اطبع هذه الصفحة


متحف الآثار النبوية

  

سمير بن خليل المالكي


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله القائل {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}.
والصلاة والسلام على إمام المتقين وخاتم النبيين وسيد المرسلين الذي وصّانا بوصية جامعة فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
ونصوص القرآن والسنة في وجوب الاتباع واجتناب الابتداع في الدين كثيرةٌ، لا تكاد تخفى على جهال العوام، فضلاً عن الشيوخ والأعلام.
وآثار السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، في تقرير ما دلت عليه النصوص أكثر من أن تحصر.
من أشهرها قول ابن مسعود رضي الله عنه (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم).
إلى غير ذلك من مئات الآثار في التحذير من المحدثات في الدين.
أما بعد، فقد أعلن بعض المنتسبين إلى العلم والمشيخة عن البدء في إنشاء متحف اسمه "السلام عليك أيها النبي" ، ونشروا نبذة عنه في الصحف، وذكروا أن هذا المتحف يهدف إلى التعريف بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله وسيرته وأخلاقه، الخ.
وذكروا أن هذا المخترع يشتمل على عدة برامج، بعضها برامج علمية في جمع الأحاديث النبوية والتعريف بها.
قلت: وهذه لا حرج فيها، فهي من جنس المصنفات العلمية في السنة والسيرة والشمائل.
وأما عن اشتماله على الآثار التي تضاهي آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضها في متاحف، فإن هذا مدعاةٌ لاتخاذها عيداً من الأعياد المكانية، كما أنه قد يفضي إلى التبرك بتلك الآثار وبالمكان أيضا.
ثم إن فيه فتح باب لإضافة أشياء أخرى على ذلك المختَرَع، كما حدث في سائر المختَرَعات من قبل.
فربما يخرج أحدهم بمختَرَع يصور فيه الكعبة والمشاعر ويضعها على هيئة تماثيل في متاحف، فيتبرك الجهال بها، وتصير أعياداً تضاهي الأعياد الشرعية.
وقد أنكر هذا المختَرَع بعض أكابر العلماء، وبين أنه من المحدثات، وأنه قد يفضي إلى اتخاذ هذا المكان عيداً، وإلى التبرك به وبما فيه من الآثار التي صنعت مضاهاة لآثار النبي صلى الله عليه وسلم.
وعوضاً عن استجابة أصحاب الاختراع لنصيحة ذلك العالم، فإنهم قاموا بما يضاده، فحشدوا أسماء عشرات من المؤيدين لهم، واستكتبوا أقوالهم، ونشروها في الصحف، وعلقوا صورهم في المتحف المؤقت، في سابقة لم نعهد لها مثيلا إلا من أهل البدع، كما فعل ذلك من قبل بعض دعاة الضلالة في جمع تقريظات لكتابه المشهور "المفاهيم" لتأييد بدعته.
وأنا أقول لإخواننا هؤلاء: منذ متى كانت المكاثرة بالعدد معياراً للترجيح في مسائل الخلاف في الدين؟
وهل وجدنا في نصوص الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة وخيارها أن الغلبة والكثرة هي المرجع عند التنازع والخلاف؟
وقد علم باليقين أن أتباع الرسل على مر القرون كانوا هم الأقل عدداً، حتى إن بعض الأنبياء لم يتبعه أحدٌ من الناس.
وليست هذه الشريعة ببدع من أخواتها، وإن كانت القرون الأولى أوفر حظاً ممن جاء بعدها، في كثرة المتبعين للحق والسنة.


* * * * *
"من استحسن فقد شرع"


لقد نشأ الإحداث في الدين في زمن الصحابة، وكان من أعظم أسبابه تقديم الرأي على النص، والافتئات على السنة والجماعة.
ومامن محدث لبدعة _ منذ أن نشأت أول فتنة في الأمة _ إلا وقد استحسنها بعقله وفكره، ثم وجد من يؤيده وينصره.
وربما كان له قصد حسن ونية حسنة، ومع ذلك فإن هذا لم يكن يوما من الدهر مسوغاً لها، بل تتابع الصحابة والأئمة على إنكارها.
ولهذا قال ابن مسعود لأصحاب تلك الحلق المحدثة في الذكر، لما قالوا له: والله ما أردنا إلا الخير "وكم من مريد للخير لا يدركه".
وقال بعض الأئمة "من استحسن فقد شرع" .
وذلك لأنه ما من بدعة ومحدثة إلا ولها وجه حسن، نظر إليه المبتدع، وغفل عن الوجه الآخر، وهو العاقبة والمآل، وما أفضت إليه بدعته بعد حين.
ومن ذلك أيضا أن المبتدع قد رأى في نفسه وعلمه وفهمه مكانةً اغتر بها، فقاده ذلك الرأي إلى الإحداث، ظناً منه أنه يحسن بذلك إلى الناس، وتلك شهوة في النفس خفية نسأل الله أن يعصمنا وإياكم منها.
يبين ذلك أثر معاذ بن جبل حيث قال: (إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟
ماهم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة....) الخ . رواه أبوداود.
قلت: فالمختَرِع لما رأى أن العلم الشرعي قد فتح للناس، ورأى أنه أحق بالريادة والزعامة عليهم، وأنهم لن يتبعوه إلا إذا تفرد عليهم بما لا يعلمونه، اخترع لهم قولاً أو فعلاً أو برنامجاً ينسب إليه، فيكون رأساً متبوعاً فيه.
وليعلم إخواننا أصحاب ذلك المختَرَع، أننا لا نتهمهم في الدين، ولا نحشرهم في زمرة المخالفين، بل إننا نحذرهم من إظهار الخلاف، فإن فيه تكثير سواد أهل الأهواء.
ثم إن المخالفة وإن بدت صغيرة إلا أنه لا يؤمن أن تكبر مع تباعد الزمن.
وقد قال الإمام البربهاري: (واحذر صغار المحدثات من الأمور، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كباراً. وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها...).


* * * * *
" غربة الحق والسنة "


ولست بحاجة إلى التذكير بأن هذه الأمة تعيش في هذا الزمان غربةً في الدين والسنة، فإن هذا لا يخفى على صغار طلبة العلم فضلاً عن مشايخه.
فعلى هذا نقول لإخواننا: هل ترضون بأن نطالب في زمان الغربة بالتصويت على مسائل النزاع والخلاف في العقائد والعبادات والمعاملات؟
ولمن ستكون الغلبة في ظنكم، لو تحاكمنا إلى الجماهير في مسائل النزاع؟
إنها قسمةٌ ضيزى، وسبيل فجة، أن نأتي في زمان الغربة فنتحاكم إلى رأي الأكثرية!
أقول هذا لأننا رأينا انتشار بدعة التصويت في مسائل الدين، حتى في المحكمات البينات!
ولا ريب أننا مأمورون بالتحاكم إلى الأدلة الشرعية في كل نزاع، كما دلت عليه نصوص القرآن والسنة.
ثم إني أقول لإخواننا: أليس في كتاب الله وفي سنة نبيه وآثار السلف غنية عن مثل هذا المخترع؟
ألم يقل إمام دار الهجرة: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)؟
ومن المصادفات الحسنة أنه قال تلك المقولة في الإنكار على من ينتاب القبر النبوي للزيارة.
ولا يوجد اليوم من آثار النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق بشخصه ، أصح نسبة من هذا القبر، ومع ذلك فإن الإمام مالكاً رأى أن كثرة الزيارة له، بحيث يزدحم الناس عنده، يصيره عيداً، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره عيداً.
وقصة قطع الشجرة التي حصل تحتها بيعة الرضوان ليست بخافية، فإن من قطعها خشي على الناس من أن يفتنوا بها (على القول بأنها قطعت).
وهناك قول بأنها خفيت حتى درس مكانها.

وآثار النبي صلى الله عليه وسلم ، المتعلقة بشخصه، على قسمين:

الأول: ما يتعلق بذاته، من شعره وعرقه وآنيته وثيابه، ونحو ذلك، فهذه قد بقيت زمناً عند الصحابة وعند من ورثها عنهم أو اقتناها من الخلفاء من بعدهم حتى اندثرت، فلم يبق منها شيئ على اليقين.
ولم نجد أحداً من الصحابة والسلف، قد حرص على عرض تلك الآثار على الملأ، أو في سوق من الأسواق، للتعريف بها، مع شدة الرغبة لدى التابعين في رؤية الآثار النبوية والتبرك بها.
والثاني: آثاره المتعلقة بالأمكنة، كحجرات نسائه ومواضع جلوسه ومعيشته وغزواته ونحو ذلك، وهذه لم يكونوا حريصين على تتبعها، إلا ما كان من فعل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان يتحرى اتباع آثاره وخطاه في سفره وحضره، حتى إنه كان ينيخ راحلته في السفر ليقضي حاجته عند المكان الذي أناخ فيه النبي صلى الله عليه وسلم راحلته.
وهذا كان حرصا منه ومبالغة في الموافقة والاتباع، وهو مما انفرد به عن سائر الصحابة، وربما وافقه غيره على بعض ذلك العمل.
وقد كانوا أتقى لله وأعلم بالسنة من أن يقع منهم شيئ من الغلو أو البدعة.
وقد أثر عن ابن عمر أنه قال: (كل بدعة ضلالة ، وإن رآها الناس حسنة).
وأما بقية الآثار المكانية، فإن أكثر الحجرات قد هدم، وأدخل في توسعة المسجد، ولم تبق إلا حجرة عائشة، لأن فيها القبر، وقد أدخلت في المسجد من أجل التوسعة في عهد الوليد بن عبدالملك.
وقد هدمت كثير من الأبنية والمزارع والأسواق في المدينة، مع أن بعضها قد اشتمل على آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا القول في سائر الأمكنة في المدينة ومكة وغيرها، فما عرف عن الصحابة والسلف تحري قصدها بالزيارة أو التبرك، ولا جعلوها أعياداً ولا أنشأوا عندها أسواقاً.
وقد أنكر عمر بن الخطاب على من تحرى الصلاة في مواضع صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من مر بشيء من تلك المساجد فحضرت الصلاة فليصل، وإلا فليمض).
ولهذا فإنك لا تجد أحداً من أئمة السلف كان حريصاً على تتبع تلك الآثار المكانية، وإنما حرص عليها الجهال من الشيوخ والعوام والملوك.


* * * * *
"مشاهد الزور"


فإن قال لنا إخواننا: إن هذا المتحف قد اشتمل على آثار شبيهة بآثار النبي صلى الله عليه وسلم للتعريف بها، فيكون أشبه بتعليم السنة والسيرة بطريقة عملية.
فالجواب على ذلك أن يقال: إن العامة لا يؤمنون أن يتخذوا هذا المكان عيداً يشدون الرحال إليه تقرباً وتعبداً، مضاهاة لما يفعل في المساجد الثلاثة وفي المشاعر أيام الحج، كما أنهم ربما تبركوا بتلك الآثار، ولو لم تكن هي عين الآثار النبوية.
وحسبك أن تنظر ماذا يفعل الجهال عند مشاهد الزور في مصر والشام والعراق وغيرها، تلك المشاهد المنسوبة للأنبياء والصحابة وغيرهم.
وحسبك أن تعلم أن مشاهد الحسين قد تعددت في سبعة مواطن متفرقة وكلها أعياد جاهلية تشد الرحال إليها، ويحصل عندها ما لا يخفى من التبرك والشرك.
وما يفعله بعض الجهال من اتخاذ القبر النبوي عيداً وشد الرحل إليه قصداً، والتمسح به، والاستغاثة به، وغير ذلك ، أمر معلوم، لا يخفى على أحد.
وكذلك ما يفعله بعض الجهال، عند البيت الذي (يزعم) أنه صلى الله عليه وسلم قد ولد فيه، من التبرك وقصد الدعاء عنده وغير ذلك مما تواترت الأخبار به.
وقد ذهبت قبل أكثر من 17 عاماً ومعي بعض أهل العلم ليكونوا شهوداً على ما نراه، ذهبنا إلى ذلك البيت بعد صلاة العشاء مباشرة، فوجدنا من استقبل البيت واستدبر القبلة وأخذ يدعو، ورأينا من تمسح بجداره، ومن سجد عند بابه _إي والله_ ثم ذهبنا إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله فأخبرناه.
وكذلك ما يحدث في غار حراء وغيره.
وقد صعدنا مرة ومعنا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى العلم الأبيض على جبل إلال (جبل الرحمة) بعرفة فوجدنا كتابات وأدعية واستغاثات.
وقد كتب على جدار الحجرة النبوية أبيات شعرية شركية مشهورة.
وفي مقدم المسجد النبوي على يمين ويسار الطاق _المحراب_ من أول الجدار إلى آخره تجد مربعات ودوائر متتابعة، في كل مربع إسمان من الأسماء المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الدائرة تكرار كلمة "صلى الله عليه وسلم".
فمن الأسماء المكتوبة في تلك المربعات مالا ينبغي إلا لله، كالجبار، وغيره.
كما سأفصله في كتاب مستقل، إن شاء الله.
وقد أخبرت بعض العلماء بذلك من قبل سنين، إبان التوسعة والتجديد، حتى يسعوا لمحوها، لكن: لله الأمر من قبل ومن بعد!
وقد رأيت القبر المنسوب إلى السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان معي بعض القضاة، ورأينا حوله مساراً للطواف، ورأينا من ينثر الطيب على القبر.
وإنما ذكرت ذلك هنا لأدلل على أن هذه المنكرات في تلك المشاهد قد وجدت في عصر أئمة هذه البلاد، وما قدروا على تغييرها، بل قد صرح لي بعض أكابر العلماء معتذرا عن عجزه عن التغيير: بأننا في عهد يشبه العهد المكي _قبل الهجرة_ يعني: في الضعف والقلة !
وفي الطائف مكان يتبرك به بعض الجهال يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس فيه واتكأ عنده.
وتفصيل الكلام في ذلك يطول جداً.
ومن قرأ ما كتبه الأئمة، خاصة كتب ابن تيمية، كالاقتضاء، والتوسل والوسيلة، وما كتبه ابن عبدالوهاب وأبناؤه وأحفاده وتلاميذه سيجد تفصيلا لذلك، وسيجد الجواب الشافي في حكم مثل تلك المحدثات وما شابهها.


* * * * *
"عبادة الأوهام"


فإن احتج علينا إخواننا أصحاب ذلك "المختَرَع": بأن الآثار التي سيضعونها في المتحف ليست هي عين الآثار النبوية الشريفة، فيبعد أن يتبرك بها أحد.
فالجواب: ما ذكرناه سابقاً من أن الجهال من العوام لا يفرقون بين هذا وذاك، وإلا لما انتشر الشرك والبدعة بآثار موهومة في مواضع مخترعة، كما في مواضع عديدة تنسب للأنبياء والصحابة والصالحين.
ونقول أيضاً: إن الصور التي رسمها الجهال للصالحين الأولين: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، لم تكن من آثارهم، بل هي صور أحدثها غيرهم، فعبدت تلك الصور المختَرَعة.
وقد عبدت قريش تماثيل على صور مخترعة للملائكة، مع أنهم لم يروا أحداً من الملائكة.
وعبدت النصارى الصليب، وما صلب المسيح أصلاً!
فأهل التبرك والشرك إنما يتعلقون بأي أثرٍ أو رمزٍ، ولو لم يكن له حقيقة، فكل ما يرمز إلى معظم عندهم يتخذونه وثناً يعبد من دون الله، فمن ثم: عبدوا الشجر والحجر والصور وغيرها مما لا يحصى.
حتى إن جهال العرب كانوا يلتقطون في أسفارهم حجراً رابعاً _سوى أثافي القدر الثلاث_ يجعلونه وثناً يعبدونه حتى يغادروا ذلك الموضع.
وربما صنع أحدهم تمثالاً من التمر يعبده، فإذا جاع أكله !
وقد اخترع بعض شيوخ الضلالة في هذا الزمان أثراً على صورة نعال النبي صلى الله عليه وسلم، ورسم تلك الصورة في كتابه، ثم أخذ يتبرك بذلك المثال، وذكر أن ذلك المثال (النعلي) له شأن عظيم لأنه يحكي نعال النبي!!
وقد نقل في كتابه عن بعضهم أنه قال "فأكرم بها من نعال، زكت بأطيب الفعال، وشرفت بالمختار وسمت، واتسمت من الفضائل بما اتسمت، وحاكاها المثال بمحاسنه التي ارتسمت..".
وكتب على صورة ذلك المثال جملة أبيات ، منها:

على رأس هذا الكون نعل محمد
علت فجميع الكون تحت ظلاله
لدى الطور موسى نودي اخلع وأحمد
على القرب لم يؤمر بخلع نعاله

ومنها:

مثال لنعل المصطفى ماله مثل
لروحي به راح لعيني به كحل
فأكرم به تمثال نعل كريمة
لها كل رأس ود لو أنه رجل

ومنها:

إني خدمت مثال نعل المصطفى
لأعيش في الدارين تحت ظلالها
سعد ابن مسعود بخدمة نعله
وأنا السعيد بخدمتي لمثالها


قلت: فكيف لو ابتدع لهؤلاء الجهال آنيةٌ وثيابٌ وأثاثٌ، وغير ذلك، ثم وضعت في معرض، أو متحف، معظم مزخرف؟
فإن قيل: إن جهالات العوام لن تقف عند حد، والواجب علينا أن ننصحهم وندعوهم إلى الهدى والسنة، ولن يزيد في ضلالهم، أو ينقص منه، إنشاء مثل هذه المتاحف، أو تركه.
كما أن وجود القبر النبوي وغيره من قبور الصالحين ليست السبب في إضلال من عبدها، فإنهم لم يزالوا ضالين بها وبغيرها، فهل نهدم القبور من أجل غلو الجهال بها ؟
فالجواب: أنه لا بد من إنشاء القبور للموتى، مع علم الله السابق بأن من الخلق من سيعبد بعضها ويتخذها أوثاناً، كما أن الله سبحانه قد علم منذ الأزل أن هناك من سيعبد المسيح والملائكة، ومن سيتخذ من قصة مريم ذريعة لدعوى الصاحبة والولد، ومع ذلك فإن الله قدر أن يحصل ذلك، لحكمة بالغة أرادها، ولكن هذا لا يبيح أن نفتح نحن أبواب الفتنة للعوام، بمثل تلك المحدثات، ثم نتذرع بالقدر الكوني.
ثم إن الله سبحانه _مع ذلك التقدير الكوني_ قد حذرنا من الشرك وأسبابه، وتواترت النصوص بسد كل الذرائع المفضية إليه.
فنهينا عن شد الرحال إلى القبور، واتخاذها مساجد، وتعظيمها وتجصيصها، والصلاة إليها، كما نهينا عن الغلو في الأنبياء والصالحين، سداً لذريعة الشرك بهم وبقبورهم.
ونهينا عن الابتداع في الدين، ومنه إحداث الأعياد الزمانية والمكانية، لئلا يضاهى بها العبادات والأعياد الشرعية فييفضي ذلك إلى ترك ما شرعه الله، أو التهاون به، وتفضيل المخترع عليه.
ومعلوم أن إنشاء مثل هذا "المختَرَع" قد يصرف همم بعض العوام، عن تعظيم المشاعر التي شرعها الله لهذه الأمة وجعلها منسكاً لها، وشرع فيها من العبادات والذكر، وأمر بشد الرحال إليها، أمر إيجاب: كالحج والعمرة، أو أمر استحباب: كالصلاة في المساجد الثلاثة.


* * * * *
"تعالوا إلى كلمة سواء"


وأقول لإخواننا المخترعين، ولسائر المخالفين ممن بدلوا وغيروا، من بعد ما كانوا دعاة إلى الحق والسنة:
إنكم لن تحتجوا علينا بأظهر مما احتج به علينا وعليكم أهل البدع والخلاف، وقد احتجوا على مذاهبهم الفاسدة بنصوص من الكتاب والسنة، مما حرفوا معناه ودلالته ليوافق بدعتهم.
كما احتجوا علينا وعليكم بكثرة الجماهير، وربما استنصروا بالأمراء والوجهاء، ولم يزل ذلك ديدن المخالفين من أهل الأهواء.
وقد قضى الله أن تكون لأهل الحق الحجة البالغة على جميع الخلق.
وكم من بدعة قد تتابع عليها الجم الغفير من العلماء والأمراء والأعيان، فما ازدادت بهم قوة وحجة، وما ازدادوا بها علواً ورفعة.
فالتحاكم _يا إخوان_ إلى الكثرة في تقرير المحدثات، إنما هو من صنيع أهل البدع في كل زمان، خاصة عند ذهاب العلماء الربانيين.
وقد رأينا ما أحدثه كثير من المنتسبين للعلم والإفتاء في هذه البلاد بعد ذهاب ابن إبراهيم ثم ابن حميد ثم الشيخين: ابن باز وابن عثيمين، عليهم رحمة الله.
رأينا من رفع عقيرته بالبدعة والخلاف في مسائل عديدة.

ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في "خلف " كجلد الأجرب

فأنا أدعو إخواننا المبدلين إلى كلمة سواء، وهي السنة البينة، ونبذ البدع والأهواء ولو ظنوا أنها حسنة.
أدعوهم إلى الاتباع وترك الاختراع، وليسعهم ما وسع سلفنا الصالح.
وقد ترك السلف أموراً كثيرة لا بأس فيها خشية أن يتمادى الناس فيها.
وأكبر دليل على ذلك: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة على ما كانت عليه، وعلل ذلك بقوله (لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر لنقضت البيت...). الحديث.
وقد فعل ذلك ابن الزبير ، ثم غيره عبدالملك _جهلاً منه بالسنة.
ولما أراد بعض خلفاء بني العباس أن يعيد بناءه على السنة، نهاه الإمام مالك سداً لذريعة التلاعب بالبيت نقضاً وبناءً.
فإذا ترك فعل بعض السنن سداً للذريعة، ألا يسعنا أن نترك ما اشتبه أمره، سداً لذريعة الوقوع في البدعة؟
ثم إن إهدار الأموال الكثيرة على مثل هذا "المختَرَع" قد يكون من التبذير والإسراف، ولو أنفق أكثره على ما هو أنفع للأمة، من الوسائل المشروعة، لكان أجدى من المبالغة في الإنفاق على أمر قد لا يفيد الأمة كثيراً، سوى أنه مدعاة للمفاخرة والتباهي، كما يفعله بعض التجار في زخرفة المساجد.


* * * * *
"خاتمة"


وبعد ، فإنه قد جاء في آخر الأثر الذي تقدم ذكره عن معاذ بن جبل قوله: (وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق...).
وأنا أقول: ما أكثر ما يقوله الشيطان اليوم على ألسنة الحكماء الأخيار، من العلماء والمشايخ والدعاة.
فنسأل الله أن يهدينا وإياهم إلى الحق والسنة، وأن يجنبنا الخلاف والبدعة، وآخر دعوانا: أن الحمدلله رب العالمين.
 

* * * * *
وكتب / سمير بن خليل المالكي الحسني.
مكة المكرمة
الأحد ١٤/١١/١٤٣٣هـ
جوال/ ٠٥٩١١١٤٠١١
Samer-malky89@hotmail.com


 

سمير المالكي
  • الكتب والرسائل
  • الصفحة الرئيسية