اطبع هذه الصفحة


بصائر رمضانية (4)

ماذا يعني بلوغك شهر رمضان ؟

خالد بن عبدالرحمن الشايع

 
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وبعد :
فها قد بلغت شهر رمضان ، وهاهي أيامه تتصرَّم ، فماذا يعني بلوغك هذا الشهر ؟.
إن لذلك من المعاني والدلالات الشيء الكثير . إنها حياةٌ جديدة ، بكل دلالات ومعاني الحياة الجديدة .
فرمضان فرصة لتزكية النفس والترفع بها عن أوضارها المكبِّلِة لها ، لتنطلق إلى آفاقٍ رحبة في عالم السعادة والأُنس والطمأنينة ، إنه عالم الصِّلات الكريمة والوَلاية الجليلة من ربِّ العالمين.
لقد كان شهر رمضان خطاً فاصلاً ومنطلقاً عظيماً للتحول في حياة كثير من الناس ، بل في حياة الإنسانية جمعاء .
وإنما كان ذلك بما جعل في شهر رمضان من الخصائص والمزايا الكونية والشرعية ، والتي جاء بيانها في القرآن والسنة ، فالله يجعل بحكمته للأزمنة والأمكنة من المزايا والخصائص ما لا تدركه العقول ، ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) [القصص : 68] فاختص الله شهر رمضان بمزايا وخيرات ليست فيما سواه من الشهور .
وجعل الله من مزايا رمضان تلك الخيرات الوفيرة والبركات الجليلة التي شهدتها وتشهدها أيامه ولياليه .
فكما أن في رمضان كان تنَزُّل الفرقان : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) [البقرة : 185] .
وكما أن في رمضان كان يوم الفرقان : ( إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) [الأنفال : 41].
فرمضان أيضاً فرصةٌ لأن يكون فرقاناً في حياة كل مسلم ومسلمة ، ذلك أن حكمة فرض الصيام تحصيل التقوى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة : 183].
والتقوى سبيلٌ لنيل الفرقان ، قال الله تعالى : ( يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )[الأنفال : 29].

لقد هيأ الله أسباباً كونيةً حافزةً على بدء حياة جديدة في رمضان ، ولذلك فإن المخلوقات الأخرى تشعر بالتصريفات الكونية والتغيرات الملكوتية التي تكون في رمضان ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب السماء ، و غُلِّقت أبواب جهنم ، و سُلْسِلَت الشياطين ، ولمسلم : " فُتِّحت أبواب الرحمة " وله أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء رمضان فُتِّحَت أبوابُ الجنة ، و أُغلقت أبواب النار ، و صُفِّدت الشياطين " . و للترمذي و ابن ماجه عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين و مَرَدَةُ الجن ، وغُلِّقَت أبواب النار ، فلم يفتح منها باب ، و فُتِّحَت أبواب الجنة ، فلم يغلق منها باب ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أَقْبِل، و يا باغي الشَّرِّ أَقْصِرْ ، و لله عُتَقَاءُ من النار ، و ذلك كُلَّ ليلة ".
فهذه التصريفات الإلهية في بعض أرجاء الكون مثل فتح أبواب الجنة ، وغلق أبواب النار ، وتصفيد الشياطين ، ومنعهم من التسلط على المؤمنين ، إنَّ كُلَّ ذلك وما يتبعه من تَنَزُّل الملائكة في ليالي رمضان ، وخاصةً ليلة القدر ، بأعدادٍ لا يَنْزِلون بمثلها في غيرها ، إن ذلك ليدفع المؤمن لأن يكون مهيئاً لنيل بركات ربه جل وعلا ، وألا ينقضي رمضان إلا وقد كتب في الفائزين المفلحين .
قال بعض أهل العلم : فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين ، وأنه من الله بمنزلةٍ عظيمة ، ومن فوائد ذلك : أنه إذا علم المكلَّف بهذا التصريف بإخبار الصادق المصدوق زاد في نشاطه وتلقى العبادات بأريحية وقبولٍ ومسابقة .
وقال بعضهم : في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف ، كأنه يقال له : قد كُفَّت الشياطين عنك ، فلا تتعلل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية .

وهكذا الأسباب الشرعية المقتضية للمنافسة في فعل الخيرات والاستباق بالطاعات ، فإن في شهر رمضان من الفرص ما هو عظيم وجليل ، حيث تجتمع فيه أصول عبادات الإسلام من التوحيد والصلاة والزكاة والصيام وزيارة البيت العتيق .
فالمسلم الموحد لله السالم من رجز الشرك أنعم الله عليه بمزيد من الصلوات الواصلة له بربِّه جل وعلا ، وهي صلاة التراويح وقيام رمضان ، ووعد من حافظ عليها بمغفرة ذنوبه كلها ، ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه " ، حياةٌ جديدة .
وفي هذه الصلاة الوتر الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حُمْرِ النَّعم ، وهي الوتر ، فجَعَلَها لكم فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث خارجة بن حذافة العدوي رضي الله عنه .
وفي رمضان من أبواب تزكية النفس بالمال ما هو معلوم ومشهود ، والأسوة في ذلك سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان ، فيدارسه القرآن ، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة " .
وفي رمضان الصيام ، الذي هو من أحب الأعمال وأزكاها عند الله ، وفيه تدريب للنفس على ترك محبوباتها ومشتهياتها من أَجْلِ أَحَبِّ محبوب ، الله رب العالمين ، فبالصيام تظهر أمانة العبد مع ربه وحبه ومراقبته له جل وعلا .
وبالصيام المخلَص لله تتحقق الحياة الجديدة : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه " متفقٌ عليه .
وفي رمضان من زيارة البيت العتيق ، وتجديد الشوق إليه ما يجعل المسلم مُتَلَهِّفاً لهذه الزيارة العظيمة ، حتى إنه عليه الصلاة والسلام قال لامرأةٍ سمعها تتحسَّر على عدم حجها معه حجة الوداع ، قال مطيباً خاطرها : " إذا جاء رمضان فاعتمري ، فإن عمرةً فيه تعدل حجة " أو قال : حجةً معي " رواه البخاري ومسلم .
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أتى هذا البيت فلم يرفُث ولم يَفْسُق رجع كما ولدته أمه " وهذا عام فيشمل من أتى البيت حاجاً أو معتمراً . إنها حياةٌ جديدة .
وهكذا أنواع العبادات والقُرُبَات التي تهيأت لها النفوس ، حتى إن المجتمعات الإسلامية لتظهر في نمط واحد وكأنها باتجاهاتها تلك على قلبٍ واحد ، بما يُلْمِحُ إلى لُحْمَتِها ووحدتها إن هي أرادت ذلك.
فإذا استشعرنا كل هذه المحفزات وكل تلك الأساليب من المرغبات التي تتعدى محيط الإنسان وإدراكه إلى عوالم أخرى لا يحيط بها ، ثم يوجد من بين المسلمين من لا يرفع بذلك رأساً ولا يقتطف حظَّه من تلك الغنائم ، فهو الخاسر الذي وصل إلى حالةٍ من الإعراض والتشبث بالآثام والتباعد عن الفضائل والحسنات بما يجعله شبه ميئوس منه ، جراء إعراضه ، إلا أن يتداركه الله بفضل منه ورحمة.
ولأهمية هذا التصور فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابةَ يوماً وبين لهم فيه بياناً شافياً ، فعن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احضُروا المنبر " فحَضَرْنا ، فلما ارتقى درجةً قال : " آمين " فلما ارتقى الدرجة الثانية قال : " آمين " ، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال : " آمين " ، فلما نزل قلنا : يارسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه ؟! قال : " إنَّ جبريل عليه الصلاة والسلام عَرَضَ لي فقال : بُعْداً لمن أدرك رمضان فلم يُغْفَر له ، قلت : آمين ، فلما رقيت الثانية قال : بُعْداً لمن ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك ، قلت : آمين ، فلما رقيت الثالثة قال : بُعْداً لمن أدرك أبواه الكبرَ عنده أو أحدُهما فلم يُدخلاه الجنة ، قلت : " آمين " . رواه الحاكم وصححه ابن حبان .
وبعد : فإن بلوغ شهر رمضان يعتبر في نظر الموفقين حياةً جديدة ، جعلني وإياكم من السعداء في الدارين . وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


 khalidshaya@hotmail.com
 

خالد الشايع
  • الدفاع والنصرة
  • مقالات دعوية
  • شئون المرأة
  • أخلاقيات الطب
  • بر الوالدين
  • ردود وتعقيبات
  • بصائر رمضانية
  • الصفحة الرئيسية