اطبع هذه الصفحة


هل قيام الليل كله في رمضان حسن؟

عبد الرحمن بن صالح السديس

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله حمدا كثيرا، وصلى الله على محمد وآله وسلم، خيرُ الهدي هديه، وأحسن السنن سنته، أمر بالتمسك بها، وبسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
أما بعد: فإن من تأمل هديه صلى الله عليه وسلم وما أرشد به أمته، ورأى سيرة أصحابه = تبين له أن قيام الليل كله في رمضان وغيره ليس من هديه صلى الله عليه وسلم ولا هدي أصحابه.
ففي مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكني أصلي وأنام .. فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن عمرو: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه».
وفي البخاري عن الأسود قال سألت عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل؟ قالت: كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه. رواه البخاري .
وروى البخاري بعده:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج ذات ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه. الحديث.
لا حظ: «من جوف الليل».
وفي السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه ؟ فقال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة، ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، وصلى بنا في الثالثة ودعى أهله ونسائه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، قلت له: وما الفلاح ؟ قال: السحور.
وجاء نحوه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عند أحمد والنسائي وابن خزيمة وغيرهم.
فهذا الحديث يدل على أنه لم يقم كل الليل حتى في العشر الأواخر.
وفي البخاري أيضا في قصة مبيت سلمان عند أبي الدرداء رضي الله عنهما: «فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان».
وفي البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل أنه قال يا عبد الله [أبو موسى الأشعري] كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقا. قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟
قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها: «وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح».
وفي البخاري : عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله».
فهذا عمر لم يصل أول الليل، وأولئك لن يصلوا آخره.
في الصحيحين أن صفية زوج النبي صلى الله عليه و سلم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب وقام النبي صلى الله عليه و سلم يقلبها.
وفي الصحيحين أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
وفي رواية للبخاري: «وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن».
وهذا دليل أيضا أنه لم يكن يصلي كل الليل في العشر .
والنصوص والأخبار في ذلك كثيرة، وهم خيرة الخلق والخير في اتباع هديهم .
والموجب لهذا المقال:
أن الشيخ أحمد الحواشي وفقه الله وسدده، يقوم من بعد العشاء إلى قرب الفجر كل ليالي رمضان، ولاشك أن هذا العبادة الطويلة جدا لا يصبر عليها إلا المجتهدون العُباد الصالحون.. وهذا القيام الطويل جعل بعض الناس يمدح هذا الفعل ويبالغ فيه، وربما ازدرى من لم يصنع مثله!
وقد رأيتَ الهدي النبوي وطريقة خير القرون، وهذا خلافه، مع أن في هذا الفعل إشكالا آخر، وهو أن يفعل في مسجد جامع، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أم أحدكم الناس، فليخفف، فإن فيهم الصغير، والكبير، والضعيف، والمريض، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء».
وهذا يشمل الفرض والنفل، ولا يحق للإمام أن يطيل بالجماعة إطالة خارجة عن العادة، بحجة: أنه نفل، أو بحجة: مَن لم يُرد؛ فليصل في مسجد آخر، أو يصل في بيته.. لأنه لا حق له أن ينفرهم بمثل هذه الحجج والمسجد ليس للإمام، ولو كان المعارض واحدا؛ فالحق معه وله.
وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ وعلى إمام آخر، من أجل شكوى رجل واحد من بين أهل المسجد، ونهاه عن ذلك، والحديثان في الصحيح.
فإن قيل: الجماعة راضون ونحن نرى المسجد يصلي فيه خلق كثير.
فالجواب: أن هذا ليس بصحيح ولا يتصور أن يرضى أهل حي أن يصلي بهم الإمام كل ليلة إلى نحو الفجر، فلهم أعمال وأشغال ومصالح..
إذن كيف اجتمع هذا العدد الكبير؟
فالجواب: أن كثيرا منهم لا يصلي كل يوم بل يأتي جمع منهم من بعيد على فراغهم، ومن يصلي اليوم ربما لا يصلي غدا.
والله أعلم .


 

عبد الرحمن السديس
  • مقالات متنوعة
  • فوائد حديثية
  • مسائل فقهية
  • فوائد تاريخية
  • مسائل عقدية
  • الصفحة الرئيسية