اطبع هذه الصفحة


رسالة المسجد

الشيخ فيصل الشدي

 
أما بعد: تالله، ما قيمة الحياة إذا خلت من السعي المشكور؟! تالله، ما قيمة الحياة إذا لم تعمر بالعمل المبرور؟! وما تغني الدنيا كل الدنيا بأيامها المعدودة وأعوامها المحدودة إذا لم يقدم المرء بين يديه أو يخلّف من ورائه من الصالحات ما يشفع له عند مولاه إذا انتقل إليه؟! ألا فأبعدوا وجوهكم عن النار، واحذروا سبلها، والله الله بالطاعة واسلكوا طرقها، تلك لعمرو الله هي التقوى التي دوما حثًّا عليها تسمعون، وفي كتاب ربكم في غير ما آية تقرؤون.

إخوة الإسلام، حديثنا اليوم عن بلاد حبيبة إلى الله، حبيبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حبيبة إلى الصحابة بل إلى المؤمنين كلهم في أصقاع الدنيا، ذاك أنها مهد الإسلام، وموئل الصالحين من عباده الكرام، وانطلقت منها جحافل النور لتنير للعالم كله حالكات الظلام، إذا ضاقت على المؤمن الأرض اتجه لتك البلاد اتجاه الشاكي الباكي ليخرج منها وإذا بهمه بل همومه قد تفرجت، وغمه بل غمومه قد تنفست، لكَم اشتاق إليها المشتاقون، وبكى بين جنباتها الباكون، لكَم صدح فيها بآي القرآن، وجأر على أرضها بالدعاء بل الدعوات للواحد الديان، نعم إنها الحبيبة إلى الله، روى الإمام أحمد وأخرجه الحاكم بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)).

ها هو عليه الصلاة والسلام يقدم مهاجرًا من مكة إلى المدينة، ليصل إلى قباء خارج المدينة، فيجعل أول عمل يقوم به تأسيس مسجد قباء، وبعدها بأيام يتجه للمدينة، ليكون أول مشروع يقوم بها في دولته الجديدة بناء المسجد، لماذا؟! ليعلن للأمة كلها ولتعلم الأجيال المتعاقبة أن مؤتمرنا العالمي العظيم هو المسجد، وأن مرتكزنا القوي هو المسجد، منه تنطلق الدعوة الإسلامية، وفي رحابه تُربّى الأرواح الزكية، وبالنداءات التي تصدح بين جنباته تهتدي القلوب التقية.
قام مسجده صلى الله عليه وسلم ليكون روضة من رياض الجنة، شيخه: من عقمت الأرحام أن تأتي بمثله محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلاميذه: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة الأجلاء، وأما مواده المقررة فهي الوحي السماوي الخالد، وأما الشهادة المطلوبة للتخرج فهي أن تكون كلمة الله هي العليا.

ألا فليعلم ـ يا رعاكم الله ـ أن عمار المساجد هم أولياء الله عز وجل وأحباؤه من خلقه، يقول سبحانه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
وعمارة المسجد نوعان:
النوع الأول: العمارة الحسية وذلك ببنائها وتشييدها، ففي الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة))، فيا لبشرى من بنوا مساجد أو ساهموا فيها، فالقصور العظيمة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، تنتظرهم في جنات النعيم ما أخلصوا النية لله تعالى فيما عملوا، نعم ذاك الموعد عند ربهم ينتظرهم، وليس هذا فحسب، بل هاك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)).
الله أكبر ما صلى مصل في هذا المسجد وما دعا داع وما قرأ قارئ وما ذكر ذاكر إلا وتلك الأجور العظيمة والحسنات الكبيرة في ميزان من بنى هذا المسجد وأقامه، وهيأ لهم مكانه، من غير أن ينقص من أجر المصلين شيئًا، هل بعد هذا الفوز من فوز؟! هذا ـ وربي ـ ما جعل كثيرًا من الصالحين على مرّ التاريخ وتعاقب سنين الدهر يدفعون الأموال العظيمة في بناء المساجد، لا يراهم في ذلك إلا الذي خلقهم، لا يرجون من الناس شكورًا، وإنما يرجون من ربهم جنة وحبورًا.

النوع الثاني من عمارة المسجد: والتي ما الأولى إلا وسيلة لها وطريق إليها، وهي الهدف الأعظم والمقصود الأهم، ألا وهي العمارة المعنوية، وذلك بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن الكريم، وتلك العبادات وغيرها هي مراد الشارع في بناء المساجد وإقامتها، ويا كم وكم من الأجور العظيمة.

عباد الله، إن المساجد بيوت الله قد عظمها ربها، وقدرها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فسَنّ لها آدابا وأحكاما وفضائل يحسن بنا أن نذكّر بها، فمن آداب المساجد:
1- التنظف والتطهر والتطيب عند الإتيان إلى المساجد، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ...} [الأعراف:31]، وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه إذا قام للمسجد لبس أحسن ثيابه وأجودها، فسئل عن ذلك فقال: إن الله جميل يجب الجمال، وإني أتجمّل لربي وهو يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
أين هذا الأدب اليوم ممن يأتون للمساجد بثياب النوم، أو بالألبسة الرياضية ولو كان في مناسبة لما لبسها؟!

2- تنظيف المسجد وتطييبه، نعم فكما أن المسلم مستحب له أن يأتي للمسجد متطهرًا نظيفًا، فكذلك ينبغي أن يكون المسجد مهيّأً للمصلين بنظافته وصيانته عن كل ما يؤذيهم، ألا والله ما أعظم أجر ذلك عند الله، كفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم حزن على المرأة السوداء التي كانت تقمّ المسجد عندما ماتت، وطلب الوصول إلى قبرها، وصلى عليها ودعا لها، وأثنى عليها خيرًا كما رواه البخاري، وعند أبي داود والترمذي أن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيَّب. وإنه ليُعاب قوم بيوتُهم حول المسجد نظيفة، فيها أرقى الأطياب وأحسنها، ومسجدهم من ذلك خالٍ يشكو القذى والأذى لمن صلى فيه، ألا ما أجمل أن يتكاتف كلّ جماعة مسجد على ذلك، ويدعمون ذلك بأموالهم وأبدانهم، والأجر محفوظ عند الله يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

3- ولعظم المسجد ومكانه فإن الماشي إليه ينبغي أن يتحلى بالسكينة والوقار، فلا يسرع في مسير، ولا يزعج الناس. ألا وإن من سوء الأدب أن يوقف الرجل سيارته أمام باب المسجد مباشرة بحيث يسدّ على الناس باب المسجد أو يضايقهم في الخروج منه، والسير بالأقدام إلى المسجد أفضل ما أمكن ذلك، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحطّ عنه خطيئة والأخرى ترفع درجة)).

4- الدخول إلى المسجد بالقدم اليمنى، والخروج بالقدم اليسرى، وذكر الدعاء الوارد في ذلك، وهي سنة تكاد تفقد عند كثير من الناس.

5- المسجد بيت الله العظيم، فلا بد لداخله الذي يريد الجلوس فيه من تحيته وهي ركعتان، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) رواه البخاري، وهو من السنة المؤكدة جدًا التي يتساهل فيها بعض الناس.

6- فضيلة الصف الأول في المسجد، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا)) أي: لو يعلمون كم من الأجر العظيم في الصف الأول لتنازعوا عليه حتى تجعل بينهم القرعة، فأين هذا اليوم ممن يرون الغنيمة أمامهم، الصف الأول فيه أماكن عدة ويتلمّسون الصفوف الأخيرة بحثًا عن المساند ونحوها وهم ليسوا بحاجة، أما المحتاج فمعذور كالكبير والمريض وغيره.

7- يتبع الأدب السابق ترتيب الصفوف وتسويتها، ففي الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم : ((لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم))، لذا ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن التسوية واجبة وأن تاركها آثم، وكان النعمان بن بشير يقول: كان صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا كأنما يسوي بين القداح. وهذه رسالة لأئمة المساجد بالاهتمام بهذا الأمر، وليست هي عادة تقال فقط.

وإن هناك أمورًا يحذَّر من الإتيان بها في المساجد صيانة لبيوت الله وحفاظًا عليها، ننبه عليها لما يرى الرائي من تساهل الناس في ذلك.
1- دخول المساجد بالرائحة الكريهة كالثوم والبصل ونحوهما، ففي صحيح مسلم يقـول صلى الله عليه وسلم : ((من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)). وفي مثله رائحة الدخان. وقد يكون أشدّ منه وأعظم إثمًا الدخول بالجوال مفتوحًا لتسمع الرنين هنا وهناك، فإن كلا من صاحب البصل أو الثوم قد آذى اثنين وهما مَن بجانبه فكم يؤذي صاحب الجوال من العشرات من المصلين ويبوء بإثمهم؟! والأمر أخبث إذا كان نغمة موسيقية، فلطفك اللهم بنا ورحمتك نرجو، آخر الزمان تدخل الموسيقى المساجد! اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا.

2- تخطي الرقاب في المسجد وما فيه من الأذية للناس، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غضب على المتخطي رقاب الناس وقال له: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)).

3- البصاق في المسجد والتفل ونحوه وما في معناه عندما يتسوّك المصلي فيتفتت السواك في فمه فيتفله في المسجد.

4- الصلاة بين السواري وهي الأعمدة التي في المسجد، ففي صحيح ابن خزيمة عن قرة قال: كنا نُنهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها طردًا. فيكره الصلاة بينها لأنها تقطع الصف إلا في حالة ضيق المكان فيجوز للحاجة.

5- إنشاد الضالة في المسجد إذا ضاع له شيء بدأ برفع صوته طالبًا لها، فهذا دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسلم بقوله: ((لا ردها الله عليك)).

6- العبث واللهو واللعب في المسجد، وهذا يحصل كثيرًا من الأطفال، بل قل: إنه يحصل في بعض الأحيان من فتيان ناهزوا الاحتلام، ووالله إنه لخطأ جسيم، ما أكثر المساجد التي تشتكي منه اليوم، فإن كان الولد سفيهًا فبالله عليكم أين وليه؟! وأين أبوه عنه؟! تالله إن الإثم ينال أباه إذا هو فرط وتركه، ولا بد أن نربي أبناءنا على تعظيم المساجد واحترامها، وإلا أفسدوا علينا عبادتنا وطاعتنا.

7- رفع الصوت في المسجد حتى ولو كان بقراءة القرآن، فإذا كان مؤذيا ومشوشًا على المصلين فلا ينبغي.

إخوة الإسلام، ثمة وقفة أخيرة أرجأتها في الختام لأهميتها، ولتكون أقرب ما يكون إلى الأذهان.

أحبتي في الله، المسجد في عهد سلفنا الصالح وصدر هذه الأمة الوضاء كان منطلَقًا للجيوش والمجاهدين في سبيل الله، الخطط والتدابير والأمر العسكري ينطلق من المسجد، لأن انطلاقه من المسجد له قوة لا تدانيها قوة. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان ملاذًا لهم، إذا ضاقت بهم الهموم واشتبكت الغموم أتوه وانطرحوا بين يدي ربهم، فتنفرج لهم الدنيا. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان منارة هدى ومعهد تعليم ومدرسة تربية، لكَم تعلم فيه الجاهل، واتّعظ فيه الغافل، واسترشد فيه الضال، واهتدى فيه المنحرف. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان مكانًا لإطعام الجائع ومواساة الفقير، فبالله أهل الصفة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أين كانوا؟! كانوا في المسجد. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان يضجّ بالبكاء، وتتعالى فيه أصوات التكبير والتسبيح والثناء والألسنة الصادقة بالدعاء، فما أن يدخله الداخل حتى يزداد إيمانه، ويشتدّ في الحق بنيانه. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان مدرسة الأجيال وملتقى الأبطال، خرج من بين جنباته المفسر للقرآن العالم به والمحدث والفقيه والخطيب والمجاهد والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعي إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخرجت رحاب المساجد آنذاك قادة الدنيا الذين غيروا وجه التاريخ وأصبحت سيرتهم غُرّة في جبين الزمن وأنموذجًا لم تعرف البشرية مثله.

ولكم أن تسألوا: وما هي تلك المساجد العظيمة التي أخرجت هؤلاء العظماء؟ إنها مساجد بنيت من الجريد وسعف النخيل، إنها مساجد بنيت من الطين، قد تجد فيها سراجًا ضعيفًا وقد لا تجده، إنها مساجد لم تكن مكيفة ولا منمقة ولا مزخرفة. لا، لكن أخرجت أولئك العظماء لأن العبرة بأهل الدار وليس بالدار.

فهل من نظرة بعين العبرة لحال مساجدنا ومساجدهم، ما عرف التاريخ في مساجد فيها وسائل الراحة كمساجد الناس اليوم، ولكن أين الخريجون منها؟!
أمة الإسلام، حقًا والله، علينا أن نعيد للمسجد دوره، أن نعيد له رسالته، أن نعيد له مهمته وكيانه، والله ما ضعفت الأمة وما ذلت وما استكانت إلا يوم أن ضعفت مساجدها، مساجد اليوم لا يمكث فيها الناس أكثر من ساعة ونحوها، وثلاثة وعشرون ساعة قد عطل فيه المسجد ودوره، ونسيت وظيفته، إنها دعوة لكم جميعًا وبالأخص أئمة المساجد وطلاب العلم وممن له حظ ولو يسير فيه، اعمروا بيوت الله بالحلقات، للقرآن وللتعليم وللفقه وللتوحيد وغيرها، ليكن جماعة المسجد إخوة مترابطين متعاونين، بينهم لقاءات خير وبركة وتفقد وإعانة، قوموا بالواجب عليكم، أحيوا مساجدكم بعدما مات كثير منها، فقلما تسمع فيها حديثا إلا في رمضان، وأحد عشر شهرًا يعلو سبات الغفلة أهل المسجد وإمامهم، أصلح الله الحال، وهدى القلوب، وأنقذها من الضلال، إنه سبحانه عزيز حكيم ذو العزة والجلال.

 

فيصل الشدي
  • مقالات ورسائل
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية