اطبع هذه الصفحة


المرأة الصابرة الوفية

أحمد محمد الشرقاوي
أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك
بجامعة الأزهر - وكلية التربية عنيزة

 
    من أعظم مواقف التضحية والعطاء : صبر المرأة على مرض زوجها وفقره ، بعد الصحة والغنى ، فتقف بجواره وتلازمه في محنته ، وتشدُّ من أزره وتؤانسه ، وتملأ قلبه أملا ورجاء في الفرج القريب والشفاء المرتقب ، والفجر الباسم  ، والمجد القادم .
   ومن هذا الطراز الفريد من النساء نجد امرأة أيوب عليه السلام ، التي واجهت مع زوجها عليه السلام أعاصير المحن ورياح الفتن بصبر وثبات ، ولقد سجلت السنةُ النبويةُ المشرَّفةُ تلك الصفحاتِ المشرقةَ في خضمِ المحنةِ التي أَلـمَّت بها وبزوجها :
   فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  قال : " إن أيوبَ نبيَّ اللهِ عليه السلام  لَبِثَ في بلائه ثمانيَ عشرةَ سنةً ، فَرَفَضَهُ القريبُ والبعيدُ ، إلا رجلينِ مِنْ إخوانِهِ كانا من أخصِّ إخوانِهِ ، كانا يغدوانِ إليه ويروحانِ ، فقال أحدُهما لصاحِِبِهِ : تعلمُ ، واللهِ لقد أذنبَ أيوبُ ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمينَ ! قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : منذ ثمانِ عشرة سنة لم يرحمْه الله فيكشفْ ما به ؟ فلما راح إليه لم يصبرِ الرجلُ حتى ذَكَرَ ذلك له ، فقال أيوبُ : لا أدري ما تقولُ ، غير أن اللهَ يعلمُ أني كنت أمُرُّ على الرجلينِ يتنازعانِ ، فيذكرانِ الله ، فأرجعُ إلى بيتي فَأُكَفِّرُ عنهما ؛ كراهيةَ أن يُذْكَرَ اللهُ إلا في حقٍ 0 قال : وكان يخرجُ إلى حاجتِهِ ، فإذا قضى حاجتَهُ ، أمسكت امرأتُهُ بيدِهِ ، فلما كان ذاتَ يوم ، أبطأ عليها فأوحى اللهُ إلى أيوبَ عليه السلام في مكانه : } ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ  { ( سورة ص : 42)  فاستبطأتْهُ فبلغَتْهُ ، فأقبَلَ عليها ، قد أذهب اللهُ ما به من البلاء فهو أحسنُ ما كان ، فلما رأته قالت : أيْ بارك الله فيكَ ، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المبتلى ، والله ما رأيتُ أحدًا كان أشبهَ بهِ منكَ إذْ كان صحيحًا ! قال : فإني أنا هو ، وكان له أندَرَان : أَنْدَر للقمح ، وأندَر للشعير ، فَبَعَثَ اللهُ سحابتينِ ، فلما كانت إحداهما على أندَرِ القمحِ ، أفرغت فيه الذهبَ حتى فاضتْ ، وأفرغتْ الأخرى على أندَر الشعيرِ الوَرِقِ حتى فاضتْ " [1] 0
 قال تعالى } وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) { (سورة ص ) .
لقد كان ضرب عليه السلام أروع الأمثلة في الصبر واليقين وكذلك كانت زوجتُه رضي الله عنها رمزًا للوفاءِ ونهرا يتدفقُ بالعطاء وينبوعًا ينسابُ بالحنانِ ، ولقدْ قدَّر الله عز وجل لها وفاءها وصبرها ، فرخص لزوجها أيوب عليه السلام وكان قد حلف إن شفاه الله أن يضربها ؛ قيل : لأنها تعجلت شفاءه فطلبت منه الدعاء ، وإنما فعلت ذلك إشفاقا عليه ، وكان عليه السلام يستحيي أن يتعجَّلَ العافيةَ إلى أن لبث في بلائه ثماني عشرة سنة ، فغضب عليه السلام منها وأقسم أن يضربها ، لكنه ندم على ذلك ، وتمنى لو جعل الله له مخرجا من هذا اليمينِ حين يمنُّ عليه بالشفاء ، فرخَّص اللهُ له أن يضربها ضربةً واحدةً غير مؤلمة بحزمة من العيدان برًّا بقسمِهِ مع الوفاء بتلك الزوجة التقية الوفية ، التي شاركته محنتَه ، وقاسمته السراءَ والضراءَ حين تخلى عنه المقربون وملَّه الأصدقاء ، لكنها الشدائدُ التي تكشف عن معادنِ النفوسِ ، وتَبِينُ عما في الصدورِ ، وصدق من قال :
جزى اللهُ الشدائدَ كلَّ خيرٍ *** عرفتُ بها العدوَّ منَ الصديقِ
 
وزوجةُ المرءِ خِلٌّ يُستعانُ بِهِ  ***  على الليالي ونورٌ في دياجِِيها
 مَسْلاةُ فِكْرَتِهِ إِنْ باتَ في كَدَرٍ  ***  مدَّتْ إليه تُواسِـيهِ أيادِيها

وتامل في هذه اللفتة التي تدلُّ على بلاغة المرأة وأدبها وتوقيرها لزوجها وهي تسأل عنه حين تأخر عنها فسالت عنه سؤال اللبيبةِ الأديبةِ : " فاستبطأتْهُ فبلغَتْهُ ، فأقبَلَ عليها ، قد أذهب اللهُ ما به من البلاء فهو أحسنُ ما كان ، فلما رأته قالت : أيْ بارك الله فيكَ ، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المبتلى ، والله ما رأيتُ أحدًا كان أشبهَ بهِ منكَ إذْ كان صحيحًا ! قال : فإني أنا هو "
  يا لها من لحظةٍ من أسعدِ اللحظاتِ : حين يعودُ إليها زوجُها سليما معافى ، فيأخذُ بيدِها ، ويبشرُها برضا الله عنها ورحمتِه ولطفِهِ بها ، ويعود السعدُ والأنسُ من جديد ويصدحُ طيرُ الحبِّ بالتغريدِ ...

-------------------------------
[1] - حديث صحيح :  رواه ابن حبان فى صحيحه  كما في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان حديث2887 -4/244 وفى موارد الظمآن برقم 2091- 6/431  وأخرجه أبو يعلى فى مسنده 3/448 حديث 3605 0 والبزار فى مسنده كما فى كشف الأستار  3/108 حديث 2357 0 والحاكم فى المستدرك 2/ 581 وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبى ،  وأورده الهيثمى فى مجمع الزوائد 8/ 208 وقال رواه أبو يعلى والبزار ورجال البزار رجال الصحيح 0 وأورده أبو نعيم فى الحلية 3/ 374  وقال غريب من حديث الزهرى لم يروه عنه إلا عقيل ورواته متفق على عدالتهم 0 والوَرِق هو الفضة ، والأندَر الموضع الذى يدرس فيه القمح وغيره ، ويسمى البيدر يراجع النهاية في غريب الحديث  1 / 74 0


 

أحمد الشرقاوي
  • بحوث ودراسات
  • مقالات ورسائل
  • قصص مؤثرة
  • الصفحة الرئيسية