اطبع هذه الصفحة


قبل أن تحلَّ اللعنة‍ !‍‍‍‍‍!

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

الشيخ فيصل الشدي

 
الحمد لله مُحدث الأكوان والأعيان ، ومبدع الأركان والأزمان ، يتشرف بذكره اللسان ، ويطمئن بحمده وتسبيحه الجنان ، وأشهد أن لا إله حق غيره المقصود في كل شان ، المستعان في كل حين وآن ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بُعث بالإيمان وأُيد بالقرآن ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحابته خير صحب وآل والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد:
سراديب الظلمات في هذه الزمان كثيرة ، وأشرار البلايا في دنيانا مستطيرة ، فشمس القوة التي تغير تلك الظلمات ، والسيف القاطع الذي يقطع تلك الشرور والآفات ، هو والذي نفسي بيده في تقوى الله عز وجل في أنفسنا وفي أهلينا وفي مجتمعنا وفي كل ما نأتي ونذر في حياتنا ، وعد بذلك الحق وهو أحق من وعد  وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا  .

إخوة الإسلام : أسئلة تحتاج إلى إجابة ؟!
واستفهامات تستدعي أولي الفهم والنجابة ؟
متى يُشد الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين ، وتحفظ به حرمات المسلمين ؟ متى تظهر أعلام الشريعة وتفشو أحكام الدين ؟ متى يعلو أهل الحق والإيمان ويندحر أهل الباطل والطغيان ؟ متى تكشف الشبهات وتمنع الشهوات ؟ متى تفيق الأمة كلها رجالها ونسائها صغارها وكبارها متى تفيق من غفلتها وتصحو من سكرتها ؟ متى يستعلن صاحب الحق بحقه ولا يبالي ؟ ويستخفي صاحب الباطل بباطله ويُداري ؟ نعم متى إيـه يا قومي متى ؟! لا جواب . لأن ذي العزة والملكوت والكبرياء والجبروت أجاب ؟ بماذا أجاب ؟ أجاب بأن هذا لن يتحقق إلا عندما تعود الأمة إلى مكمن خيريتها ، وسرِّ عزها وقوتها ما هو ؟
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } .
إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصن الإسلام الحصين ، صُدت به نزوات الشياطين ، وزويت به دعوات الأفاكين والفاجرين ، التأريخ يشهد لكم كان وربي درعاً واقياً من الفتن ، وسياجاً دافعاً من المعاصي والمحن .
جعله الله فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ } .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } .
عز المؤمن وذلُّ المنافق فيه ، يقول سفيان رحمه الله : " إذا أمرت بالمعروف شددتَّ ظهر أخيك ، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق " .
كفاك أنه صفة بل مهمة أفضل خلق الله ألا وهم الأنبياء والمرسلون ، قال الله في وصف إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم :
{ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } ، وماذا قال الله في شأن نبيه إسماعيل عليه السلام : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } .
وما من نبي إلا قال لقومه
{ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } ، وهو ركن ركين للتمكين في الأرض { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } أما أهله فأكرم بهم والله من أهل رتب الله لهم الفلاح بأمرهم ونهيهم { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .
وبُشروا برحمة الله في آخر الآية التي وصفت المؤمنين بالأمر والنهي اختتمت بقوله تعالى
{ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
وسبحان الله يعطون مثل أجور من سبق من هذه الأمة ، فقد روى الإمام أحمد وحسنه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن من أمتي قوماً يعطون مثل أجور أولهم ينكرون المنكر )) .
وما أعظم والله وأعلى منـزلتهم وهذا ما استنبطه الحسن رحمه الله من قوله تعالى
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قال الحسن رحمه الله : " إن في هذه الآية دليلاً على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منـزلته عند الله منـزلة الأنبياء فلهذا ذُكر عُقيبهم " .
ولقد كان السلف يرون من لا يأمر ولا ينهى في عداد أموات الأحياء ، قيل لابن مسعود : من ميت الأحياء ؟ فقال : " الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً .

إخوة الإسلام : سنن الله تعالى في خلقه ثابتة لا تتغير ، ولا تحابي أحداً ولا تتخلف عند وجود أسبابها .
وإن الله جل في علاه يغضب ويلعن ، فهذه صرخة نذير ، وصيحة تحذير ، يصرخ بها الدعاة ، ويصيح بها المشفقون على الأمة ، ينادون بها الأفواج الهائلة السائرة في غيها التاركة لأمر ربها ، المتنكبة لطريقها ، الساكتة عن خطئها ، غضيضة الطرف عن سوءاتها وإجرامها ، ألا يا قوم انتبهوا قبل أن تحل اللعنة ، ألا يا قوم استيقظوا قبل أن تحل اللعنة ، ألا يا قوم كفوا قبل أن تحل اللعنة ، ألا يا قوم مروا أمركم وازجروا زجركم وأقيموا شعيرة ربكم قبل أن تحل اللعنة ، بل قبل أن تحل اللعنات تلو اللعنات ممن ؟ من ربك الذي إذا غضب لا تقوم لغضبه الأرض والسموات ، ممن يُغار على حُرمه ، ويبتلي بالمصائب والبليات .
ألا أين المعتبرون ؟! ألا أين الذين يقرأون ويتفكرون ؟! إنها لعنة لعنها الله سبحانه في كتابه ، تذكرة وعبرة { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } .
فيا الله ورحماك ربي ، إنا لا نقوى على لعنتك .. إنا لا نقوى على لعنتك !! ألطف بنا أنت اللطيف !! ارحمنا فأنت الرحيم .

عباد الله :
أولى لعنات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
كثرة الخبث :
روى البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ يوماً من نومه فزعاً وهو يقول : (( لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق بين أصبعيه السبابة والإبهام )) ، فقالت له زينب رضي الله عنها : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : (( نعم إذا كثر الخبث )) " .
والخبث يكثر يا رعاكم الله إذا أعلن المنكر في المجتمع ولا يوجد من ينكره فإن سوقه تقوم وعوده يشتد ورواقه يمتد ، عندها يقصر المعروف ويعدم ، فيعم الفساد ، ويستوحش الأخيار ، ويهلك العباد . ويا الله الفساد يوحش ولو كان قليلاً  وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ  حين قرأ مالك بن دينار رحمه الله هذه الآية قال : " فكم اليوم في كل قبيلة وحي من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون " .
فيا الله ماذا لو رأى مالك أحوال المسلمين اليوم والله المستعان .

اللعنة الثانية لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
إيذان الله بالعذاب الإلهي العام والهلاك الشامل
، وقد قال الله سبحانه عن أصحاب القرية { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } .
وأخرج أبو داود من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ما من رجلٍ يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقابٍ قبل أن يموتوا )) " .

اللعنة الثالثة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
الاختلاف والتناحر :
وإن مما يدل على الارتباط الوثيق بينهما انظر ماذا قال الله بعد قوله تعالى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } قال بعدها مباشرة { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } .
وروى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم يعني بني إسرائيل )) .
وانظر لحال كثير من مجتمعات المسلمين خير شاهد على ذلك وما في القلوب من الغل والحقد والحسد والتناحر ، والله المستعان .

اللعنة الرابعة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
عدم إجابة الدعاء :
روى الترمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم )) .
نعم تدعونه فلا يستجاب لكم إنها لعنة العظيم إذا غضب ، وماذا يبقى للناس إذن !! ماذا يبقى للناس إذا أوصدت من دونهم رحمة الله ؟ لمن يلجئون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب ؟ فالبدار البدار قبل أن تحلَّ اللعنة .

اللعنة الخامسة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
ظهور الجهل واندراس العلم واختفاء معالم الدين :
فيكون الدين غريباً ، وذلك أن المنكر إذا ظهر فلم يُنكر نشأ عليه الصغير وألفه الكبير ، وظنوه مع مرور الزمن من الحق .
عندها ينكرُ على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويعظم الساكت .
قال الإمام أحمد : يأتي على الناس زمانٌ يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة ، ويكون المنافق يُشار إليه بالأصابع .
قيل يا أبا عبد الله : وكيف يُشار إلى المنافق بالأصابع ؟ فقال : صيروا أمر الله فضولا . وقال : المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى ، يعني قالوا في هذا فضول ، والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه ، فقالوا : نعم الرجل ، ليس بينه وبين الفضول عمل .
وها هو اليوم يقال في كثير من المجتمعات لمن يأمر وينهى أنت تتدخل فيما لا يعنيك ، ليس لك شأن ، حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ولا حول ولا قوة إلا بالله .

اللعنة السادسة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
تسليط الأعداء :
فإن الله عز وجل قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلط عليهم عدواً خارجياً ، فيؤذيهم ، ويستبيح بيضتهم ، ويتحكم في رقابهم وأموالهم .
والتاريخ حافل بشواهد على ذلك ، انظر للمسلمين في الأندلس كيف تحولت عزتهم وقوتهم ومنعتهم لما شاعت بينهم المنكرات بلا نكير إلى ذل وهوان سامهم إياهم النصارى حتى بيع سادة المسلمين آنذاك في أسواق الرقيق وهم يبكون كما قال الشاعر :

فلو رأيت بكاهم عند بيعهم *** لهالك الوجد واستهوتك أحزانُ

اللعنة السابعة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
الأزمات الاقتصادية :
نعم إن المجتمع الذي يُفرِّط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تتلاطم به أمواج الفقر والضوائق ويذوق ويلات الحرمان ، فالربا يعلن فيه ويستعلن به ، والرشوة يجاهر بها ، والغش يضرب بأطنابه في بيوع المجتمع ، وأكل أموال الضعفاء ، والشفاعات التي يؤخذ بها حقوق الغير ، كل هذه وغيرها إذا سكت عنها ولم تنكر ، عندها تحل بالمجتمع ضائقات المال ، وما ظلمهم ربك ولكن بما كسبت أيديهم .
{ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ } .

اللعنة الثامنة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
بالنسبة للفرد اسودادٌ لقلبه وتنكيسه :
حيث جاء في الحديث الصحيح (( تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلبٍ أُشربها نَكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين : على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مرباد كالكوز مُجَخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه )) أهـ .
ألا إنها حقاً لعناتُ واسعة ، وعقوبات قاضية ، لكنها سنة الله الماضية .
صدق الغزالي رحمه الله إذ يقول في الإحياء : " فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم لهذا الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه ، وأُهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد " .
لذا يا رعاكم الله نقل طائفة من أهل العلم الإجماع على وجوبه وأنـه من شعائر الإسلام الظاهرة كالنووي والجصاص وابن حزم وغيرهم ، بل وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى بما أنه من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ، فإنه تقاتل الطائفة الممتنعة عنها .
وأما التفصيل في وجوبه العيني والكفائي فعلى اختلاف الأشخاص والأحوال بما هو مبسوط في كتب العلم ، ويضيق عن التفصيل هنا .

أيها المسلمون : ولا يشك شاك أن الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم رسلُ الخير ، ودعاة الحق ، ونورٌ في دياجير الظلم ، لكم سارت الأمة على نورهم ، واهتدت بكلامهم وتعليمهم ، لذا حري بأولئك الذين هم محط أنظار المجتمع ، وأمل الأمة أن يتحلوا في أمرهم ونهيهم بآداب عظيمة ، وصفات جليلة ، ألا إن من أبرزها :
الإخلاص ، فهو مفتاح القبول ، وطريق التأييد والتسديد من العزيز الحميد ، فلا يأمر الآمر أو ينهى الناهي ليُحسب في الآمرين ، أو ليصل بذلك إلى مالٍ أو رتبة أو جاه .. ونحوها من أعراض الدنيا الزائلة ، وفي هذا ملحظٌ خفي دقيق أن الآمر والناهي ، إذا رُدَّ عليه أمره أو انتقص في كلامه أو أوذي ، فقد ينتصر لنفسه ، وهذا مذهبٌ للإخلاص ، عن أرطأة بن المنذر قال : " المؤمن لا ينتصر لنفسه ، يمنعه من ذلك القرآن والسنة فهو ملجم " .

ثانيها : العلم ، فينبغي أن يكون الآمر والناهي عالماً بما يأمر به وما ينهى عنه .
قال النووي رحمه الله : " إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه وذلك يختلف باختلاف الشيء فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخلٌ فيه ، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء " .
لكن مما ينبغي أن تعلمه أنه لا يشترط أن تكون عالماً فقيهاً ، بل يكفي أن تعلم أن هذا منكراً فتنكره ، وأن هذا من المعروف فتأمر به .

ثالثاً : الصبر وهو سلاح ينبغي ألا ينفك من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، فلابد أن يناله من أذى الناس وسخريتهم وحسدهم ما يحتاج معه إلى صبر يوطنه على مواصلة الطريق
وانظر إلى وصية لقمان لابنه
{ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } .
قال العارفون : من وطنَّ نفسه على الأذى ، وأيقن بثواب الله لم يجد مسَّ الأذى .
نعم فكثير من الناس تكره من يقطع شهوتها ، ويُكدر لذاتها ، حتى وإن كانت محرمة ، فلا يأسفن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على من هجره وقلاه ، ولا يحزنن على من فارقه وجفاه ، فتالله إنه بهذا يقطع أطماعه في الخلق ، ليصير تعلقه برب الخلق .
ومما هو متعلق بما قبله الحلم ، فالصبر والحلم وصفان متلازمان فإن لم يكن الآمر والناهي ذا حلم فالغالب أن الناس لا تقبل منه ، ويا الله انظر لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عنه وعن وجهه ويقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " .

رابعاً : الرفق ، وصدق صلى الله عليه وسلم (( ومن يحرم الرفق يحرم الخير كُلَهُ )) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا قيل : ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عنك المنكر غير منكر ... " .
وشتان شتان بين من لا يملك أصحاب المنكر إلا الاستجابة العاجلة له لحسن أسلوبه ورفقه وحلمه ، وبين من يزيد النار اشتعالاً بشدته وفظاظة أسلوبه.
لكن مما ينبغي أن يُعلم أن الحاجة قد تدعو للعنف والشدة أحياناً ، ذلك بحسب المنكر وصاحبه ، كما بين الأب وابنه ، والمعلم وتلميذه ونحو ذلك .

خامساً : البدء بالأهم وتقديمه على غيره حسب ما تقتضيه المصلحة :

إن اللبيب إذا بدا من جسمه *** مرضان مختلفان داوى الأخطرا

والتدرج بالناس على طريق الخير ، واستلال الشر من نفوسهم أدب شرعي عظيم امتثله الأنبياء مع أقوامهم فبدأوا بالتوحيد وما بعده وهكذا وكذلك رسل الأنبياء ، وليست قصة معاذ وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إياه إلى اليمن ، والتدرج مع الناس هناك عنا ببعيد ، فالمنكرات لاسيما في زماننا هذا منتشرة فهناك ما هو منها أشد نكارة من بعضها الآخر ، فيبدأ بالأشد وهكذا .

سادساً : مراعاة المصالح والمفاسد ، بألا يترتب على الإنكار منكرً آخر أكبر وأوسع انتشاراً من الأول ، ومن هذا الفقه كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : يفتي بعدم الإنكار على التتار لشربهم الخمر لأنهم إذا أفاقوا واستقامت لهم عقولهم التفتوا إلى المسلمين يقتلون ويفسدون ، وفي هذا يحسن الرجوع إلى أهل العلم العارفين فهم أولى الناس بتقدير المصالح والمفاسد .

سابعاً : يجملُ بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إيجاد البديل عن المنكر ، فالنفس قد تكون متعلقة بهذا المنكر إلى حدٍ لا يمكن أن تنفك عنه ، فالعوض هنا والبدل مما يساعد على التخفف من المنكر وهذا منهج رباني وأسلوبٌ نبوي ، ومن ذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا } .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : " ... فلا يُنهى عن منكرٍٍ إلا ويؤمر بمعروف يُغني عنه ، كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، ويُنهى عن عبادة ما سواه " .
فصاحب الأغاني لو استبدلت ذلك بأشرطة القرآن المرتلة ترتيلاً جيداً ، وصاحب النظرات المحرمة لو دللته على الزواج وحاولت أن تعينه على ذلك وهلم جرا .... .

إخوة الإسلام : ما أكثر المخذلين في زماننا هذا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما أكثر العقبات التي يختلقها الناس لأنفسهم تجاه هذا الأصل الأصيل ، وهذه نظرة عجلى حول ذلك :
* فمن الناس من يجالس أصحاب المنكر وهو يعلم مُنكرهم ، ويخالطهم وهم متلبسون به ، ويتعلل بأنه ليس مقراً لهم وأنه منكر عليهم بقلبه فلمثل هذا يقال : إن الله لم يُعذرك أن تنكر بقلبك فقط إلا عندما لم تستطع بلسانك ويدك ، فكيف تسكت وأنت ترى المنكر ، ومن يمنعك عن الكلام أم أنه خوف المعاتبة وقطع العلاقة بينك وبينهم ، وخشية السخرية ، وهب أنك حقاً لم تستطع الإنكار بلسانك ولا يدك فإن الإنكار بالقلب يستلزم مفارقة أهل المنكر ومنكرهم { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ }

* ومن الناس من يتعلل بقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فيفهم بعضهم أن الإنسان إذا اهتدى فلا عليه من أحد فلا يأمر ولا ينهى ، وعن هذه سئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عنه فأجاب : " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر " .

* ومن الناس من يتعلل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن هذا الأمر مسئوليته على العلماء أو أهل العلم ، أو الهيئات وأهل الحسبة ، فسبحان الله أين هؤلاء مما جاء في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) . (من رأى) إذاً هو لكل مسلم رأى ذلك .
لا شك أن العلماء وطلبة العلم والهيئات عليهم من الحق ما ليس مثله على غيرهم ، لكن سكوت المجتمع واكتفاء أفراده بحوقلات وأنات في زوايا المجالس ، هذا الأمر لا ينفع ولا يجدي ، بل لابد من الإنكار بالطرق الشرعية بالحكمة والموعظة الحسنة في رسالة لمسئول ، واستنهاض لهمة عالم ، ومباشرة زيارة صاحب المنكر والإنكار عليه إن أمكن ذلك ، وإلا الساكت شيطان أخرس .

* ومن الناس وهم كثير من يكون الحياء وعدم الجرأة على الحق ، والخوف من الرد شبحاً شيطانياً ماثلاً أمام ناظريه ، تجده يقدم رجلاً ويؤخر أُخرى ، والشيطان يقول له انتظر ، قف قليلاً ، حتى يفعل صاحب المنكر منكره ويمضي وهو يتعلل بلعل وعسى ، فيا سبحان ربي صاحب المنكر يعلن منكره أمام الناس ويجاهر به ولا يبالي ، وصاحب الحق لا يستعلن بحقه بل يخفي ويداري ، ألا تخشى اللعنة قبل أن تحل ، وما هذا إلا فعل بني إسرائيل { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ } ، وإنها لتحتاج إلى كسر حواجز الأوهام ومن ثم يُصبح الأمرُ أمراً عادياً عند الشخص . وهب أنه رَدَّ عليك أو استهزئ بك ، فالأنبياء والرسل أشرف منك وحصل لهم ذلك وأعظم فاصبر وصابر وأمر وبادر .

* ومن الناس من إذا وقع المنكر وطُلب منه الإنكار يتعلل بأنه قد وقع وانتهى الأمر ، فليس في الإنكار فائدة ، فلمثل هؤلاء يردَّ الله سبحانه وتعالى فيقول { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
إن الله لم يطلب منا النتيجة ، بل أمرنا بالبلاغ وبذل السبب ، والله سبحانه من وراء ذلك .
وسواء تغير المنكر أم لم يتغير كفاك أنه إبراء للذمة أمام الله ، ناهيك أن الرائي يرى أن المنكر إذا أُنكر لاسيما من أناسٍ كثير غُير هذا المنكر أو خُفف ضرره ، أو تأخر شرٌ كثيرٌ كان سيأتي تباعاً بعده .
أم أن تقع الفواجع ويُقال وقعت وانتهى فلا ، لأن الشر خطوات وشياطين الإنس والجن لا تكفََّ عن الوسوسة .

عباد الله : نحن في زمنٍ كثرت فيه الفتن والمنكرات ، والشهوات والمغريات ، ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكاد تضعف في أوساط كثيرٍ من الناس ، لذا ينبغي وربي أن تكون تلك الرسالة مسئولية الجميع تمارس في بيوتنا ومحيط أُسرنا ، يمارسها المعلمون والمعلمات مع طلابهم وطالباتهم ، يمارسها الطلاب فيما بينهم وهم يرون بينهم من المنكرات ما قد لا يراه غيرهم ، يمارسها الموظفون في دوائر أعمالهم ، الجيران مع جيرانهم ، انظر إلى البيت الذي يليك فيه ولدٌ لا يصلي ماذا قدمت له ؟ انظر إلى ذلك البيت الذي أمامك في أعلاه طبق فضائي هل نصحت صاحبه ؟ بادر أُخي قبل أن تحل اللعنة .

انظر إلى شوارع المسلمين وما فيها ماذا قدمت ؟ هل أمرت هل نهيت ؟
يقول ابن القيم رحمه الله : " وأيُّ دين ، وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تُضاع ودينه يُترك ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكتُ اللسان ؟ شيطان أخرس ، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين .. " إلى آخر كلامه رحمه الله .

ألا وإنه مما ينبغي التنبيه عليه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد عاطفة تثور ثم تخبو ، ولا مجرد حماس طارئ ثم ينتهي ، وهذا مكمن خطأ ينبغي النظر إليه وهي ألا نعيش حياتنا ردود أفعال ، بل يواصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل وقت وآن ، فأهل المنكرات يبذلون لباطلهم ولا يفترون ، ويجتهدون ولا ينقطعون ، والصراع بين الحق وأهله والباطل وأهله قائم يوم أن قامت السموات والأرض ومستمر حتى قيام الساعة .

 

فيصل الشدي
  • مقالات ورسائل
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية