اطبع هذه الصفحة


دمعة الفراق لـ (قمر) في بغداد!

سعد بن ضيدان السبيعي

 
في مرض وفاته ترك رقعة لزوجته ( قمر بغداد) عند رأسه؟! الأديب الشاعر المشهور أبو الحسن علي بن زُرَيْق الكاتب البغدادي المتوفى سنة 420هـ رحمه الله أجبره شظف العيش ..ومر الحياة..على وداع زوجته أو(القمر) كما سمها في قصيدته!
رحل من بلده (دار السلام) بغداد لطلب الرزق والمعيشة لرفيقة دربه ..فما كان منها حين ودعها ... إلا أن تشبثت به ..وتعلقت بثيابه...وقد علاها النحيب ..وكاد يقتلها الآسى... وسار هو الأخر والألم يعتصر قلبه ...عاشت بعده بين أمل يحدوها لرؤيته مرة أخرى..وهم وحزن لفراقه..
وهناك في بلد الغربة بلاد (الأندلس) وضع ابن زريق رحله ...وتقلبت به الدنيا.....وصوادف الدهر .....ودارت به الأيام... ولم يغب عنه صورة حليلته التى خرج من أجلها.. يرى خيالها...ويستنشق عبق ريحها..تردد على أبواب السلاطين لطلب النوال ...فلم يحصل على طائل! فقد قصد أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه بنسبه فأراد أبو عبد الرحمن أن يبلوه ويختبره فأعطاه شيئا نزرا فقال ابن زريق: إنا لله وإنا إليه راجعون سلكت البراري والقفار والمهامه والبحار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر فانكسرت إليه نفسه وعتل [1].
...وحس بدنو الأجل ...ودنت ساعة الصفر....وهجم عليه الموت.... وهو في دار غربتة بعيدا عنها... ووقع ماكانت تخشاه(قمر)بغداد ...وصح حدسها!
فكتب قصيدة يتيمة رنانة وجدت بعد وفاته في رقعة جعلها عند رأسه .
 وشغل عنه الأندلسي إياما ثم سأل عنه فخرجوا يطلبونه فانتهوا إلى الخان الذي هو فيه وسألوا الخانية عنه فقالت: إنه كان في هذا البيت ومذ أمس لم أبصره فصعدوا فدفعوا الباب فإذا هو ميت وعند رأسه رقعة فيها مكتوب:

لا تعذليه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه

وذكر أبياتا من القصيدة غير تامة[2] .
فيها حسن السبك...وقوة المعنى...وصدق العاطفة...ودقة التصوير...وكأني بابن زريق وهو يعاني من غصص الموت وكربه..مرة حياة (قمر)بغداد في مخيلته..... وتذكر الأيام الجميلة التي قضاها معها..وتذكر دموعها التي كانت يكفكفها بيده وهى تودعه حين علا نحيبها ...وتذكرها وهى تنظر إليه بعد أن فارقها راحلا عنها حتى زال به السراب ...فخرج من الدنيا من دون شيء إلا هذه القصيدة التي خلدت اسمه ...بل هى أرووووع ماقيل في الفراق...تداولها الناس ...وسارت بها الركبان ....ووقف لها التاريخ وصفق لها..قالها في زوجته التي تغرب من أجلها ...وألمه فراقها ....مصورا حالها حين ودعها ...ملتمسا منها العذر والمسامحه في تركه لها ....وهى موسمة بـ (عينية ابن زريق)أو( قمر في بغداد) .
 وروى الحافظ أبو سعد في الذيل أن الإمام أبا محمد بن حزم قال من تختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل ظرفه[3]
وقال السبكي: قصيدة علي بن زريق الكاتب البغدادي غراء بديعة[4]


لا تعذليه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حدا يضر به ** من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا ** من عنفه فهو مضني القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالبين يحمله ** فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من روعة التفنيد أن له ** من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه ** رأى إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنما هو من حل ومرتحل ** موكل بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزماع أراه في الرحيل غنى ** ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلا أن تجشمه ** للرزق كدا وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة ** رزقا ولا دعة الإنسان تقطعه
والله قسم بين الخلق رزقهم ** لم يخلق الله مخلوقا يضيعه
لكنهم ملئوا حرصا فلست ترى ** مسترزقا وسوى الفاقات تقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قدقسمت ** بغى ألا إن بغى المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه ** يوما ويطعمه من حيث يمنعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا ** بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي أن يودعني ** صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه ** وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ** وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق ** عني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته ** بالبين عني وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته ** وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا ** شكر عليه فعنه الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته ** كأسا تجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذقت البين قلت له ** الذنب والله ذنبي لست أرقعه
إني لأقطع أيامي وأنفذها ** بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام أبت له ** بلوعة منه ليلى لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجع وكذا ** لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب ريب الدهر يفجعني ** به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى البين فيما بيننا بيد ** عسراء تمنعني حظي وتمنعه
بالله يا منزل القصر الذي درست ** آثاره وعفت مذ بنت أربعة
هل الزمان معيد فيك لذتنا ** أم الليالي التي أمضت ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ** وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيعه ** كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا ** جرى على قلبه ذكرى يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني ** به كما أنه بي لا يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا ** فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ** جسمي تجمعني يوما وتجمعه
وإن ينل أحد منا منيته ** فما الذي في قضاء الله يصنعه


 فلما وقف أبو عبد الرحمن  الأندلسي على هذه الأبيات بكى حتى خضب لحيته وقال: وددت أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي ،وكان في رقعة الرجل ابن زريق ببغداد في الموضع الفلاني المعروف بكذا والقوم يعرفون بكذا فحمل إليهم خمسة آلاف دينار وعرفهم موت الرجل.
فرحم الله غربة ابن زريق البغدادي ،وآنس وحشته..
  

----------------------------------------
[1] مقدمة طبقات الشافعية الكبرى .للسبكي..ونقل القصة عن ابن السمعاني الذى رواها بسنده..وفيه أنه رجل بغدادي..وقد ذكرها السبكي بسنده من طريق أخر منسوبه إلى ابن زريق.
[2] مقدمة طبقات الشافعية الكبرى .للسبكي..ونقل القصة عن ابن السمعاني الذى رواها بسنده
[3] مقدمة طبقات الشافعية الكبرى للسبكي،والوافي بالوفيات للصفدي.وقد نقل هذا أيضا عن ابن حزم الحميدي صاحب كتاب جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس.
[4] مقدمة طبقات الشافعية الكبرى للسبكي.

 

سعد السبيعي
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • دراسات حديثية
  • دراسات في الفقه
  • دراسات في العقيدة
  • الفوائد العلمية
  • التاريخ والتراجم
  • الصفحة الرئيسية