اطبع هذه الصفحة


الرد على من فضل قبر النبي على عرش الرحمن

سمير بن خليل المالكي

 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد ، فقد أرسل إلي أحد إخواني من طلبة العلم يسأل : هل يصح أن يقال إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة ومن العرش والكرسي ومن الجنة ؟
وأخبرني أنه حضر خطبة الجمعة الماضية في جدة ، وأن الخطيب قرر ذلك الكلام في خطبته.
وقد استنكر السائل هذا القول ، خاصة ، وأنه صدر من طالب علم مشهور !
وقد أجبت السائل بجواب مختصر ، وأحلته على ما كتبته سابقا في كتابي " جلاء البصائر " ، حيث أوردت فيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ في هذه المسألة .
ورأيت أن أعيد ما ذكرته هناك ، حتى تعم الفائدة ، ولئلا يغتر الناس بقول أخينا الخطيب _هداه الله .
والخطيب من دعاة السنة المعروفين في جدة ، وما قاله وقرره في خطبته يعد من الأخطاء الشنيعة التي يستغرب صدورها منه ، غفر الله له ، ومع ذلك فإن هذا لا يقلل من قدره ، ولا يحط من شأنه ، لأنه ما من عالم ولا فاضل إلا وأخطأ في مسائل ، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب ذلك " القبر " ، صلى الله عليه وسلم .

و أحب أن أبدأ هنا بذكر بعض المسائل المهمة :
أولا :
صحة القول أو خطؤه ، لا عبرة فيه بقائله ، بل بما وافق الحق ،
ولهذا قال معاذ بن جبل رضي الله عنه " وأحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق " رواه أبوداود.
و قال بعض السلف : لو أخذت برخصة ( أو زلة ) كل عالم لاجتمع فيك الشر كله .

ثانيا : القول بتفضيل القبر النبوي على العرش - مع كونه بدعة - إلا أنه يتفاوت خطره بحسب اعتقاد قائله ، وأشهر من قاله من العلماء المتقدمين : ابن عقيل الحنبلي ، وتبعه عدد من العلماء ، كالهيتمي والقسطلاني والتاج السبكي وغيرهم
وهؤلاء لا يعتقدون أن فوق العرش والكرسي شيئا  - كسائر المعطلة و المفوضة - بخلاف أهل السنة ، الذين يعتقدون أن الله عز وجل مستو بذاته على العرش على الحقيقة ، استواء يليق بجلاله ، ولهذا اقشعر الإمام مالك رحمه الله ، وعلته الرحضاء ، لما سأله السائل عن كيفية الاستواء.
أما الكرسي فهو موضع قدمي الرحمن ، كما صح بذلك الأثر عن ترجمان القرآن رضي الله عنه .
فلا ينبغي لشيخ سلفي ، أن يفضل القبر الذي حوى جسد النبي صلى الله عليه وسلم ، على العرش الذي استوى عليه الملك العلي !

ثالثا : تفضيل البقاع والأمكنة ، بعضها على بعض ، لا مجال فيه لاجتهاد ولا لقياس ، بل هو من الأمور التوقيفية التي تعرف بالنص ، كما هو معلوم .
فالخوض فيها بغير نص افتئات على الشرع .

رابعا : هذا القول الذي جاء على لسان الخطيب ، مذكور في كتاب الروض المربع آخر المناسك ، وهو من أخطاء المؤلف _ رحمه الله _ وقد أنكره علماؤنا ومشايخنا ، وأذكر أن عددا من الأساتذة في الجامعات كانوا - أثناء الشرح - إذا جاءوا إلى هذا الموضع حذفوه ، أو انتقدوه وبينوا خطأه .
فكان الأولى بهذا الخطيب أن يتجنب إشاعة مثل هذه الأخطاء ، خاصة في خطب الجمعة ، التي يحضرها فئام من العوام ، وقد تثير شبهات عندهم ، أو تؤدي إلى محذور ، كتعظيم القبر النبوي واتخاذه عيدا ، ونحو ذلك من البدع المحدثة .

خامسا : إن هذا الشيخ الداعية السلفي على اطلاع واسع بما عليه أكثر الناس اليوم من تعظيم قبور الصالحين ، ومنها قبر سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ورد النهي عن اتخاذها مساجد ، فلا يصلَّى عندها ولا إليها ، ولا يُتحرى الدعاء عندها ، ولا يشد الرحال إليها ، لأن ذلك يفضي إلى الغلو فيها و تعظيمها ، ومن ثم عبادتها .
فليس من الحكمة أن يذاع في الملأ مثل هذا القول المحدث ، الذي لو فرض أنه حق ، وأن عليه أدلة من الشرع : لكان الأولى عدم ذكره ؛ صيانة لجناب التوحيد ، وسدّاً لذريعة الوقوع في الشرك .
وقد صح في الأثر " حدثوا الناس بما يعرفون " ،  علقه الإمام البخاري عن علي بن أبي طالب  .
و الناس في هذا الزمان بأمس الحاجة إلى نشر التوحيد وتعظيمه في قلوبهم ، لا إلى تعظيم القبور والمشاهد .

وأخيرا ، فإن هذا القول المحدث - أعني تفضيل القبر النبوي على الكعبة والعرش والكرسي - قد تبناه ونصره بعض دعاة الفتنة والشرك في القرون المتأخرة ، وقد رددت عليهم في كتابي " جلاء البصائر " ، وإليك نص ما كتبته هناك :
ومن المسائل الغريبة التي أورد المخالفون ، زعمهم: أن القبر النبوي أفضل من العرش والكرسي ومن جنة عدن، ومن سائر ما في الكون.
وزعمهم: أن المسجد النبوي ما شرُف ولا عظم إلا من أجل القبر. فقد جاء في قصيدة الهيتمي التي ساقها المخالف في " الذخائر".

 وبقعته التي ضمته حلقاً --- رياض من جنان تستطيل
وأفضل من سموات وأرض --- وأملاك بأفلاك تجول
ومن عرش ومن جنات عدن --- وفردوس بها خير جزيل

ثم نقل كلام محمد حبيب الشنقيطي في شرح هذه الأبيات، فقال" قال القسطلاني في "المواهب اللدنية": وأجمعوا على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها - أي البقعة التي قبر فيها عليه الصلاة والسلام - أفضل من العرش. وصرح الفاكهاني بتفضيلها على السموات.." ا هـ([1]) باختصار.
وقال في موضع آخر " وكذلك يشرع  شد الرحال إلى مسجده صلى الله عليه وسلم ، الذي ما شرف وعظم إلا بإضافته إليه، ولكون قبر سيد المرسلين فيه"([2]).
والجواب: إن هذا القول من أفسد الأقوال وأنكرها، وبطلانه ظاهر  لمخالفته للأدلة الشرعية والعقلية، ولم يستند قائله على دليل أو إلى شبهة دليل، وإنما هو الظن، والظن أكذب الحديث، كما صح في الحديث([3]).
وقد فند هذا القول شيخ الإسلام رحمه الله، فقال" أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم  فما خلق الله خلقاً أكرم عليه منه. وأما نفس التراب، فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه، والله أعلم" ا هـ. ([4]).
وقال في موضع آخر" وكذلك مسجد نبينا ، بناه أفضل الأنبياء، ومعه المهاجرون والأنصار، وهو أول مسجد أذن فيه في الإسلام، وفيه كان الرسول يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفيه سنت السنة، وكانت الصلاة فيه بألف ، والسفر إليه مشروعاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم  وليس عنده قبر.
والفرق بين البيت والمسجد مما يعرفه كل مسلم، فإن المسجد يعتكف فيه، والبيت لا يعتكف فيه. والمسجد لا يمكث فيه جنب ولا حائض، وبيته كانت عائشة تمكث فيه وهي حائض، وكذلك كل بيت مرسوم تمكث فيه المرأة وهي حائض، وكانت تصيبه فيه الجنابة فيمكث فيه جنباً حتى يغتسل، وفيه ثيابه وطعامه وسكنه وراحته، كما جعل الله البيوت.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم  في حال حياته كان هو وأصحابه أفضل ممن جاء بعدهم، وعبادتهم  أفضل من عبادة من جاء بعدهم. وهم لما ماتوا لم تكن قبورهم أفضل من بيوتهم التي كانوا يسكنونها في حال الحياة، ولا أبدانهم بعد الموت أكثر عبادة  لله وطاعة مما كانت في حال الحياة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال" أحب البقاع  إلى الله المساجد" فليس في البقاع أفضل منها، وليست مساكن الأنبياء، لا أحياء ولا أمواتاً  بأفضل من المساجد هذا هو الثابت بنص الرسول واتفاق علماء أمته. وما ذكره بعضهم من أن قبور الأنبياء والصالحين أفضل من المساجد، وأن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في المساجد، حتى في المسجد الحرام والمسجد النبوي، فقول يعلم بطلانه بالاضطرار من دين الرسول، ويعلم إجماع  علماء الأمة على بطلانه إجماعاً ضرورياً، كإجماعهم على أن الاعتكاف في المساجد أفضل منه عند القبور.
وما ذكره بعضهم من الإجماع على تفضيل قبر من القبور على المساجد كلها، فقول محدث في الإسلام، لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن ذكره بعض المتأخرين، فأخذه عنه آخر وظنه إجماعاً، لكون أجساد الأنبياء أنفسها أفضل من المساجد. فقولهم يعم المؤمنين كلهم، فأبدانهم أفضل من كل تراب في الأرض.
 ولا يلزم من كون أبدانهم أفضل ، أن تكون مساكنهم أحياء وأمواتاً أفضل، بل قد علم بالاضطرار من دينهم أن مساجدهم أفضل من مساكنهم.
 وقد يحتج بعضهم  بما روي من أن " كل مولود يذر عليه من تراب حفرته" فيكون قد خلق من تراب قبره. وهذا الاحتجاج باطل لوجهين:
أحدهما: أن هذا لا يثبت، وما روي فيه كله ضعيف. والجنين في بطن أمه يعلم قطعاً أنه لم يذر عليه تراب، ولكن آدم نفسه هو الذي خلق من تراب، ثم خلقت ذريته من سلالة من ماء مهين. ومعلوم أن ذلك التراب لا يتميز بعضه لشخص وبعضه لشخص آخر، فإنه إذاً استحال وصار بدناً حيّاً، لماَّ نفخ في آدم الروح، فلم يبق تراباً.
والوجه الثاني: أنه لو ثبت أن الميت خلق من ذلك التراب، فمعلوم أن خلق الإنسان من مني أبويه أقرب من خلقه من التراب. ومع هذا فالله يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميبت من الحي. يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فيخلق من الشخص الكافر مؤمناً، نبياً وغير نبي، كما خلق الخليل من آزر، وكما خلق صلى الله عليه وسلم  من أبويه. وقد أخرج نوح، وهو رسول كريم، ابنه الكافر الذي حق عليه القول، وأغرقه ونهى نوحاً عن الشفاعة فيه. وأكثر المهاجرين والأنصار مخلوقون من آبائهم وأمهاتهم الكفار. فإذا كانت المادة القريبة التي يخلق منها الأنبياء والصالحون لا يجب أن تكون  مساوية لأبدانهم في الفضيلة، لأن الله يخرج الحي من الميت، فأخرج البدن المؤمن من مني كافر، فالمادة البعيدة، وهي التراب، أولى أن لا تساوي أبدان الأنبياء والصالحين.
وهذه الأبدان عبدت الله وجاهدت فيه، ومستقرها الجنة. أما المواد التي خلقت منها فهي بدنه، وفضله معلوم. وأما ما بقي في القبر فحكمه حكم أمثاله. بل تراب كان يلاقي جباههم عند السجود، وهو أقرب ما يكون العبد من ربه المعبود، أفضل من تراب القبور واللحود" ا هـ ([5])باختصار.
ويقال أيضاً: إنه يلزم على ذلك القول الفاسد، تفضيل كل بقعة وطئتها قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم  أو لامسها جسده الشريف ، على سائر البقاع والمساجد، وعلى الجنة والكرسي والعرش، فلا يكون ذلك خاصّاً بالقبر أو البيت الذي يسكنه.
فهل يقول عاقل إن موضعاً قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم  حاجته في الصحراء أفضل من الكعبة والعرش والكرسي؟
 فإن قيل: إن التفضيل ليس للبقعة ذاتها، بل لمن حلَّ فيها، أما هي فكمثلها من البقاع.
فالجواب : هذا باطل أيضاً، فإن تفضيل الأزمنة والأمكنة والأشخاص لا يخضع لقياس، بل هو أمر توقيفي، فالله تعالى فضل بعضها على بعض، ففضل رمضان على سائر الشهور، وفضل الجمعة ويوم عرفة على سائر الأيام، وفضل المساجد الثلاثة على سائر البقاع، ومنها بيوت الأنبياء ومساكنهم التي يأوون إليها.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يتحنث في غار حراء، ولم يصيره ذلك أفضل من الكعبة ولا المساجد، لا في وقت تحنثه فيه ولا بعد ذلك.
* ويلزم من تفضيل القبر على الكرسي والعرش، تفضيل المخلوق على الخالق، فإن الأول إن كان قد ضمن جسد المصطفى، فالعرش الرحمن عليه استوى، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الكرسي موضع القدمين([6]).
وقول يؤدي إلى مثل هذه الإلزامات الباطلة، حري بأن يطرح ويضرب به عرض الحائط.
 
 
-----------------------
([1])    الذخائر ( ص 44- 49).
([2])  شفاء الفوائد (ص29).
([3])   رواه البخاري (10/484) وسلم (2563) بلفظ " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".
([4])    مجموع الفتاوى (27/38).
([5])   مجموع الفتاوى (27/260-263)
([6])   رواه بن خزيمة في التوحيد (1/248-249) والحاكم (2/282).

 

سمير المالكي
  • الكتب والرسائل
  • الصفحة الرئيسية