسجد منذ الساعة العاشرة والنصف .. وأنه وجد صعوبة في وجود موقف لسيارته ؛ ففكرت في إيقاف سيارتي والانتقال للمسجد عبر سيارة أجرة ( ليموزين ) - أو سيارة كِراء كما عربها المرور القطري - .. لكنني قرّرت الذهاب بالسيارة مع الابتعاد عن مواقع الزحام والضنك ، ولا سيما أنني أكاد أحفظ كل طريق وزقاق في تلك المنطقة ، لكثرة ترددي إليها ، وتجولي في سن الصبا مع الرفاق حواليها .

واحتياطا لمثل هذه الجنازة التي كان جميع من يعرفون الشيخ يتوقعون أن يكون حضورها كبيرا مشهودا ، أوقفت سيارتي ككثير من الناس قرب مسجد العيد غربا منه - أي بالقرب من المنزل الطيني الذي كان الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله يلقي فيه أوائل دروسه ، التي لم يكن يحضرها - كما كان يحدِّث رحمه الله - في بعض الأحيان إلا ثلاثة : الشيخ ( ابن جبرين ) ، وأحد الطلبة اليمَنيين ، وإبريق الشاي !! وهي مسافة تقارب خمسمائة متر عن المسجد تقريبا من الناحية الجنوبية الشرقية للجامع الكبير ( جامع الإمام تركي ) بوسط مدينة الرياض .

سرت مع جموع المشاة مرورا بمحطة الإطفاء ، متجهين شمالا إلى الجامع ، مرورا بموقع المنزل الذي كان يسكن فيه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله قبل انتقاله إلى حي البديعة ..

3) تلك الطريق التي تتخلل أسواق الديرة الشهيرة ، والتي منها سوق الزل العريق ، وسوق الآثار الذي يرتاده الخواجات منذ عرفته ..
تلك الطريق التي طالما رأيت - وأنا بجوار والدي رحمه الله في سيارته ذاهبين إلى الندوة الأسبوعية - شيخَنا ابنَ باز رحمه الله يسير على رصيفها الغربي ، قبيل الغروب متجها إلى الجامع الكبير حين كان يؤمه ، ويلقي فيه دروسه ! ويعلق فيه على محاضرات الجامع وندواته الشهيرة آنذاك حين كان مقدمها الشيخ عبد الجواد ..

ذلك الجامع ذي المبنى العريق ، الذي طالما حدثني خالي مخلد بن ضويحي عن مشاركته في بنائه وذلك حين قدم من الدوادمي صغيرا بحثا - كلداته - عن سوق العمل ! فكان له نصيب من البناء مع معلّم البناء ! - ذلك البناء القديم ، المسقّف بأعمدة خشبية طبيعية ، لتعاقب الطيور بينها وقْع في النفس يبعث على الأنس ، في زمن الطفولة ! كان ذلك قبل أن يُنقض البناء القديم ببضعة عشر عاما ، ذلك النقض المرحلي الذي أثار أشجان مؤذنه الشهير الشيخ عبد العزيز بن ماجد رحمه الله ! فلم يتمالك نفسه حيث خنقته العَبرة ، ثم انفجر باكيا ! وذلك أثناء آخر نداء رفعه من ذلك المبنى القديم ..

4) وعودا إلى خبر جنازة الشيخ عبد الله ابن جبرين رحمه الله !
سرت بجانب الطريق على ذات الرصيف الغربي ، والناس تسير فيه كالسيل الجارف في جميع الطريق : وسطه وجانبيه ، ولفت انتباهي : خروج أصحاب المحلات التجارية - على جانبي الطريق - أمام متاجرهم ! يشاهدون الجموع بدهشة ، وتلحظ تهامس الأعاجم والغرباء منهم بالسؤال : ما الحدث ؟! فترى الحيرة أحيانا ، وتسمع الجواب أحيانا أخرى ، يتكرر ذلك أمام ناظريك - وأنت تسير نحو الجامع - بتكرر السائلين والمجيبين ..

وذكرني هذا المشهد بأسئلة مشابهة كنت أطرحها مع بعض الرفاق استفسارا عن حشود رأيناها في وسط مدينة باريس قبل بضعة أشهر ! فكان الجواب هناك : إنها مظاهرات رسمية ، أي مرخّصة وفق قانون المظاهرات !

ولكن وجدتني أردد في نفسي : إن هذه مظاهر تعبدية .. لا مظاهرات سياسية .. وشتّان بينهما .. ومن ثم فلا تحتاج لإذن لتكون رسمية ! بل قد أعدت الجهات الرسمية عدتها في التنظيم والتسيير ، منعا للاختناقات المرورية ، ولا سيما في جو ساخن بسخونة صيف الرياض ! وإن كان الله قد أنعم علينا حينها بهواء يبدد شيئا من سكون الحرارة ..
وسرت حتى انحنى الطريق ، فتبيّن الجامع للناظر من بين المباني ، وكانت المفاجأة أن جميع الأبواب الجانبية الجنوبية للجامع مغلقة ، ما عدا الباب الأخير الذي يُدخَل منه على الساحة المكشوفة في المسجد ، وإذا النّاس يتدافعون فيه دخولا ، في مشهد ذكرني اندفاع الناس إلى الحرم المكي بعد الأذان من باب الفتح أو باب الملك عبد العزيز رحمه الله ! ومن شهد ما شهدت يعلم أني لم أبالغ كما قد يظن بعض من لم ير المشهد !

ورأيت بعض الناس يخرجون من ذات الباب الكبير ، ومن بينهم شيخ كبير يتكئ إلى عصاه ، ويردد : يقولون ما فيه محل إلا في الشمس !

ومن عادتي في الزحام ، أني لا أستمع إلى الناس ، حتى أرى .. وما إن تخللنا من الباب حتى رأينا جميع المواقع التي لها نصيب من الظل قد امتلأت ! وبقيت الساحة المكشوفة محل تردد من بعض الواقفين ، لشدة الشمس وطول الوقت المتبقي ! وهنا جاء فرج عاجل ، بتقدم بعض الصفوف التي تلي صف الحرس الرسمي داخل المسجد ، نتيجة تضييق الحرس لدائرة الحراسة ، كما هو معتاد في مثل هذه الأحوال .. فدخلنا في الجزء المسقوف من الجامع ، وانتظرنا الصلاة ..

وقد ضجر أحد المصلين أمامي فرجع إلى الصف الذي أنا فيها ، وهو يردد : الناس يحملون أحذيتهم في المسجد !! - وكأنه لم يتحمل حمل الناس لأحذيتهم - .. قلت له : يا عم ! الأمر كما ترى ، هذه زحام والناس تريد أن تدرك المقبرة أيضا .. فسكن وبدأ يتلو من سورة الكهف في انتظار الصلاة حتى ختمها ! فخلته قد وهم في ظل الزحام أنَّ اليوم يوم جمعة ! ونسي أن اليوم يوم ثلاثاء !!

وقد اتصل علي بعض الإخوة وأنا في المسجد ، يسألون عن إمكانية الصلاة داخل المسجد ، وكان منهم أخي يعقوب وبصحبته أخي أحمد ، حيث كانا قد أوقفا سيارتهما بقرب المكان الذي أوقفت فيه سيارتي ، لبعده عن مجامع الزحام المشهورة .. فأخبرته أن جوف الجامع قد امتلأ ! وقد أعلمني فيما بعد أنه صلى مع الجموع الكبيرة التي بلغت في صفوفها - تحت الشمس الحارقة - قريبا من أسواق الثميري جهة الشرق !

5) صلينا الظهر ، وأمّنا في الصلاة نائبُ سماحة المفتي في إمامة الجامع الكبير ، زميلُنا الشيخ الصالح - نحسبه كذلك ولا نزكي عل الله أحدا - الدكتور عبد الله بن عبد العزيز آل الشيخ ، إذ لم يتمكن سماحة المفتي العام من القدوم لمدينة الرياض مع محاولته لذلك، لالتزامه بعدد من المواعيد الرسمية السابقة في مدينة الطائف فصلى عليه صلاة الغائب بمسجد الإفتاء هناك.

ثم أعلن شخص لم يتبيّن لي من هو : أننا سنصلي على جنازة العلامة الشيخ عبد الله بن جبرين ، وخنقته العبرة ، وتحشرجت الكلمات في مخارجها ، وأكمل - بصعوبة - ذِكْرَ اسمِ جنازة أخرى لم أتبينها .. وتأخرت الصلاة بضع دقائق ، وعلَت أصوات بعض المنظمين في الجامع ، ولم أشاهدهم ، لكني عرفت صوت أخينا إبراهيم بن عبيد ، وهو من المشرفين على الجامع ، حيث كان يوجه بعض الناس بالابتعاد عن الإمام ليتمكّن الإمام من الصلاة .. وبدأ بعض الناس يجهش بالبكاء ، بل قد انفجر بعضهم باكيا ، وتكاثرت مرتفعة بالبكاء الأصوات ، وذلك من حين كبر الإمام لصلاة الجنازة ، وكان بجانبي رجل من العسكر ، ذو رتبة عالية ، فكانت حركة اضطرابه جسده وهو يحبس البكاء تشغلني عن بعض الدعاء ، و كان ينحني من شدّة ما يجد ! وقد ظهر صوت الإمام بالدعاء قريبا مما لو كان يجهر بالقراءة ، وربما كان السبب في ذلك : كثرة الأصوات الباكية حوله ..

سلّم الإمام ، وبدأ الناس في الخروج من المسجد ، وانتظرت اندفاع الناس ، ورأيت عددا من الأحبة والمشايخ فعزيتهم ، وكان منهم الشيخ عبد الله المطلق حفظه الله ، وقد رأيته متأثرا تأثرا لا يستطيع إخفاءه .. ومنهم مِن خارج الرياض حبيبنا الشيخ سعد الغنام حفظه الله ! وقد أخبرني أنه جاء مع جمع من الإخوة من الخرج ، ليشهدوا الجنازة ..

وما إن خرجت من المسجد حتى رأيت بعض أحبتنا من أهل مدينة جُدّة ! فسألته بعد أن تبادلنا التعازي : منذ متى وأنتم في الرياض ولم تخبرونا ؟ فأجاب : أتينا البارحة في وقت متأخر ، حيث لم نتمكن من المجيء جواً ، وخشينا فوات الجنازة ، فأتينا بالسيارات ، مع جمع من الدعاة وطلبة العلم ، وذكر لي بعضهم من أعيان مدينة جدة ! فحمدت الله عز وجل أن يسر لهم الوصول ، والمشاركة في الصلاة على عالم لم يَرُدّ لأهل جُدّة طلبا كما يعبر أحدهم ، لا طلب محاضرة ، ولا دورة علمية ، ولا دعوة إلى عضوية في مجلس إدارة مكتب دعوي ، ولا غيره !

قلت : هذا ديدن الشيخ رحمه الله ! فهو لا يرد طلبا يمكنه تحقيقه ، لا لأهل جدة ولا لغيرهم ! من شرق المملكة إلى غربها ، ومن جنوبها إلى شمالها ، وما بين ذلك ! فأيّ همة تلك الهمّة ! وأي توفيق ذلك التوفيق ! وما أراه إلا عوناً من الله للشيخ ، فلعل الله علم منه صدق النية ويسر له العمل .. وإذا أراد الله بعيد خيرا هيأ له من أسباب الخير ما يعجز عنه غيره ..

ومما لفت انتباهي : كثرة الأخوات اللاتي قدمن للصلاة على الشيخ رحمه الله ! وعلمت من أخي يعقوب أن صفوف الناس كانت أكثر مما رأيت وأنا أنصرف .. وهنا تذكرت أختا اتصلت عليّ ليلة الثلاثاء ، تسأل : هل يجوز أن أصلي على الشيخ صلاة الغائب ! لأنني خارج الرياض ؟!!

وانطلق الناس إلى المقبرة ، فمنهم من وصل ، ومنهم من انقطعت به السبل ، لشدة الزحام ، فقد تحولت بعض الطرق إلى مواقف للسيارات ، وأحدث هذا نوعا من الخلل في وصول الراكبين ، فسبق الراجلون الراكبين ..

حقا لقد كانت جنازة الشيخ رحمه الله من الجنائز الكبيرة ، في قائمة الجنائز الشهيرة في مدينة الرياض ، كجنازة الشيخ حمود التويجري ، والشيخ صالح الغصون رحمهما الله ، وغيرهم ..

6) لقد كانت هذه الجنازة الكبيرة المهيبة ، رداً صارخا على من يظنون أنهم يقللون من حب الناس للعلماء ، واقتداء الناس بهم ، حين ينالون منهم بشكل أو آخر !

لقد كانت مقولة الإمام أحمد التي تبيّن سنة من سنن الله في وقوف الأمة الصالحة إلى جانب علماء السنة ، مهما نال أهل البدعة منهم \" بيننا وبينكم الجنائز \" .. وهو وقوف شهادة بالديانة ، وسلامة المنهج .. ومثالها في الماضين : جنازة الإمام أحمد بن حنبل ذاته التي خرج فيها أهل بغداد حبا له ، لا جماهير شهرة كجنائز بعض أهل الفن ، أو تغرير إعلامي كجنازة عبد الناصر مثلا .. وكثرة الحضور في الجنائز التي أشار إليها الإمام أحمد رحمه الله ، ما هي إلا صورة من شهادة الأمة الصالحة ( شهداء الله ) العدول باجتماع شهادتهم .. لا شهود المشاهير .. التي تدفع إليها كوامن النفس التي تبحث عن إكمال مشاعر النقص في الاقتراب من المشاهير ! أو حب الظهور معهم ، ولو للذكرى في صورة أو لقطة !!

7) وأمَّا الحديث عن الشيخ العلامة عبد الله ابن جبرين فحديث ذو شجون عند من لم يلازمه مثلي ، فكيف بمن لازمه وتتلمذ بين يديه دهرا ؟!

الشيخ العلامة عبد الله ابن جبرين عالم أتشرف بوجود اسمه في بعض الوثائق الشخصية الرسمية الخاصة بي .. لكنني أقول بكل أسف : لم أشرف بالتتلمذ عليه ، وغاية ما يمكن أن أقوله في موضوع التتلمذ عليه ، هو حضوري لبعض دروسه في مُدد لا تتجاوز بمجموعها بضعة أشهر ! حين كان ينوب عن شيخنا العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله في الجامع الكبير إيَّاه ، وبعض حلقاته في جامع الراجحي القديم بحي الربوة ..

والسبب في ذلك التزامي بنصيحة أحد شيوخي في عدم الإكثار من الشيوخ في فترة الطلب الأولى ؛ لأن ذلك مما يفوّت الإفادة العلمية المطلوبة ، ولا سيما في الجانب التأصيلي ..

وكنت قد التزمت دروسا رئيسة لثلاثة من العلماء الكبار أيضا ، وهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ! في دروسه بالجامع الكبير وجامع سارة ومسجد الحي - وهي الدروس التي ربطني بها شيخي الأول ، أعني والدي مَطراً رحمه الله وقد تحدثت عن شيء من ذلك في ذكريات بدايات الطلب - ؛ والشيخ عبد الله بن حسن بن قعود رحمه الله ! في دروس خاصّة متخصصة منتظمة في منزله بل في مكتبته الخاصة ؛ والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان حفظه الله ! في دروسه بمسجد الإفتاء ، ثم في درسه المتخصص بعد العشاء من مساء كل اثنين ..

وقد عتبت على محرر صحيفة عكاظ بالأمس حين زعم في تقرير الصحيفة عن الشيخ رحمه الله أني أحد تلامذة الشيخ ! وهو شرف لم أحظ به على الوجه الصحيح ، إذ لا تكفي المدة التي قضيتها في حلقاته للزعم بأني من تلاميذه ؛ فالتتلمذ ليس مجرد الحضور في الحلقة ولو لبضعة أشهر ! وقلت له : أتريد أن تجعلني ممن يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا !

وكم أسفت على عجزي عن حضور دروس الشيخ المنتظمة ، وإن كنت قد واسيت نفسي بالإفادة من دروس الشيخ المسجلة ، ومن ذلك شرحه لمنهج السالكين ضمن الدروة العلمية المكثفة في جامع ابن المديني ، فقد كررت سماعه ، وأفدت منه في فرائد علمية ، ومعارف ثقافية ، قلّ أن تجدها في شروح الشارحين !

كما كنت أسأل الشيخ - رحمه الله - عن بعض ما يشكل عليّ من مسائل يشتد فيها الخلاف ، أو يعسر فيها الترجيح .. وربما قصدته في منزله أو مسجده لأسمع منه رأيه في مسألة أو جوابه على مشكل ..

و لا زلت أذكر فتح مكتبته لنا - أنا وبعض زملائي في المرحلة الثانوية - حين كلفنا أستاذ مقرر التفسير ، الشيخ الدكتور يوسف عثمان جبريل رحمه الله ! ببحث رجال أسانيد بعض الأحاديث الواردة في تفسير سورة ( ص ) .. وكان هذا الأستاذ المربي قد أرشدنا إلى الاستعانة حينها بمكتبة الشيخ عبد الله رحمه الله ، وهنا أتذكر مقولة أستاذنا د. يوسف حين كان يردد ضمن توجيهاته اليومية الشيقة التي لا تخلو من طرفة أو لطيفة ، النافعة التي لا تخلو من رسالة ، وذلك في الإذاعة المدرسية أثناء طابور الصباح ، قال لنا مرة ، وكررها بعدُ مرار في مناسبات شتى : أنا جبريل السودان لا جبرين السعودية ! وهي عبارة لها قصة ..

أما اللقاءات به رحمه الله ، فكثيرة بحمد الله ، وهي لقاءات متنوعة ، دورية وغير دورية ، ما بين علمية وفكرية ودعوية .. وقد كان لوجود الشيخ فيها أثر كبير في نفوس من يحضرها من العلماء وطلبة العلم ، فضلا عن من تشدّه رؤية الشيخ وتثير فيه كوامن تأمّل من أمثالي ..

وقد أفدت - كغيري من طلبة العلم - من فتاويه الفريدة في تحقيق مسائل خالف فيها بعض الآراء التي كانت سائدة ، مما كنت أميل إلى قول الشيخ فيها نتيجة بحوث و مدارسات ، كفتواه رحمه الله في جواز الرسوم في مجلات الأطفال الهادفة ، وفي أفلام الكرتون النافعة ، وفي المسعى حيث فتواه المدعّمة بشهادته ، وهو من هو في العناية بالتاريخ والتأريخ ..

لقد كان آخر لقاء جلست فيه مع الشيخ وجها لوجه مساء الإربعاء ليلة الخميس العاشر من شهر محرم من هذا العام : عام ثلاثين وأربعمائة وألف ، وذلك على مائدة طعام في مطعم برج جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ! وكان ينثر درر علم حتى أثناء الأكل ! بل لم يترك الاحتساب في هذه اللحظات ، فقد نصح من بجانبه - بلطف عجيب - حين نطق هاتفه النقال بدعاء غير سائغ !

وكان حضور الشيخ للجامعة حضور وفاء لشيخه محمد بن إبراهيم رحمه الله ! وذلك بمناسبة مناقشة رسالة الدكتوراه المقدمة من الطالب الشيخ / سليمان بن عبد الله التويجري ، بعنوان : [ اختيارات سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في العبادات والمعاملات عدا الطهارة] .

وأخيرا ، فلقد كان الشيخ رحمه الله عالم أمة ! وكان قدوة في العلم والدعوة والاحتساب ، وعلو الهمّة ، والجَلَد في طلب العلم ثم في نشره ، وكان موسوعي العلم ، جَمَعَ بين علوم الشريعة وعلوم الآلة ، والمعرفة بالتاريخ والأنساب ، ومعارف أخرى ..
لقد كان الشيخ رحمه الله من نوادر زهّاد العصر .. يهضم ذاته ليوصل رسالته ! لا تهمه الجمهرة ، ولا تستهويه الشهرة ، ولا يقف خارج قناعاته مراعاة لأحد !

رحم الله الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين ، فقد كان أحد أركان الصحوة الإسلامية المباركة ورموزها الأجلاء ، ومن أهل الوفاء لها : رعاية ونصحا ، وتصحيحا ، وذبا عنها وعن رموزها ، حتى من الأجيال التي هي دونه سنا ومنزلة .. لا تكاد تجد لجنة شرعية في مؤسسة دعوية أهلية إلا وله فيها عضوية فاعلة ، وفتاوى فريدة ، بعضهم ينص فيها الشيخ على أنها فتوى خاصة بإقليم كذا أو بأهل البلد الفلاني لا يجوز إعمالها في غيره !! أي أنها من فتاوى السياسة الشرعية المؤقتة !!

رحم الله الشيخ العلامة ابن جبرين ؛ فكم كنت أأنس لرؤيته ، وكم أجد بينه وبين شيخنا عبد الله بن قعود من موافقات عجيبة ، وتوافقات ليست بالغريبة ..
أبو معاذ / الرياض
 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية