اطبع هذه الصفحة


تعقيباً على توهيم وقائع وأد البنات
وأد البنات أجرم به جاهليو العرب نحو جنس النساء
ونحتاج اليوم لإيقاف أنواع الوأد المعاصر

خالد بن عبدالرحمن بن حمد الشايع
باحث ومستشار شرعي متخصص في السياسة الشرعية

 
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وبعد :
فقد اطلعت على ما ذهب إليه الدكتور مرزوق بن تنباك أستاذ الأدب بجامعة الملك سعود بالرياض حول مسألة وأد البنات في الجاهلية ، حيث قرر أن الوأد عندهم ما كان مختصاً بالبنات ، وإنما هو عام في الجنسين ، وذهب من خلال كتابه (وأد البنات بين الوهم والحقيقة) وما تبع صدوره من الأطروحات والمساجلات إلى أن العرب بُغي عليهم بوصفهم بهذا العمل نحو البنات ، وقرر د. مرزوق بأن علماء التفسير والحديث والمؤرخين تتابعوا في الفهم الخاطئ لمعنى الوأد ، وأنهم قلدوا بعضهم بعضاً في ذلك الفهم ، إلى آخر ما جاء في الكتاب وما تبعه من لقاءات ومساجلات .

وأقول في هذا السياق :
1/ حماية لجناب د. مرزوق ينبغي أن يعلم أنه لا ينكر الوأد في الجاهلية ، بل يقرر وجوده ، ملتزماً بمدلول الآية الكريمة (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ . بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير، الآيتين: 8و9]. ولكنه يرى أنه لم يكن خاصاً بالبنات بل كان للبنين والبنات ، وأن لفظ (الْمَوْؤُودَةُ) يراد به النفس الموؤودة ، فهو لا يخص الأنثى ، ويرى أيضاً أن ذلك القتل بالوأد كان للأطفال الذين يأتون من علاقة غير الزواج، بخلاف الأولاد الشرعيين.
ولا بد من تقديم هذه التوطئة حتى لا يقال إن د. مرزوق ينكر شيئاً مما في القرآن. فحاشا لله أن نرمي بذلك مسلماً.

2/ بحسب اطلاعي ومعرفتي المتواضعة بما دلَّ عليه القرآن والسنة وما جاء من تفسيرهما وشرحهما أعتقد أن رأي د. مرزوق قد جانب الصواب ، بل إنه خطأ فاحش ، وخاصةً أنه محاولة لنقض ما اتفق عليه أئمة العلماء من المتقدمين والمتأخرين ، وتخطئة رأي الدكتور ليست تخرصاً ، بل إنها من خلال البحث العلمي والنقد الموضوعي.

3/ إن د. مرزوق قد خاض في مجال ليس من تخصصه ، فهو وإن خالف المتخصصين في الأدب ورواة الشعر والمؤرخين فيهما ، كصنيعه في رده لبيت الفرزدق الشهير :
ومِنَّا الذي منعَ الوائدات *** و أحيا الوَئِيدَ فلم يُوأَد
وهكذا أيضاً رده ما اتفق عليه المؤرخون وخبراء العربية ، فقد يقال: إن الرجل لا زال يعوم في بحره ، فهو من المنتسبين لكتاب العربية والمهتمين بها ، ولكن أن يخرج د. مرزوق من مجال تخصصه إلى حد يجعله يخطِّئ جماهير الأئمة في التفسير والحديث فهذا ما كنت أتمنى لو أن سعادته نأى بنفسه عنه ، فهو رجل صاحب بحث وفكر يخوله لتجنب مثل هذه الهفوات.
مع الإشارة إلى أن الموروث الشعري للعرب لم يكن خالياً من رصد ظاهرة الوأد ، ومن تطلب ذلك وجده في مظانِّه ، ومنه قول ابن نويرة وينسب أيضاً لحسان بن ثابت:

وموءُودةٍ مقبورةٍ في مفازَةٍ *** بآمَتِها موسودةٍ لم تُمهَّدِ

والآمة هنا: ما يعلق بسُرَّة المولود إذا سقط من بطن أمه. وما أبلغ ما صوره هذا البيت.

4/ إن آيات القرآن الكريم توضح أن البشرية قد أوقعها الشيطان في قتل الأطفال ذكوراً وإناثاً ، تحت عدة ذرائع ومبررات كالفقر أو خوفه أو لأجل العار أو غيره مما وصفه الله بأنه سفه ، وبلا علم ، يوضح هذا :
أ/ قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أولاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ) [الأنعام، الآية: 137] .
ب/ وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام، الآية:151] .
ج/ وقوله سبحانه : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أولاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام:140].
د/ وقوله تعالى : (وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) [الإسراء،الآية:31].
هـ/ وقوله سبحانه في شأن مبايعة نبيه عليه الصلاة والسلام للنساء : (أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أولادَهُنَّ) [الممتحنة:12].

ومع ذلك التفتت آيات القرآن الكريم إلى نوع من القتل كانت بعض القبائل العرب أكثر تمادياً فيه وأعظم إيغالاً ، ألا وهو قتل البنات سخطاً بمولدهن لاعتباراتٍ جاهلية ، فبين الله أن منَ قتلهنَّ سيحاسب يوم الجزاء ، وذلك قوله سبحانه توبيخاً للقتلة : (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير:الآيتين:8و9] وهذه الآية صريحة في أن البنات هُنَّ من قتل بهذه الطريقة ، وهي الوأد ، وذلك بدفن البنت وهي حيَّةٌ في التراب حتى الموت، سُميت بذلك أي موءودة لما يُطرح عليها من التراب ، فيؤودُها، أي: يُثقِلُها حتى تموت، ومنه قوله تعالى : (ولا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي: لا يُثْقِلُهُ.
وحتى لو تم اعتبار المراد بالموؤودة في هذه الآية هي النفس لتشمل الذكر والأنثى ، كما يختار د. مرزوق بن تنباك، فإن الآية الواردة في سورة النحل حول هذه القضية لا تحتمل أن المراد بمن كانوا يدفنونه حياً من الأطفال إلا البنات ، حيث جاء النص على (الأنثى) مع بيان كيفية قتلها ، ألا وهو الوأد ، وذلك قوله سبحانه: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) [النحل، الآيتين:58 و59].

وتفسير (يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) باتفاق المفسرين هو: الدفن في التراب، ووجه آخر أضعف مع احتماله هو: إخفاؤها عن الناس حتى لا تُعرف، وهذا ما اختاره د.مرزوق. لكنه لا ينفي ولا يلغي القول الأول الذي هو الأقوى والأوجه بدلالة المأثور حيث فسره بذلك السلف، وكذلك اتفاقه مع صريح اللغة ، وما يعضد ذلك من واقع اجتماعي تواترت النقول على تقريره. بل إن الوجه الآخر وهو معنى الإخفاء مضمنٌ في الوجه الأول فإن الوائد إذا دفنها في التراب كان بذلك مخفياً لها عن الناس ، وهذا متفق مع أصول تفسير القرآن ، بخلاف ما لو عكسنا.
كما أن تخصيص صفة القتل بالوأد بمن جاءه المولود بطريق السفاح تخصيص بلا مخصص ، إذ لا يساعده على ذلك سياق الآية ولا نصوص أخرى ولا حتى الواقع المرصود لأحوال العرب آنذاك، بل كانوا لا يتحاشون حمل السفاح ولا يكترثون بوقوعه.

5/ ثبت في السنة النبوية ما يبين أن البنات كُنَّ الأكثر تعرضاً لاقتراف جريمة الوأد ، جاء هذا أكثر من حديث ، ومنها :
أ/ ‏ما ثبت عن ‏المغيرة بن شعبة رضي الله عنه‏ عن النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏‏قال ‏: " ‏إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، وَمَنْعاً ‏‏وهات،‏ ‏ووَأدَ ‏البنات ، وكَرِهَ لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى عام 852هـ رحمه الله في شرحه "فتح الباري" :
قوله : (ووَأدَ البنات) ‏‏هو دفن البنات بالحياة , وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهة فيهن , ويقال : إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي , وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها , فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية , فتبعه العرب في ذلك , وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقاً , إما نَفَاسَةً منه على ما ينقصه من ماله , وإما من عدم ما ينفقه عليه , وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات ,وإنما خَصَّ البنات بالذِّكْر لأنه كان الغالب من فعلهم , لأن الذُّكور مظنة القدرة على الاكتساب .

ب/ ‏ما ورد ‏ابن عباس رضي الله عنهما‏ ‏قال: ‏قال رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏: " ‏مَنْ كانت له أنثى فلم ‏ ‏يَئِدْها ‏، ‏ولم يُهِنْهَا ، ولم ‏ ‏يُؤثِر ‏ولده عليها ‏ـ ‏يعني الذكور ـ‏ ‏أدخله الله الجنة". رواه أبو داود وغيره.
وهذان النصَّان وما جاء في معناهما يدلان بصراحة على أنَّ لبنات كنَّ محلاً لجهالات فئام من العرب إبان بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جاء الهدي النبوي معتنياً بهذه القضية ، بغية تصحيح مسار االبشرية وإعادتها إلى جادة الصواب تكريماً للإنسان وحماية لخقوقه.
وبما تقدم يعلم أن وأد البنات في الجاهلية لم تكن كثرة وقوعه وهماً ، بل حقيقة مؤسفة ، فكانت شريعة الإسلام حاسمة في إلغائها والتنديد بمن يقترفها.

وبذلك فإني آمل أن يراجع أخونا الفاضل د. مرزوق بن تنباك ما حرره حيالها ، وآمل أن يتبع ذلك بمعالجة أدبية لأسباب وتداعيات وأد البنات المعنوي والمادي في صوره البشعة المستحدثة في عالمنا المعاصر ، والتي تفنن السفهاء والمنحرفون في أنواعها ، فظلموا بذلك أنفسهم ، وظلموا جنس النساء .
والله المستعان ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


Khalidshaya@hotmail.com

 

خالد الشايع
  • الدفاع والنصرة
  • مقالات دعوية
  • شئون المرأة
  • أخلاقيات الطب
  • بر الوالدين
  • ردود وتعقيبات
  • بصائر رمضانية
  • الصفحة الرئيسية