اطبع هذه الصفحة


خطبة (العصبية القبلية)
الجمعة5/4/1429هـ

فيصل بن عبدالرحمن الشدي

 
بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنما الخيرية بالتقوى يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
عباد الله، عقيدة التوحيد تجمعنا ودار الإسلام تؤوينا، لا فخر لنا إلا بطاعة الرحمن، ولا عزة ولا كرامة لنا إلا بالإيمان، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
معاشر المصلين، قضية اجتماعية، بسببها انتشرت البغضاء ، ومنها انبعثت الأحقاد ، ولأجلها رفعت شعارات شيطانية ، ولها تعددت الحزبيات العنصرية ، ومع كل أضرارها وجدت رواجاً عند ضعاف الإيمان، واستغلها الأعداء أبشع استغلال .
لم تدخل في مجتمع إلا فرقته ، ولا في صالح إلا أفسدته ، ولا في كثير إلا قللته، ولا في قوي إلا أضعفته ، ما نجح الشيطان في شيء مثلما نجح فيها ، شب عليها الصغير وشاب عليها الكبير ، وتبناها حُثالة المجتمع .
تبرز هذه القضية من خلال فلتات اللسان ، وصفحات الوجوه ، وما يكتب على الجدران ، وطاولات التلاميذ.
مجالس الدهماء تروجها ، وأشعار الجهلاء ترددها، كلما خبت نارها جاء من يسعرها، ويحذر من نسيانها والغفلة عنها.
إنها العصبية القبلية المقيتة ، إنها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب ، الفخر بالأرض والتراب، إنها الفخر بالعرق واللون والبلد والجنس ،بل ويمتدرواقه إلى التعصب للرأي والعمل والتخصص .
حقا إنها حرباء تلونت ألوانها وتنوعت أشكالها وساءت وقبحت وربي تبعاتها . إنها دعوى الجاهلية تأصلت فيمن رَقَّ إيمانه وضعف يقينه وطُمس على قلبه وغَفَل عن أصله وحقيقته.
عباد الله، يقول الله تعالى ذاماً أهل الحمية لغير الدين: إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ [الفتح:26]، وجاء في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية))
وجاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد)) أخرجه مسلم في صحيحه
وروى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم ، وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى))
روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قومٌ يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجِعلان )) أخرجه البزار وصححه الألباني كما في صحيح الجامع .
عباد الله، قال المفسرون في قوله تعالى: وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ [الحجرات:13]، جعلناكم شعوباً وقبائل لتتعارفوا لا لتتفاخروا ، فقد حسمت هذه الآية موضوع التفاخر بتأصيل ثلاث ركائز.
الأولى: أن أصل خلق الناس جميعاً واحد.
الثاني: أن ما يحتج به الناس بانتسابهم إلى شعب كذا أو قبيلة كذا مما لم يأذن به الله لأجل التفاخر، وإنما أذن به لأجل التعارف فحسب ، لما يترتب عليه من حقوق وواجبات.
الثالث: أن التفاخر والتفاضل والتقدم إنما هو لأهل التقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13].. تذكر أخي الكريم أن كل الروابط سوى الدين يمكن أن توجد ثم تنقطع، هذا نبي الله نوح تنقطع بينه وبين ولده الروابط لأنه كافر، تأمل قوله تعالى : { ونادى نوح ربه فـقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ، قال يا نـوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } [ هود : 45-46]، وامرأة فرعون تنفصل عن مجتمعها كلِّه، وتنتصرُ على ضغط المجتمع والقصر والملك والحاشية وترفع رأسها إلى السماء، إنه التجرد الكامل من كل هذه المؤثرات والأواصر والروابط، (( إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة …)).
إنه الإدراك الحقيقي أن كل هذه الروابط لا تسمن ولا تغني من جوع، إن هي حالت بين الإنسان وبين دينه . يقول صلى الله عليه وسلم : (( من قاتل تحت راية عُمِّـيَّة يغضب لعَصَبية، أو يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية فقُتل فقِتْلة جاهلية)) رواه مسلم .
إن رابطة المعتقد لتعلو على كل الروابط، لهذا قال الله سبحانه وتعالى في أبي عبيدة حين قتل أباه المشرك يوم أحد، وفي أبي بكر حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وفي عمر حين قتل خاله يوم بدر، وفي حمزة حين قتل عتبة وشيبة يوم بدر : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } [ المجادلة : 22].
إن ترك هذا التعصب للجنس أو اللون أو اللغة يجعل المسلم عالمياً، أخوه من يكون على دينه ولو كان في أقصى الأرض لهذا جمعت العقيدة صهيباً الرومي، وبلالاً الحبشي، وسلمان الفارسي، وأبا بكر العربي القرشي تحت راية واحدة .
إن الأخوة الإسلامية تفوق جميع الصلات تتجاوز بذلك الحدود الجغرافية والروابط الأرضية إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ((المؤمن للمؤمن كالبنيان)) ، ((المسلم أخو المسلم)) ، هذا هو الشعار الذي يجب أن يرفع ، ومن أجله نحب ونعادي .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية ، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك غضباً شديداً فقال: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)) " ا.هـ كلامه رحمه الله.
فإذا كان هذا هو موقف الإسلام من هذا التعصب، فنحن ما واقعنا، وهل للتعصب للقبيلة أو الجنس أثر في حياتنا؟ إننا إذا كنا نريد الصراحة قلنا : نعم وبملء أفواهنا، نحن نلمس في مجالسنا التنابز بالألقاب، كل رجل يغمز صاحبه الحاضر أو الغائب بنسبه، أو جنسه أو لونه، ونحن نلمس اليوم أن التقدير والاحترام يؤثر فيهما في أحيان كثيرة القبيلة والجنس واللغة .
عباد الله :ليس بخاف على الأعين ولاالأسماع مايحدث في مزايين الإبل من المفاخرة والتفاخر والتباهي والتكاثر..إننا نرى مظاهر تلك العصبية الجوفاء في مناصرة الشعراء..إننا وللأسف نراهاعلى سيارات بعض شبابنا في حرف ورمز وهمز ولمز،والأعجب ما نسمعه من ذلك في بعض مدارسنا وعلى أصغر المستويات.. إننا نراه في نظرة البعض لغير أبناء البلد الذين جاءت بهم الحاجة للرزق إلى بلادنا،ناهيك أن تتجاوز النظرة إلى أقوال وفعال ومظالم تحزن القلب.
ألاوربي إنها الجاهلية الجهلاء بعبيتها وعميتها بأوضارها وأوزارها ،فأين القران منا؟ وأين حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم
فينا؟
أسأل الله تبارك وتعالى أن يؤلف بين القلوب، وأن يجعلها متحابة في ذات الله ، فلا نعمة بعد الإسلام أعظم من ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102، 103].

الخطبة الثانية
عباد الله، يا أيها الآباء، يا أيها المربون، اتقوا الله في أنفسكم لا تُنْشِئُوْا صغاركم على التعصب والافتخار لغير الإسلام ، بل ربّوهم على المبادئ الكريمة والخصال الحميدة التي دعانا إليها ديننا القويم، وحثوهم على الاتصاف بها.
لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنـا تبني ونفعل مثلما فعلـوا
وذلك تحت مظلة الإسلام.
أما أنت، يا من تطعنُ في الأنساب وتفتخر بالأحساب، يا من حقّرت الناس وتنقصتهم، ألا تعلم حقيقتك؟! ألا تعلم أن أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وتحمل في جوفك العذرة؟! أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ [المرسلات:20]. فعلام الكبرياء وعلام التعالي.
إن احتقار الآخرين والحمية لغير الدين توقع المرء في الغَيْرة لغير الإسلام والغضب لغير الله، وتؤدي إلى ظلم العباد ورد الحق ومنع الحقوق والانتصار للباطل وأهله كما قال أحدهم:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
عباد الله، احذروا وساوس الشيطان، فإنه إياكم يكيد ، ولتفريق شملكم يريد ، فقد صح بذلك الوعيد والتهديد ، أخبر به أنصح الخلق عليه الصلاة والسلام فقال: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه
نعم، والله إنك لتجد الرجل يقيم شعائر الدين، ويبكي من خشية الله، وفيه خير كثير، ثم تجده بعد ذلك قدْ ملئ قلبه بالعصبية، فلأجلها يحب ومن أجلها يعادي، ألا يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان))
والحب من العبادات، فيجب علينا أن لا نحب إلا ما يحبه الله وأن لا نبغض إلا ما يبغضه ، والله تبارك وتعالى يبغض العصبية والحمية لغير دينه.
فلنتق الله عباد الله، ولنطلب العزة في مظانها، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

 

فيصل الشدي
  • مقالات ورسائل
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية