الحمد لله جعل لكل شيءٍ قدرًا ، وأحاط بكل شيء خُبرًا ، وأسبل على الخلائق
رعايتَه سِترًا ، أحمده تعالى على نعمائه شكرا ، وأُسلِّمُ لقضائه وقدَره صبْرًا
، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له خلَق من الماء بشرًا فجعله نسبًا
وصِهرًا وأشهد أن نبينا محمدا عبدُه ورسولُه ، أرسله إلى البشرية عُذْرًا
ونُذْرًا ، فدعى إلى الله سرًا وجهرًا ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه وأكرم بهم في نصرةِ الدينِ نصرًا ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وأَدِم
لهم أجرًا ، أما بعد أحبتي الكرام ، اتقوا الله فإن تقواه أفضلُ زاد ، وأحسنُ
عاقبةٍ في معاد ، واعلموا أن الدنيا مِضْمَارُ سِباق ، سبق قومٌ ففازوا ، وتخلف
آخرون فخابوا ، فرحم الله عبدًا نظر فتفكر ، وتفكر فاعتبر ، وأبصر فصبر ، ولا
يصبر على الحق إلا من عرف فضله ، ورجا عاقبته
{ إِنَّ الْعَـاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }
أحبتي الكرام في الأيامِ القليلةِ الخاليةِ قضى
الحجاجُ عبادةً من أعظم العبادات ، وقربةً من أعظم القربات ، تجردوا لله من
المخيطِ عند الميقات ، وهلتْ دموع التوبةِ في صعيد عرفاتٍ على الوجنات ، خجلاً من
الهفوات والعثرات ، وضجتْ بالافتقار إلى الله كلُ الأصواتِ بجميع اللغات ،
وازدلفتِ الأرواحُ إلى مزدلفةَ للبَيَات ، وزحفتِ الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات
، والطوافِ بالكعبة المشرفة ، والسعيِ بين الصفا والمروة في رحلةٍ من أروع
الرَحلات ، وسياحةٍ من أجمل السياحات ، عادَ الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله
من فضله
{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ }
فإلي كل من حج البيت العتيق ، إليك هذه الوقفات من قلب محب لك شفيق ، فأنت والله
أعز علي من أخي الشقيق ، فتقبلها مني واقبلها من فؤاد تقطع قلبه وسالت بالعبرة
عينه ، وإلى أولى هذه الوقفات ...
الوقفة الأولى :
يا من حج البيت العتيق ، وجئت من كلِ فج عميق ، ولبيت من كل طرفٍ سحيق ، ها أنت
وقد كَمُلَ حجك وتمَّ تفثُك بعد أن وقفت على هاتيك المشاعر ، وأديت تلك الشعائر ،
ها أنت تتهيأ للرجوع إلى ديارك احذر كل الحذر من العودة إلى التلوثِ بالمحرمات ،
والتلفُّع بالمَعَرَّات ، والْتِحَافِ المسبَّات
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ
غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا }
فإياك إياك أن تهدم ما بنيت ، وتُبدد ما جمعت ، وتنقض ما أحكمتم .
الوقفة الثانية
: يا من حج بيت الله الحرام ، اشكر الله
على ما أولاك ، واحمده على ما حباك وأعطاك ، تتابع عليك بِرُّه ، واتصل خيرُه ،
وعمَّ عطاؤه ، وكمُلت فواضله ، وتمت نوافله
{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ
اللَّهِ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ
لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } فظُن بربك كلَ جميل
، وأمِّل كلَ خيرٍ جزيل ، وقوّي رجاءك بالله في قبولِ حجِك ، ومحْوِ ما سلف من
ذنوبك ، فقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " قال
الله تعالى : أنا عند ظنِ عبدي بي " [ أخرجه الشيخان ] فهنيئًا لك حجُك وعبادتُك
واجتهادُك .
الوقفة الثالثة :
يا من حج البيت الكريم : لقد فتحت في حياتك صفحةً بيضاء نقية ، ولبست بعد حجك
ثيابًا طاهرة نقية ، فحذار حذار من العودةِ إلى الأفعال المخزية ، والمسالكِ
المردية ، والأعمال الشائنة ، فما أحسن الحسنةِ تتبعها الحسنة ، وما أقبح السيئةِ
بعد الحسنة ، وإن من قبول العمل الصالح إتباعه بعمل صالح .
الوقفة الرابعة :
إن للحج المبرور أمارة ، ولقبوله منارة ، سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى : ما
الحجُ المبرور ؟ قال : أن تعودَ زاهدًا في الدنيا ، راغبًا في الآخرة ، فليكن
حجُك حاجزًا لك عن مواقعِ الهلكة ، ومانعًا لك من المزالقِ المُتلفة ، وباعثًا لك
إلى المزيد من الخيرات وفعلِ الصالحات ، واعلم أن المؤمن ليس له منتهى من صالحِ
العمل إلا حلولُ الأجل ، فما أجملَ أن تعود بعد الحج إلى أهلك ووطنك بالخُلُقِ
الأكمل ، والعقلِ الأرزن ، والوقارِ الأرْصَن ، والعِرض الأصون ، والشِيَمِ
المرْضية ، والسجايا الكريمة ، ما أجملَ أن تعود حَسَنَ المعاملة لقِعادك ، كريمَ
المعاشرةِ لأولادك ، طاهرَ الفؤاد ، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد ،
المُضْمَرُ منه خيرٌ من المظهر ، والخافي أجملُ من البادي ، فإن من يعودُ بعد
الحج بهذه الصفات الجميلة والسمات الجليلة فهو حقًا من استفاد من الحجِ وأسراره
ودروسه وآثاره .
الوقفة الخامسة :
الحج بكل مناسكِه وأنساكه يعرفك بالله ، يذكرك بحقوقه وخصائصِ ألوهيته جل في علاه
، وأنه لا يستحقُ العبادةَ سواه ، يعرفك ويذكرك بأن الله هو الأحدُ الذي تُسلَم
النفس إليه ، ويوجَّه الوجه إليه ، وأنه الصمدُ الذي له وحده تَصْمُد الخلائق في
طلب الحاجات ، فكيف يهون عليك بعد ذلك أن تصرف حقًا من حقوق الله من الدعاء
والاستعانةِ والذبح والنذر إلى غيره ؟ فأي حجٍّ لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من
ذلك الشركِ الصريح والعمل القبيح ، أي حج لم حج من يأتي المشعوذين والسحرة ،
ويُصَدِّقُ أصحابَ الأبراج والتنجيمِ وأهلَ الطِيرة ويتبرك بالأشجار ، ويتمسح
بالأحجار ، ويعلق التمائمَ والحروز ؟ أين أثرُ الحج فيمن عاد بعد حجه مضيعًا
للصلاة ، مانعًا للزكاة ، آكلاً للربا والرُشا ، متعاطيًا للمخدرات والمسكرات ،
قاطعًا للأرحام ، والغًا في الموبقات والآثام ؟ فيا من امتنعتَ عن محظورات
الإحرامِ أثناء حج بيت الله الحرام ، إن هناكَ محظوراتٌ على الدوام ، وطولَ الدهر
والأعوام ، فاحذر إتيانها وقربانها
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ
تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ
} .
الوقفة السادسة :
من لبى لله في الحج مستجيبًا لندائه كيف يلّبي بعد ذلك لدعوةٍ أو مبدأ أو مذهب أو
نداء يُنَاهِض دين الله الذي لا يُقبل من أحدٍ دين سواه ؟ من لبّى لله في الحج
كيف يَتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعته ، أو ينقادَ لغير حكمه ، أو يرضى بغير رسالته
؟ من لبى لله في الحج فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابةِ لأمره أنى توجهت
رِكائبُه ، وحيثُ استقلَّت مضاربه ، لا يتردد في ذلك ولا يتخير ، ولا يتمَنَّعُ
ولا يضجر ، وإنما يَذِّلُ ويخضع ، ويطيع ويسمع .
الوقفة السابعة :
يا من غابت عنه شمسُ هذه الأيامِ ولم يَقْضِها إلا في المعاصي والآثام ، يا من
ذهبتْ عليه مواسمُ الخيرات والرحمات وهو منشغل بالملاهي والمنكرات ، أما رأيت
قوافلَ الحجاج والمعتمرين والعابدين ؟ أما رأيت تجرُد المحرمين وأكفَّ الراغبين
ودموعَ التائبين ؟ أما سمعتَ صوت الملبين المكبرين المهللين ؟ فما لك قد مرّت
عليك خيرُ أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُدَّ عليك الوَثاق ؟ يا من
راح في المعاصي وغدا ، يقول : سأتوب اليوم أو غدًا ، يا من أصبح قلبه في الهوى
مُبددًا ، وأمسى بالجهل مُجنَّدًا ، وبالشهواتِ محبوسًا مقيدًا ، تذكر ليلةً
تبيتُ في القبر منفردًا ، وبادرِ بالمتاب ما دمت في زمن الإنظار ، واستدرك فائتًا
قبل أن لا تُقال العِثار وأقلع عن الذنوب والأوزار ، واعلم أن الله يبسط يده
بالنهار ليتوبَ مُسيء الليل ، ويبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار .
الوقفة الثامنة :
وأنت أنت يا من تقلبتَ في أنواع العبادة ، الزم طريقَ الاستقامة ، وداوم العمل
فلستَ بدار إقامة ، واحذر الإِدْلاَءَ والرياء فربّ عملٍ صغير تعظمه النية ، ورب
عمل كبير تصغره النية ، يقول بعض السلف : من سره أن يَكْمُلَ له عمله فليُحسن
نيته ، وكن على خوف ووجل من عدمِ قبول العمل ، فعن عائشة رضي الله عنها زوجُ
النبي قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية
{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ
وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } فقلت : أهم
الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ فقال " لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصومون
ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تُقبل منهم
{ أُوْلَـئِكَ يُسَـارِعُونَ فِى
الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ } "
[ أخرجه الترمذي ] .
الوقفة التاسعة :
يا من قصد البيت الحرام ، ليكن حجك أول فتوحك ، وتباشيرَ فجرك ، وإشراقَ صبحك ،
وبدايةَ مولدك ، وعنوانَ صدق إرادتك ، تقبل الله حجك وسعيك ، وأعاد الله علينا
وعليك هذه الأيام المباركة أعوامًا عديدة ، وأزمنة مديدة ، والأمة الإسلامية في
عزة وكرامة ، ونصر وتمكين ، ورفعة وسؤدد ، اللهم تقبل من الحجاج حجهم ، اللهم
تقبل من الحجاج حجهم وسعيهم ، اللهم اجعل حجهم مبرورًا ، وسعيهم مشكورًا ، وذنبهم
مغفورًا ، اللهم تقبل مساعيهم وزكها ، وارفع درجاتهم وأعلها ، وبلّغهم من الآمال
منتهاها ، ومن الخيرات أقصاها ، اللهم اجعل سفرهم سعيدًا ، وعودهم إلى بلادهم
حميدًا ، اللهم هون عليهم الأسفار ، وأمنهم من جميع الأخطار ، اللهم احفظهم من كل
ما يؤذيهم ، وأبعد عنهم كل ما يضنيهم ، اللهم واجعل دربهم درب السلامة والأمان ،
والراحة والاطمئنان ، اللهم وأعدهم إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبيهم سالمين
غانمين برحتمك يا أرحم الراحمين ...
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين
|