اطبع هذه الصفحة


(( يريدون أن يبدلوا كلام الله ))

  

سمير بن خليل المالكي


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله القائل في كتابه } ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك...الآية}
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على المخالفين، ومبشراً بالجنة من أطاعه واتبع سبيله وسنته، ومنذراً بالنار من عصاه وابتدع غير هداه.

أما بعد:

فإني لم أزل متحيراً فترة من الزمان مما يقوله ويكتبه بعض الناس من الشيوخ والدعاة وغيرهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، خاصة بعد حادث الثلاثاء المشهور الذي كشفت فيه كثير من حقائق الدول والأحزاب والشيوخ والدعاة.

وكنت أعجب من تتابع الجميع - إلا من ندر – على تأصيل أصول مخترعة في مسائل من الدين مهمة، كالولاء والبراء، والحكم على المخالفين من المبتدعة، وأحكام أهل الذمة والمعاهدين والمحاربين، وغيرها من المسائل التي أشبعت بحثاً وشرحاً وتأصيلاً وتفريعا في مصنفات الأئمة السابقين، في الفقه والتفسير وشروح الحديث وكتب السير والتاريخ، مما لا حاجة معه إلى مزيد بحث ولا تأصيل ولا تنظير، سوى التفقه فيما سطره أولئك الأئمة الأعلام والحكم على الوقائع المعاصرة بما يقتضيه الدليل ويوافق ذلك التأصيل.

غير أن هؤلاء الشرذمة المعاصرة ضربوا بتراث السابقين عرض الحائط وأعرضوا عن ما سطر هنالك، ولم يرفعوا رأساً بنص ولا أثر، ولم يعولوا على أصل ولا فرع معتبر.

وصرت تسمع الكلام الإنشائي يلقى على عواهنه، ليس فيه نقل واحد عن كتب الأسلاف، ولو وجد فلا يسلم من تحريف في اللفظ أو المعنى، أو كلاهما معاً، واستبدلت الألفاظ الشرعية الواضحة المعنى بأخرى ركيكة حمالة أوجهاً، يمكن تصريفها على أي معنى يوافق الهوى.

وأما النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فيختار منها المتكلم ما يوافق الهوى ويلائم "فقه المرحلة"، وما كان منها صريحاً في مخالفة الهوى ومعارضة الفتوى حرف معناه وتفسيره، ابتغاء الفتنة والتلبيس على العامة.

قال الله عز وجل في أمثال هؤلاء: {يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم... الآية}، وقال: {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون}، وقال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله... الآية}، وقال: {الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم{
والآيات في وصف أمثال هؤلاء أكثر من أن تحصر، ومن أعياه البحث فعليه بسورة براءة فإنها كفت وشفت وفضحت.

دعاة التغريب

ومن تلك المسائل التي كثر طرحها الدعوة إلى "الحوار" و "التعايش السلمي" مع مختلف الأديان والملل، تحت شعار "الوحدة الإنسانية" و "المصالح المشتركة" و "الحرية والإخاء والمساواة"... وهذا المثلث الأخير هو شعار الماسونية الشهير.

وربما استدل شيوخ دعاة التقريب بمثل قوله تعالى: {لا إكراه في الدين}؛ على حرية اعتناق الأديان، وبقوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلفناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}؛ على الإخاء والمساواة بين بني الإنسان... وغير ذلك من النصوص التي صرفوها عن سياقها، أو حرَّفوا دلالتها، مع أن هناك مئات النصوص في توضيح المعنى المراد وفي بيان؛ أن الله عز وجل لا يرضى غير الإسلام من العباد، وأن ما سواه من العقائد والأديان باطل ظاهر البطلان، حتى ما كان منزلاً من قبل على الأمم السابقة فإنه منسوخ بهذه الشريعة الخاتمة.

قال الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، وقال: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا{
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفي المشركين الذين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام...(
وسمى الله عز وجل اليهود والنصارى وسائر أهل الأرض - من غير المسلمين – كفاراً في آيات كثيرة، وأمر بمعاداتهم وبغضهم والبراءة منهم ظاهراً وباطنا، ً كما أمر بقتالهم حتى يؤمنوا، فقال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}، وأقر أهل الكتاب خاصة من دون بقية الكفار على الجزية، يعطونها بذل وصغار، فقال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون{
قال ابن كثير في تفسيره: ({حتى يعطوا الجزية} أي؛ إن لم يسلموا {عن يد} أي؛ عن قهر لهم وغلبة {وهم صاغرون} أي؛ ذليلون حقيرون مهانون. فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"، ولهذا اشترط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم...(

ثم ساق ابن كثير شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النصارى، ومنها:
1/ أن لا يظهروا شركاً.
2/وأن يوقروا المسلمين ويقوموا لهم من مجالسهم إن أرادوا الجلوس.
3/وأن لا يتشبهوا بالمسلمين في شي من ملابسهم.
4/ولا يتخذوا شيئاً من السلاح ولا يحملوه معهم...

إلى آخر الشروط العمرية التي أعرض عنها أهل هذا الزمان، كما أعرضوا عن كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وعكسوا الأمور فأذلوا المسلمين الصالحين وعظموا الكافرين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله... الآية}: (وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على الله تعالى...(

قلت: وأما سائر الكفار من غير أهل الكتاب فلا ذمة لهم، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، واختلف في المجوس.

قال ابن قدامة في المغني : (13/208) (مسألة؛ قال: "ومن سواهم فالإسلام أو القتل"، يعني من سوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، فإن لم يسلموا قتلوا) اهـ.

ودعوى الإخاء والمساواة بين الناس كلهم - مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وفاجرهم - دعوى مناقضة لكتاب الله ودينه وشرعه.

قال الله عز وجل: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}، وقال: {أم نجعل الذين أمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}، وقال:{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون{
وقد ميز الله عز وجل بين عباده، حتى المؤمنين منهم، فلم يجعلهم سواءً، قال الله عزل وجل: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله}، وقال: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى}، وقال: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين على القاعدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً}... إلى غير ذلك من الآيات البينات المحكمات.

فمن ينادي بالمساواة والإخاء بين بني الإنسان؛ كذاب مفتر على الله معاند لحكمه وشرعه وقدره، ومثله لا يعول على كلامه ولا يلتفت إليه، إلا بنقضه وكشف زيفه، كائناً من كان.

قلت: لم أكن أظن أن يصل بنا الأمر إلى الاشتغال بتوضيح الواضحات وشرح المسلَّمات، حتى نبتت هذه النابتة من "التقريبيين" وهم أقرب شبهاً بإخوان لهم من قبل من دعاة "التغريب" ممن بليت بهم الأمة أيما بلاء طيلة قرن من الزمان.

جاء في الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة في ذكر " التغريب " [ص 145] ما نصه: (التغريب هو تيار كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية) اهـ.

ثم سردت الموسوعة أشهر دعاة التغريب، ومنهم؛ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين، وكلهم منتسبون للعلم والمشيخة خاصة الأفغاني ومحمد عبده، وأثر مدرستهما ظاهر في كثير ممن جاء بعدهما من أدعياء العلم والمشيخة والفتوى.

وجاء في الموسوعة ذكر أفكار ومعتقدات أولئك "التغريبيين"، ومنها:
1/ تشجيع فكرة إيجاد فكر إسلامي متطور يبرر الأنماط الغربية لمحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية بغية إيجاد علائق مستقرة بين الغرب وبين العالم الإسلامي خدمة لمصالحه.
2/ الدعوة إلى الوطنية ودراسة التاريخ القديم والدعوة إلى الحرية باعتبارها أساس نهضة الأمة مع عرض النظم الاقتصادية الغربية عرضاً مصحوباً بالإعجاب.
3/ نشر فكرة العالمية والإنسانية التي يزعم أصحابها بأن ذلك هو السبيل إلى جمع الناس على مذهب واحد تزول معه الخلافات الدينية والعنصرية لإحلال السلام في العالم، لتصبح الأرض وطناً واحداً يدين بدين واحد ويتكلم بلغة واحدة وثقافة مشتركة، وذلك بغية تذويب الفكر الإسلامي واحتوائه في بوتقة الأقوياء المسيطرين أصحاب النفوذ العالمي...) اهـ ]ص 150- 151 [
قلت: فهذه الأفكار التي نادى بها "دعاة التغريب" بالأمس هي بعينها التي ينادي بها "دعاة التقريب" اليوم، وربما استبدلوا مصطلح "الحوار" بدلاً من "التقريب" ومؤداهما واحد.

فإن لا تكنه أو يكنها فإنه أخوها غذته أمها بلبانها

ونظرة فاحصة فيما يكتبه ويقوله كثير من الدعاة اليوم - كخطاب المثقفين مثلاً - تظهر لك مدى التوافق العجيب بين الدعوتين، وإن كان ثمة فارق فهو في الأسماء والأشكال، فتلك نادى بها طه حسين ومحمد عبده والأفغاني، وهذه يصيح بها القرضاوي والعودة والعواجي

القومية والوطنية
ومما يدعو إليه هؤلاء "المدهنون" المعاصرون، ما يسمى بـ "الحوار الوطني" و "الوحدة الوطنية"، وهي بعينها دعوة إخوانهم من دعاة التغريب كما سبق نقله، يريدون إلغاء الفوارق العقدية التي جاء بها الشرع، ونص عليها الأئمة في مصنفات "الفرق" و "السنة"، فلا قدرية ولا شيعة ولا جهمية ولا صوفية... الكل إخوان في "الوطنية" أبناء علات، أبوهم "الوطن" وأمهاتهم الملل والنحل.

وكما التقت دعوة "الوطنيين" مع دعوة التغريب والتقريب فقد شابهت كذلك دعوة "القوميين" التي ذاع صيتها أواخر القرن الماضي.

جاء في الموسوعة الميسرة في التعريف بالقومية العربية [ص 401] ما نصه: (حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحدة لهم، على أساس من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين. وهي صدى للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوربا) اهـ.

وذكرت الموسوعة من أفكار ومعتقدات الفكر القومي أنه: (يعلي من شأن رابطة القربى والدم على حساب رابطة الدين)، ونقلت كلاماً للشيخ ابن باز رحمه الله يصف القومية العربية بأنها؛ (دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه( وأنها ( دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله.(
وذكرت الموسوعة كذلك بأن الفكر القومي: (يتبنى شعار؛ "الدين لله والوطن للجميع"، والهدف من هذا الشعار إقصاء الإسلام عن أن يكون له أي وجود فعلي من ناحية، وجعل أخوة الوطن مقدمة على أخوة الدين من ناحية أخرى) اهـ [ ص 402 – 403 ]
وجاء في الموسوعة في تعريف الحزب القومي السوري [ص 409] بأنه (حزب يدعو إلى القومية السورية واعتبارها مستقلة عن القومية العربية(
وذكرت من أفكارها [ص 410]
1/ فصل الدين عن الدولة.
2/ منع رجال الدين من التدخل في الشئون السياسية والقضائية والقومية.
3/ إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب.
4/ يتميز السوريون عن أبناء الأمة العربية كما يتميز الفرنسيون عن الانجليز...
5/ القضية السورية هي الأمة السورية والوطن السوري.
6/ مصلحة سوريا فوق كل مصلحة... إلى آخر ما ذكرته الموسوعة.(

والحاصل أن كل هذه الدعوات "الوطنية" و "التقريبية" التي ينادي بها مفكروا اليوم من شيوخ "الفضائيات" وفقهاء "القنوات" ودعاة "الصحوة" أو قل "الغفوة" أو "الغفلة"، هي عين ما دعا إليه أسلافهم من دعاة "التغريب" و "القومية"، وإن اختلفت بعض أصولهم وأفكارهم، إلا أن المؤدى واحد والنتيجة واحدة، وهي إلغاء التميز الديني والعقدي والاكتفاء بمجرد "الحوار" الذي لا يعني، في أحسن أحواله، سوى الاجتماع في القصور الفارهة وتبادل الأحاديث الودية والطرائف المسلية دون المساس بأي قضية تجرح مشاعر الطرف الآخر، ثم ينصرف كل إلى سبيله ويمضي إلى شئونه.

وسيكون لنا بحث طويل حول مسألة "الحوار" في موضع آخر إن مد الله في الأجل وسلَّم من أي عوائق.

وكما قيل في الدعوى السابقة - في المساواة بين المؤمنين والكافرين - يقال في دعوى المساواة بين المؤمنين وبين سائر المخالفين المنتسبين للإسلام من أهل الأهواء المارقين، فهي تضاد شرع الله وعدله وقضاءه، فقد فاضل الله بين المؤمنين المتبعين، بل فاضل بين الأنبياء والمرسلين، فكيف يسوي بين المتبعين والمخالفين؟!

وفي كتاب الله نصوص كثيرة في التمسك بالسنة ونبذ الفرقة والبدعة في الدين، من ذلك مثلاً قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}، وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}، وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم{
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة.
وموقف السلف من عصر الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا واضح وصريح في البراءة من أهل الأهواء من الفرق المخالفة، ومعاداتهم وهجرهم والتحذير من مجالستهم ومخالطتهم.

فقد تبرأ ابن عمر من القدرية، كما في صحيح مسلم، والقصة مشهورة.

ولما تكلم واصل بن عطاء في مجلس الحسن البصري في مسألة الإيمان بما يخالف مذهب أئمة الإسلام، قال الحسن البصري: (اعتزلنا يا واصل(
وقد كفر أئمة السلف الجهمية وغلاة القدرية والباطنية وغيرهم من الفرق الغالية.

بل شنع الأئمة على بعض أهل السنة لمجالستهم أهل البدعة، وعدوا ذلك من النفاق، حتى قال الإمام أحمد عن شخص يجالس مبتدعاً: (ألحقه به) [انظر مسائل أبي داود]
ومن أقوال السلف المشهورة (من ستر عنا بدعته لم تخف علينا ألفته) [انظر السنة للالكائي، والإبانة لابن بطة]... ومن أراد المزيد من هذه الوقائع فعليه بكتب "السنة" و "الفرق".

فكيف يتبجح الناس اليوم بمثل هذه الدعاوى السخيفة، يريدون أن يبدلوا كلام الله وشرعه وقدره؟

وربما تذرع "الوطنيون" بما تذرع به قبلهم "القوميون" بأن "الأمة" أو "البلاد" تواجه أخطاراً خارجية من أعدائها، وهي بحاجة ماسة إلى "توحيد الصف" ونبذ التفرق والاختلاف، وأن الكلام في تكفير الكفار وتبديع المبتدعة وتفسيق الفساق يفرق الأمة الواحدة والوطن الواحد.

والجواب على هذا من وجوه:


الوجه الأول: أن يقال؛ إن الحكم على المخالف بالكفر أو البدعة أو الفسق، بحسب ما يستحق، هو مما أمر الله به وحكم به في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمعت عليه الأمة، وهو من المعلوم من الدين والعقل بالضرورة. وإنما المحرم شرعاً الحكم على الناس بالظلم والجور، كأن يكفر أو يفسق من لا يستحق التكفير أو التفسيق.

الوجه الثاني: ما هي الأخطار الخارجية؟ ومن هم أعداء الأمة الخارجيون؟ هل هم رؤساء وشعوب الدول الغربية أو الشرقية؟ وهل هم أعداء الأمة والبلاد في نظر من بيده عقدة الأمر؟ أولسنا نسمع ليل نهار بأنهم - وعلى رأسهم أمريكا المتغطرسة - أصدقاء بل "ومنذ الأزل" وأنهم سيبقون كذلك إلى "الأبد"؟! هل سمعنا تصريحاً واحداً من هؤلاء يقول بأن دول الغرب أعداء لنا، أو يصفهم بما يستحقونه من الكفر والفسق والعدوان؟

مع أن الحق والعدل والدين وواقع الحال يقول: نعم هم أعداؤنا بل وألد أعدائنا بل هم أعداء البشرية كلها، من أول يوم ولدت فيه تلك الدولة الفاجرة الكافرة – أمريكا - وليست بأول دولة عاتية من دول الكفر، فقد سبقها إلى الكفر والظلم والجبروت دول وأمم منذ قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وغيرها ممن قص الله علينا قصصها.

وليس الشأن في جبروت هذه الدولة الكافرة التي تزعم الحرية وتتظاهر بالديمقراطية، وإنما الشأن في من يواليها ويخضع لها ويسير في ركابها ويبتغي العزة عندها ويظن بأنها تغني عنه من الله شيئاً، {أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً}، {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم}. أولم يسمعوا قول الحق: {يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا أمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور}

وصدق الله عز وجل، فهاهم أولاء يعلنون بالعداوة ولا يسرون، ويصرحون بالبغضاء ولا يلمحون، ويتوعدون كل من يعارض سياستهم، بل من يرفض المسارعة فيهم ويتوانى عن إجابة أوامرهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.

ضربت نيويورك وواشنطن؛ فأرعدت أمريكا وأزبدت وهددت وتوعدت بأن من لا يقف معها - أي خلفها و تحت إمرتها - فهو ضدها.

وسارعت كل دول العالم، وفي مقدمتهم الدول العربية، في موالاتها، وصاحت لصياحها وناحت لنواحها وأعلنت الحداد لمصابها، كأنه مصابها، وما ثمة عاقل في الأمة يقول: ما لنا ولها؟ ما شأننا وما حل بها؟

بل استنفرت بعض الدول العربية والإسلامية كل طاقتها لتتبع سراب الفاعلين، وأجلبت بخيلها ورجلها وجندت إعلامها ومنابرها ومنائرها لإرضاء "العم سام" وربيبته المدللة، وتسابقت إلى نيل رضاه، رغباً ورهباً، ولكنه لم يزل عليها ساخطاً يطلب المزيد من القرابين، شأن الجبابرة الطغاة في كل زمان وحين.

الوجه الثالث: إن أعداء الأمة الإسلامية هم أعداء دينها وعقيدتها من الكفار والمبتدعة الضلال، سواء كانوا من الداخل أو الخارج، وقد بدأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقتال المرتدين قبل غيرهم، وقاتل علي بن أبي طالب الخوارج والبغاة نصرة لدين الله لا حباً في الدنيا وحرصاً على الرئاسة.

الوجه الرابع: أن الأمة الإسلامية لم تزل تواجه أخطاراً ومحناً على مر العصور من أول يوم، فتارة من قبل اليهود والنصارى والمجوس وتارة من قبل الخوارج والرافضة والباطنية كالدولة العبيدية، وتارة من قبل الملاحدة كالتتار... وهكذا.

ولم تقتصر تلك المحن على الناحية العسكرية، بل شملت جميع النواحي السياسية والدينية والاجتماعية... ومع ذلك فإن موقف علماء الأمة لم يتبدل ولم يتغير، وهذه كتب السير والتاريخ والتراجم شاهدة على ذلك.

ومما يدعو إلى التأمل والنظر ذلك الاتفاق في المبدأ والاتحاد في الكلمة والموقف من علماء السلف تجاه غيرهم من أهل الكفر والنفاق والبدعة والفسق، مع تباين الزمان واختلاف المكان... خذ أي كتاب شئت من كتب الأئمة، في أي فن كان، ترى وحدة الكلمة والموقف والصف ظاهراً واضحاً للعيان.

اقرأ مثلاً في التفسير، عند الكلام عن أي آية في البراءة من الكفار ومعاداتهم وقتالهم، تجد تفسير الأئمة المتأخرين مطابقاً لتفسير الصحابة والتابعين في المعنى، بل أحياناً في اللفظ أيضاً، ومن استقرأ كتب "السنة" و "الفرق" مما صنف في أوائل القرن الثالث، وما صنف بعد ذلك بقرون يجد توافقاً عجيباً، وربما زاد المتأخرون في شرح العبارة وتوضيحها أكثر، أما الأصول فهي ثابتة لم تتغير.

خذ كتاب "السنة" للإمام اللالكائي [المتوفى سنة 418 هـ] وتأمل ما ساقه من أقوال علماء الأمة من عصر الصحابة إلى عصره من مختلف البلدان الإسلامية - من خراسان ونيسابور والشام والعراق ومصر والحجاز وغيرها - فالبرغم من اختلاف الزمان والمكان والأحوال، إلا أن وحدة الصف والموقف واتفاق الكلمة في التمسك بعقيدة السلف وموالاتهم، وتبديع من سواهم ومعاداتهم من كل الفرق المخالفة ونحلها كانت علامة ظاهرة وآية باهرة تعدت حدود الزمان والمكان.

واقرأ كلام شيوخ الإسلام بعد ذلك كابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن كثير وأضرابهم في الفرق والمذاهب والملل، تجده يخرج وكلام الأولين من مشكاة واحدة.
هذه هي "الوحدة" الحقيقية، وحدة الدين والملة والمذهب والمشرب، لا تلك المزيفة التي ينادي بها أهل هذا الزمان من "الوطنيين" أو "الحِواريين".

لم يقل أحد منهم نريد أن نجمع الصف نحن وإخواننا الشيعة - مثلاً - في مواجهة عدونا الخارجي، بل لم يزل كلام العلماء في تبديع هذه الفرقة والتحذير منها، منذ نشأتها إلى يومنا هذا، واتفقت كلمتهم على ذلك حتى مع السلفيين من الجن!

ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً} عن الأعمش قال: (تروح إلينا جني فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ فقال: الأرز. قال: فأتيناهم به، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحداً. فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم. قلت: فما الرافضة فيكم؟ قال: شرنا( اهـ.

قلت: اقرءوا - معشر المسلمين - ما كتبه علماؤنا عن هذه الفرقة الضالة، ومن آخر من كتب من المشهورين شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ومحب الدين الخطيب رحمهما الله، لتقفوا على حقيقة الخلاف بيننا وبينهم، مما يستحيل معه أن نجتمع وإياهم في صف، أو يوحدنا هدف.

أما علمتم أن من عقائد الإمامية أن قرآننا محرف، وأن عندهم مصحف فاطمة ليس فيه من مصحفنا حرف؟

وزعموا أن الأمة كلها خانت العهد وضيعت الأمانة وخالفت أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فبايعوا أبا بكر بدلاً من الوصي علي، رضي الله عنهما.

وأن الصحابة كلهم مرتدون كفرة إلا أربعة وأن عائشة الصديقة لم تكن مبرأة مما قذفها به سلفهم المنافق الأكبر عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ولهم عقائد فاسدة في باب القدر والأسماء والصفات، ويكثر في أوساطهم الشرك الأكبر، فهم كما قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية )يعمرون المشاهد ويعطلون المساجد)، عدا مسائل أخرى قذرة يطول الكلام بشرحها.

فصل

ولا يظن أننا ضد مصلحة البلاد أو العباد، أو أننا نبتغي الفتنة وبلبلة الصف وتمزيق الأمة، بل نحن ندعوا الجميع إلى الاعتصام بحبل الله ونبذ الفرقة، وندعوا إلى دين الإسلام، فنقول للكفار من اليهود والنصارى ما قاله الله في كتابه: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}، ونقول: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين}، ونقول: {إن الدين عند الله الإسلام{
ونتلوا عليهم من سورة البقرة وآل عمران والمائدة، ندعوهم إلى الإسلام قبل السلام، وندعوا غيرهم من الكفار والمشركين والمجوس والهندوس كذلك، ونجادلهم لندحض شبهاتهم، لا لمجرد "الحوار" وسماع ما عند "الآخر"، فمن آمن منهم والينهاه وقربناه، ومن أصر على الكفر عاديناه وأبغضناه.
وندعوا المخالفين من هذه الأمة من أهل الفرق المبتدعة من الخوارج والشيعة والإباضية والجهمية والصوفية وغيرهم إلى العقيدة السلفية، فمن استجاب منهم فبها ونعمت، ومن عاند واستكبر عاملناه بما أمرنا به شرعنا ورسمه لنا سلفنا، لا نفرِط ولا نفرّط، ولا نلتمس رضا أحد من الخلق، من الشيوخ ولا الأمراء ولا الأحزاب ولا تدفعنا حماسة الجماهير، وكل مبتغانا رضا الله عز وجل و التمسك بالنصوص على فهم السلف حسب قاعدة "كتاب وسنة؛ بفهم سلف الأمة"، وحكمة "عليكم بالأمر العتيق"، ووصية "من كان مستناً فليستن بمن قد مات".
وإننا لا نرضى بديلاً عن دين الله الحق ووسطية سيد الخلق بـ "إسلام اليوم" المحدث، و "الوسطية" العوجاء، ولا عن وحدة الكلمة والصف وفق منهج السلف بوحدة "الوطن" والبلد والعرق والدم.
ومن أراد وحدة الكلمة فلا تكون إلا بكلمة التوحيد الخالصة من كل شائبة، لا قومية ولا وطنية ولا غير ذلك من دعوى الجاهلية.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


وكتب سمير بن خليل مالكي
27/8/1424 هـ
جوال ( 0591114011 )


 

سمير المالكي
  • الكتب والرسائل
  • الصفحة الرئيسية