اطبع هذه الصفحة


بطلان نسبة «سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي= فكله حرام» لابن تيمية

عبد الرحمن بن صالح السديس

 
 بسم الرحمن الرحيم


الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وصلى الله على رسوله محمد خاتم النبيين وآله وسلم تسليما، أما بعد
فقد نقل ابن اللحام البعلي في كتاب «الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية» ص233 عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قال: «وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به على حق شرعي= فكله حرام».
(1)
والبعلي في «الاختيارات» نقل هذا الكلام من «الفروع» لابن مفلح
(2)، لكن الكلام في «الفروع» منقول عن الخطابي في «معالم السنن»، وليس عن ابن تيمية.
وسبب خطأ البعلي في نسبته لابن تيمية أن بعد النقلِ عن الخطابي نقلٌ عن ابن تيمية، وصاحب «الفروع» لم يشر لنهاية كلام الخطابي ـ كما هي عادته في النقول في كتابه هذا ـ فظن البعلي أن الكلام لابن تيمية.

وهذا نص كلام الخطابي في «معالم السنن» 2/184: «في هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها؛ لأن كل واحدة منها إذا تأملتها= وجدتها معينة على حق أو ذريعة إليه، ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح، والشد على الأقدام، ونحوهما مما يرتاض به الإنسان؛ فيتوقح بذلك بدنه ويتقوى به على مجالدة العدو.

فأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو؛ كالنرد والشطرنج والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق، ولا يُسْتَجَمّ به لدرك واجب= فمحظور كله».
اهـ.

وهذا نقل صاحب «الفروع» 7/188: «قال الخطابي في حديث عقبة المذكور: في هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها؛ لأن كل واحدة منها إذا تأملتها= وجدتها معينة على حق أو ذريعة إليه، ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح، والشد على الأقدام، ونحوهما مما يرتاض به الإنسان؛ فيتوقح بذلك بدنه ويتقوى به على مجالدة العدو.

فأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو
[لاحظ ما ترك] وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق [لاحظ ما ترك]، فمحظور كله. [انتهى النقل عن الخطابي]،

وكانت عائشة وجوارٍ معها يلعبن بالبنات
، وهي اللُعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يراهن، رواه أحمد والبخاري ومسلم، وكانت لها أرجوحة قبل أن تتزوج، رواه أبو داود وغيره، وإسناده جيد ـ وأظنه في الصحيح ـ، فيرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار، قاله شيخنا. وفي خبر ابن عمر في زمارة الراعي». اهـ

فالذي أراد ابن مفلح أنه من تقرير شيخه ابن تيمية واستدلاله: هو من قوله: (وكانت عائشة ـ إلى ـ زمارة الراعي).
أي أن ابن تيمية رحمه الله قرر أنه يرخص للصغار ما لا يرخص للكبار في كلامه على حديث عائشة في اللَعِب في البنات وحديث زمارة الراعي.
انظر تقرير ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» 11/566، و 30/214-216.
والكلام الذي نسبه ابن اللحام البعلي غلطا لابن تيمية= فيه إطلاق أوسع من كلام الخطابي، وهو مع كونه غلطا محضا على ابن تيمية= يخالف ما يقرره ابن تيمية في هذه المسألة.

قال ابن تيمية في «الاستقامة» 2/153: «أما اللذة التي لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما ولا تمنع لذة دار القرار= فهذه لذة باطلة؛ إذ لا منفعة فيها ولا مضرة، وزمانها يسير، ليس لتمتع النفس بها قدر، وهي لا بد أن تشغل عما هو خير منها في الآخرة، وإن لم تشغل عن أصل اللذة في الآخرة.

وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل لهو يلهو به الرجل= فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق». رواه مسلم. وكقوله لعمر لما دخل عليه وعنده جوار يضربن بالدف فأسكتهن لدخوله وقال: «إن هذا رجل لا يحب الباطل».

فإن هذا اللهو فيه لذة ولولا ذلك لما طلبته النفوس، ولكن ما أعان على اللذة المقصودة من الجهاد والنكاح= فهو حق، وأما ما لم يعن على ذلك؛ فهو باطل لا فائدة فيه، ولكن إذا لم يكن فيه مضرَّة راجحة= لم يحرم ولم يُنه عنه، ولكن قد يكون فعله مكروها؛ لأنه يصد عن اللذة المطلوبة؛ إذ لو اشتغل اللاهي حين لهوه بما ينفعه ويطلب له اللذة المقصودة= لكان خيرا له.

والنفوس الضعيفة كنفوس الصبيان والنساء قد لا تشتغل ـ إذا تَرَكَتْه ـ بما هو خير منها لها، بل قد تشتغل بما هو شر منه، أو بما يكون التقرب إلى الله بتركه؛ فيكون تمكينها من ذلك= من باب الإحسان إليها والصدقة عليها، كإطعامها وإسقائها؛ فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إن بعض أنواع اللهو من الحق، وكان الجواري الصغيرات يضربن بالدف عنده، وكان صلى الله عليه وسلم يمكنهن من عمل هذا الباطل بحضرته إحسانا اليهن.


ومحبة النفوس للباطل= نقص، لكن ليس كل الخلق مأمورين بالكمال، ولا يمكن ذلك فيهم، فإذا فعلوا ما به يدخلون الجنة لم يَحْرُم عليهم ما لا يمنعهم من دخولها
». اهـ.

وقال في «السياسة الشرعية» ص110: «وقد روى أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم - الذي فيه من أنواع العلم والحكمة - وفيه أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام: «حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه، وساعة يخلو فيها بلذته فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات»، فبيّن أنه لا بد من اللذات المباحة الجميلة؛ فإنها تعين على تلك الأمور.

ولهذا ذكر الفقهاء: أن العدالة هي الصلاح في الدين والمروءة؛ باستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: «إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل= لأستعين به على الحق»، والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق؛ فإنه بذلك يجتلبون ما ينفعهم، كما خلق الغضب= ليدفعوا به ما يضرهم، وحرم من الشهوات ما يضر تناوله، وذم من اقتصر عليها، فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق= فهذا من الأعمال الصالحة..». اهـ

وقال في «القواعد النورانية» ص190: «المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة= قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل؛ لما كان فيه مصلحة شرعية= جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض. وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة= فهو باطل، وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق» - صار هذا اللهو حقا..». اهـ

وقال كما في «مجموع الفتاوى» 31/49: «وإذا كان الشارع قد قال: «لا سبق إلا في خف؛ أو حافر أو نصل» = فلم يُجوِّز بالجُعل شيئا لا يستعان به على الجهاد، وإن كان مباحا، وقد يكون فيه منفعة كما في المصارعة والمسابقة على الأقدام». اهـ.

وقال كما في «مجموع الفتاوى» 32/250: «في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل»، وهذه الثلاثة من أعمال الجهاد في سبيل الله؛ فإخراج السبق فيها من أنواع إنفاق المال في سبيل الله؛ بخلاف غيرها من المباحات: كالمصارعة والمسابقة بالإقدام؛ فإن هذه الأعمال ليست من الجهاد؛ فلهذا رخص فيها من غير سبق؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صارع ابن عبد يزيد؛ وسابق عائشة رضي الله عنها، وأذن في السباق لسلمة بن الأكوع». اهـ.

وقال كما في «مجموع الفتاوى» 30/215: «ليس كل ما جاز فعله= جاز إعطاء العوض عليه، ألا ترى أن في الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل»، فقد نهى عن السبق في غير هذه الثلاثة، ومع هذا فالمصارعة قد تجوز، كما صارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد، وتجوز المسابقة بالأقدام كما سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وكما أذن لسلمة بن الأكوع في المسابقة في غزوة الغابة وذي قرد.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبة امرأته؛ فإنهن من الحق»، وهذا اللهو الباطل مَنْ أكل المال به= كان أكلا بالباطل، ومع هذا فيرخص فيه كما يرخص للصغار في اللعب». اهـ.

وقال كما في «مجموع الفتاوى» 32/223: «قول النبي صلى الله عليه وسلم «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق». قوله: «من الباطل» أي: مما لا ينفع؛ فإن الباطل ضد الحق، والحق يراد به: الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه. ويراد به: الحق المقصود الذي ينبغي أن يقصد، وهو الأمر النافع، فما ليس من هذا= فهو باطل؛ ليس بنافع.


وقد يرخص في بعض ذلك إذا لم يكن فيه مضرة راجحة؛ لكن لا يؤكل به المال، ولهذا جاز السباق بالأقدام والمصارعة وغير ذلك، وإن نهي عن أكل المال به
». اهـ.

وقال كما في «مجموع الفتاوى» 32/227: «المغالبات ثلاثة أنواع:
فما كان معينا على ما أمر الله به في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} = جاز بجُعل وبغير جعل.
وما كان مفضيا إلى ما نهى الله عنه؛ كالنرد والشطرنج= فمنهي عنه بجعل وبغير جعل.

وما قد يكون فيه منفعة بلا مضرة راجحة؛ كالمسابقة والمصارعة= جاز بلا جعل
». اهـ.

وقال في «الرد على المنطقيين» ص178: «كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، والهندسة، ونحو ذلك؛ لأن فيه تفريحا للنفس وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط.

وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «إذا لهوتم فالهوا بالرمي، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض»؛ فإن حساب الفرائض علم معقول مبني على أصل مشروع؛ فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع، ولكن ليس هو علما يطلب لذاته، ولا تكمل به النفس». اهـ.

وقال كما في «مختصر الفتاوى المصرية» ص520: «وأما الصيد الذي هو اللهو واللعب= فمكروه؛ فإن كان فيه تعدٍ على زرع الناس وأموالهم= فهو حرام». اهـ.

وقال كما في «مختصر الفتاوى المصرية» ص521: «ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم= فهو حسن، وإن كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال= فإنه ينهى عنه». اهـ.

ومفهومه: إن لم يكن فيه هذا ولا هذا= فهو مباح.

فهذه النقول من كلام الشيخ تبين أنه يرى أن من اللهو واللعب= ما هو مباح، وإن لم يكن مما يستعان به في حق شرعي.
والله أعلم.
كتبه/عبد الرحمن بن صالح السديس
26/10/1435هـ


--------------------------------
(1) ونقله عن «الاختيارات» جمع من المشايخ المعاصرين في كتبهم، وفتاواهم، ومقالاتهم، وانتشر.
انظر مثلا: «حاشية الروض المربع» 5/347، و«المستدرك على مجموع الفتاوى» 4/57، و«الدرر السنية» 15/140 و214و238، و«الملخص الفقهي» 2/156، و«الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية لدى تلاميذه» 1/576.
وقد نقل عبارات ابن تيمية واختياراته في هذا الباب جملة من فقهاء الحنابلة، كما فعل البعلي، لكنهم تجنبوا هذه الجملة [وأما سائر ما يتلهى به البطالون..] ، كصاحب «المبدع» 4/456 و«الإنصاف» 6/90 و«الإقناع» 2/321 و«كشاف القناع» 4/47 و«مطالب أولي النهى» 3/700، والظاهر أنه نقلهم من الفروع ومن بعضٍ.


(2)
وهي عادته، قال يوسف ابن عبد الهادي في «الجوهر المنضد» ص114: «غالب ما ذكره أبو الحسن ابن اللحام في «اختياراته» فإنه من «الفروع».اهـ.
وقد تتبعت هذا من مراجعة جملة كثيرة من مسائله؛ فوجدت الأمر كما ذكر، ويتجلى هذا أيضا بما ينقله ابن مفلح مختصرا وبالمعنى، فتجده كذلك في «الاختيارات»، وانظر مثلا «كتاب السبق» فكل ما فيه= مأخوذ من «الفروع».
ولعل محقق  «الاختيارات» وفقه الله في الطبعة الجديدة ينبه على هذا، ويقابلها على «الفروع» وسيجد فوائد كثيرة.

 

عبد الرحمن السديس
  • مقالات متنوعة
  • فوائد حديثية
  • مسائل فقهية
  • فوائد تاريخية
  • مسائل عقدية
  • الصفحة الرئيسية