اطبع هذه الصفحة


مآثِرُ النساءِ

أحمد محمد الشرقاوي
أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك
بجامعة الأزهر - وكلية التربية عنيزة

 
اشتمل القرآن الكريم على صفحاتٍ مشرقةٍ وصورٍ فائقةً لنساءٍ صالحاتٍ كان لهن دورهنَّ في مسيرة الدعوة إلى الله تعالى، فإن المتأمل في السنة النبوية يجدها حافلة وزاخرة بمواقفَ نسائيةٍ رائعةٍ، ونماذجَ مضيئةٍ في شتى جوانب الحياة، وأمثلة واقعية للأخلاق الكريمة والمثل الطيبة، وصورا من البذل والعطاء والتضحية والفداء، تدلُّ على تكريم الإسلام للمرأة وإنصافها والعناية بها، كما تدل على جهودها المباركة في نصرة هذا الدين، وكيف كانت المرأةُ سباقةً إلى الخيرات، متحليةً بالصبر والثبات، رائدةً في شتى الميادين.

ومن خلالِ هذه النماذج نعلم أن المرأة قادرةٌ على البذلِ والعطاءِ، وأن على المسلمة المعاصرة أن تنهج نهج أسلافها، فلا تألو جُهدا ولا تضنُّ بوقتٍ أو مالٍ في سبيل نصرة دين الله تعالى وإصلاح البيت والمجتمع والنهوض بالأمة.

والسنة النبوية وعاءٌ حافلٌ وكنزٌ زاخرٌ بمآثرِ الصالحات على مرِّ التاريخ، وفي هذا أبلغُ ردٍّ على من افترض واهماً وجودَ عداءٍ بين السُّنَّةِ والمرأةِ، حتى رأينا أدعياء التحرير ينتقصون من قدر السنة ويتنكَّرون لها ويُنْكِرُونَ حُجِّـيَّتَهَا، ولو أمعنوا النظر وتصفحوا كتب السنة بصدقٍ وتجرُّدٍ لأدركوا كيف جاءت السنةُ النبويةُ مقررةً ومبينةً لما جاء في القرآن الكريم من تكريمٍ للمرأةِ وإنصافٍ لها وتقديرٍ لجهودها المباركة على مرِّ التاريخ.

وسوف نتناولُ في هذه السلسلة من المقالات نماذج لأولئك النساء الصادقاتُ فنبدأ بحمد الله تعالى مع:

" خديجةُ بنتُ خويلِد" عطاءٌ ووفاءٌ

كان للمرأة دورُها البارزُ في مسيرة الدعوة ؛ فأولُ من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأولُ من شدَّ من أزره وسانده في دعوته امرأةٌ، وأولُ من قدم له المشورةَ امرأة، إنها أُمُّنَا خديجة رضي الله عنها، التي كانت تعدُّ له الزاد وتبعث به إليه وهو يتعبد في غار حراء، وحين جاءها يرتجف من هول ما رآه أقبلت عليه بعاطفة رقيقة وكلمات حانية.

ولقد أحسنت صنعاً حين أخذته إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل، وكان على علمٍ بالكتب السابقة، فبشَّره بالنبوة وبصَّره بطريق الدعوة، ذلك الطريق المحفوف بالأشواك والعقبات. فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرّؤْيَا الصّادِقَةَ فِي النّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصّبْحِ، ثُمّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنّثُ فِيهِ، (وَهُوَ التّعَبُّدُ) اللّيَالِيَ ذواتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوّدُ لِذَلِكَ، ثُمّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" قَالَ : " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتّى بَلَغَ مِنّي الْجَهْدَ ثُمّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطّنِي الثّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبّكَ الأَكْرَمُ الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (سورة العلق 1 : 5 )، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمّلُونِي" فَزَمّلُوهُ حَتّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، ثُمّ قَالَ لِخَدِيجَةَ: " أَيْ خَدِيجَةُ ! مَا لِي" وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَ: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلاّ أَبْشِرْ، فَوَاللّهِ لاَ يُخْزِيكَ الله أَبَدا، وَاللّهِ إِنّكَ لَتَصِلُ الرّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، أَخِي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيّ وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيّةِ مَا شَاءَ الله أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخا كَبِيرا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ ابْنَ عَمّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَآهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عليه السلام، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟" قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرا مُؤَزَّرًا".

قال الإمام النووي رحمه الله: "قَالَ الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: مَعْنَى كَلَام خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّكَ لَا يُصِيبك مَكْرُوه لِمَا جَعَلَ اللَّه فِيك مِنْ مَكَارِم الأَخْلاق وَكَرَم الشَّمَائِل، وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى أَنَّ مَكَارِم الْأَخْلَاق وَخِصَال الْخَيْر سَبَب السَّلَامَة مِنْ مَصَارِع السُّوء، وَفِيهِ مَدْح الْإِنْسَان فِي وَجْهه فِي بَعْض الْأَحْوَال لِمَصْلَحَةٍ نَظَرًا، وَفِيهِ تَأْنِيس مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَة مِنْ أَمْر وَتَبْشِيره وَذِكْر أَسْبَاب السَّلَامَة لَهُ، وَفِيهِ أَعْظَم دَلِيل وَأَبْلَغ حُجَّة عَلَى كَمَال خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَجَزَالَة رَأْيهَا، وَقُوَّة نَفْسهَا، وَثَبَات قَلْبهَا، وَعِظَم فِقْههَا. وَاَللَّه أَعْلَم.

حقاً يا أُمَّنا الحنون إن صنائع المعروف حرزٌ واقٍ وكنزٌ باقٍ لصاحبها على مدى الزمان.

 

أحمد الشرقاوي
  • بحوث ودراسات
  • مقالات ورسائل
  • قصص مؤثرة
  • الصفحة الرئيسية