اطبع هذه الصفحة


هل يجمع بين الصلاتين للغبار ؟

عبد الرحمن بن صالح السديس

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وسلم، أما بعد:
فهذه كلمات في مسألة «جمع الصلاة من أجل الغبار» أذكرها مدارسة وأقدمها بين يدي إخواني ومشايخي من طلبة العلم.
فقد رأيت بعض الفضلاء يجوز الجمع للغبار الشديد، ويستدل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، ويعلل بدفع الحرج.
فهل يصح هذا ؟

من جهة النقل:

راجعت ما كتبه أهل العلم في مجاميع كتب الحديث والآثار وكتب الفقه الكبار، فلم أجد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاءه الراشدين ولا الصحابة جمعوا من أجل الغبار، بل ربما ليس له ذكر حتى في القرون المفضلة.
ومعلوم أن الريح المحملة بالغبار ليست من الأمور الحادثة، فإذا ثبت كونه موجودا، ولم يثبت أنهم جمعوا لهذا السبب = تبين أنه ليس برخصة لجمع الصلاة، وإلا لما تواردوا على تركها.

ومن جهة الواقع:

فأكثر مواجات الغبار التي تأتي لا تمنع عامة الناس من مصالحهم ولا تحبسهم عن الخروج والدخول، بل بعضهم يكون متنزها فلا يقطع رحلته، وإنما يتضرر منها بعض من عنده مشاكل في الصدر، وهؤلاء لا يصلح لهم الخروج من البيت أبدا وقت الغبار، وسيتساهل الناس في تطبيق الشرط: «الغبار الشديد».

أما من جهة المعنى:

فالترخيص المعقول الذي يستفاد منه؛ أن يقال:
إذا وجد غبار يضر ويؤذي ويشق الخروج معه = فصل في بيتك، ولا تتكلف الخروج في الغبار الذي يضرك ويؤذيك.
لأنه إذا أُمر بالخروج للصلاة في المسجد = حصل الحرج والمشقة في وقت الغبار، ثم تجمع معها الصلاة التي تليها، مع أنه ربما يكون وقت الصلاة الأخرى قد ذهب الغبار!
فنكون أخرجناه وقت الحرج، وأسقطنا عنه الجماعة وقت اليسر! بحجة التيسير ورفع الحرج.


وإذا نظرت في السنة وجدت الرخصة ثابتة في عدة أحاديث في التخلف عن الجماعة للعذر، بأبين من الرخصة في الجمع، بل لا أعلم أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في المطر، ولا عن خلفائه الراشدين.
وأكبر ما في الباب حديث ابن عباس رضي الله عنهما، «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا..» الحديثَ، برواياته المختلفة، في الصحيحين وغيرهما.
وهذا الحديث ظاهره مشكل، لذا اختلفت مسالك أهل العلم في التعامل معه، ذكر منها العلامة ابن رجب في «فتح الباري» ثمانية، وها هي مختصرة:
1- أنه منسوخ بالإجماع على خلافه.
2- معارضته بما يخالفه، وهي أحاديث المواقيت المتواترة.
3- حمله على الجمع الصوري، وهو أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها ويقدم الأخرى إلى أول وقتها.
4- أنه كان لأجل المطر.
5- أنه كان في السفر.
6- أنه كان للمرض.
7- أنه كان لشغل.
8- أنه على ظاهره.

وهذه الأقوال تدل على أن عامة الأئمة لم يعملوا به على ظاهره.

وأحسن ما يستدل به للجمع للمطر مع مفهوم بعض روايات هذا الحديث، ما رواه مالك في «الموطإ» عن نافع: «أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر، جمع معهم». ورواه ابن أبي شيبة في «المصنف» من طريق عبيد الله عن نافع، قال: «كانت أمراؤنا إذا كانت ليلة مطيرة أبطأوا بالمغرب، وعجلوا بالعشاء قبل أن يغيب الشفق، فكان ابن عمر يصلي معهم، لا يرى بذلك بأسا». وإسناهما صحيح.

هذا أكبر ما ذكره أهل العلم في حجة الجمع للمطر، وإن كان جمع منهم لا يرخص في ذلك.
ويقوي قول من لم يرخص ـ وهم جمع من الأئمة ـ أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولا خلفاءه الراشدين، وقد مطرت المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مطرا متواصلا كما في «صحيح البخاري» في قصة استسقاء الأعرابي قال أنس رضي الله عنه: «.. فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال..»
فهذا المطر الذي استمر أسبوعا كاملا لم يرد فيه أنه صلى الله عليه وسلم جمع للمطر.

أما الرخصة في التخلف عن الجماعة في المطر ونحوه = فهي السنة الثابتة في عدة أحاديث، منها:

1- في الصحيحين من طريق نافع، قال: أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان، ثم قال: صلوا في رحالكم، فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن، ثم يقول على إثره: «ألا صلوا في الرحال» في الليلة الباردة، أو المطيرة في السفر.
وفي رواية:أن ابن عمر، أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر، يقول: «ألا صلوا في الرحال».
2- في الصحيحين أن ابن عباس قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: «صلوا في بيوتكم» ، فكأن الناس استنكروا، قال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين والدحض.
3- في مسلم من حديث جابر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمطرنا، فقال: «ليصل من شاء منكم في رحله».
4- في المسند والنسائي بسند صحيح من حديث عمرو بن أوس ـ وهو من كبار التابعين ـ قال: أخبرني من سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قامت الصلاة - أو حين حانت الصلاة أو نحو هذا -: « أن صلوا في رحالكم لمطر كان ».
5- في المسند والنسائي بسند صحيح عن أبي المليح، عن أبيه، أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأصابهم مطر، فنادى مناديه: « أن صلوا في رحالكم ».
وفي بعض الروايات عنه أنها في الحديبية.
6- في مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سمرة بن جندب، أن يوم حنين كان يوما مطيرا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه: «أن الصلاة في الرحال ».
7- في المسند عن نعيم بن النحام، قال: سمعت مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة باردة وأنا في لحافي، فتمنيت أن يقول: صلوا في رحالكم، فلما بلغ حي على الفلاح، قال: «صلوا في رحالكم» ثم سألت عنها، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد أمره بذلك.

فهذه نصوص متواترة في الرخصة عن حضور الجماعة للعذر من مطر وطين وريح باردة، ولو كان الجمع خيرا لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهذا، ومن المعلوم أن المحافظة على الوقت = أولى من المحافظة على الجماعة عند عامة أهل العلم.

ومن تخلف عن الجماعة لمثل هذه الأعذار = فقد اتبع السنة، وفعله صحيح عند عامة الأئمة، وله ثواب الجماعة.
وليس كذلك الجمع؛ إذ جمع من الأئمة لا يصحح فعله، وجملة ممن يجوز ذلك يشترط شروطا لا يعرفها أكثر من يجمع، فلا يكون فعله صوابا عند جموع من أهل العلم، مع عدم ما يسند فعله من السنة الثابتة، وكون حضور الجماعة لأجل الجمع =يوقع في حرج في كثير من أحواله.
والله أعلم.



 

عبد الرحمن السديس
  • مقالات متنوعة
  • فوائد حديثية
  • مسائل فقهية
  • فوائد تاريخية
  • مسائل عقدية
  • الصفحة الرئيسية