اطبع هذه الصفحة


حتى لا يُقال: يُقْصُون أصحابهم!

سعيد بن محمد آل ثابت


لله هم من باتت تربية الجيل هَمُّه واهتمامه، فلا يرقأ له جفن ولا تسكن له همة حتى يراهم يحملون راية الدعوة، ويباشرون مسيرة العطاء. ومن لوازم تلك المباشرة التربوية الدعوية التعامل مع أجناس الناس لاسيما من هم في مرحلة الصّبا والفتوة وهم من هم؟ لأنها تعتريهم خصائص المرحلة ومشتات العصر ونوازع الغريزة، حتى يصيبه من مباشرتهم نوع من الأذى، وصدق الرسول الكريم: "الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم"، وكأن من مضامين المخالطة الأصلية حصول الأذى، وهو كما قال الغزالي: كالذي يقتلع الحشائش الغريبة ليبقى النبات الطيب فيصيب يديه شيء من الأذى. ولذا لزم المُربي توطين النفس على ذلك ومدّ النظر إلى الأمام طويلاً نحو مآلات الصبر والتحمل. وإذا ما نظرنا لواقعنا تبدّى أحد الأزمات التربوية في محاضننا وحلقاتنا المباركة وهم (مثيرو المتاعب) أو أصحاب الأخطاء والمخالفات المتكررة، فيكون أحد الطرق لحلّ هذه المعضلة إقصاء الطالب من هذا المحضن لاعتبارات كثيرة منها المعقول كالمحافظة على الجوّ العام والالتزام بما أُتفق عليه، ومنها غير المعقول وخاصةً تلك التي لم يسبقها أيّ حل أو طريقة أخرى لحلّ المشكلة، ولعلّي أن أقف بعض الوقفات اليسيرة تجاه هذا الموضوع وليست ظاهرة والحمد لله، ولكن لكثرة ما تدور بين المربين وأيضا اختلاف وجهات النظر فيها، فإلى الوقفات:

1. 
   عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ". رواه الترمذي، الخطأ والتقصير طبيعة بشرية لا نستطيع إلغاءها مهما استطعنا، ولها مع الأفراد والبيئات نسب متفاوتة حسب العمر الزمني والذهني والوجداني وغير ذلك، وإن قدرة المربي على احتواء المتربي بأخطائه ونزواته تجعل هناك مساحة أكثر وفرص أوسع للإصلاح، وكلما كان المربي ضيّق الفضاء ضاقت عليه قنوات الإصلاح، حيث تقل الأعداد، ويقل معها قلة تنوّع المفاهيم لدى المتلقين، فربما قنّن المربي شروطاً لمحضنه وكانت طريقته في العطاء محدودة، فقد لا تناسب تلك الطريقة مع الفئة المحدودة، بخلاف لو اتسعت عنده رقعة المتلقين فلا شك أن ماء نبعه سينفع بإذن الله، فمن القلوب أجادب وقيعان والأرض الخصبة. ولا شك أن أخطاء المتربي لا تعلو أن تكون شركاً أو دعوة لبدعة أو مجاهرة بكبيرة، بل كلها دون ذلك، والمصيبة حين يكون خطأ غير مبرر عند المربي بنص أو تنظيم إنما استحسان وذوق.

2.  
  قال ابن القيم رحمه الله: (أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيراً أو تصنع إليه معروفاً فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك).[1] إن هذا المتربي حُق له أن نقبل رأسه حيث مكننا من نفعه وزرع الخير فيه، وإنّا نخشى الله أن نكون سبباً في حرمانه من الخير والطاعة والهدى، وقد يكون طالباً لها ولكن لم تساعده نفسه الأمارة، أو بيئته أو غير ذلك، وإذا كان المسلم يُعذر بجهله أو تأوّله في الكفر، ويشترط عمده واختياره وعلمه، فكيف فيما دون لك؟
وأذكر نفسي وأزجرها بحديث الحبيب صلى الله عليه وسلم "إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جُعِلَ مَفَاتِيحُ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ"رواه ابن ماجه وحسنه الألباني، وأحسب أن من رام إقصاء الطالب أو تبغيضه من المحضن قد يكون ممن أغلق الخير والعياذ بالله.

3.  
  اعتبار رصيد الفطرة في كل مسلم، ومراعاة أساس الخير والصلاح في نفس المتربي، فينظر له المربي بعين الإيجابية والتنمية، وإلا راعى الشيطان نوازع الشر والسلبية.

4. 
   للاحتواء ثمرات لا توازى بالإقصاء، فهي تبدأ باستصلاح الفرد وتنمية الخير له وحفظه من بيئات السوء والأهواء وترك الأثر الطيب في ذاته، بل ألا أوسع دائرة أعداء الدعوة مما يبقى في نفسه أثر سلبي، وأقلّ من ذلك حتى لا يقال: يُقصُون صاحبهم. وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام فيمن زادوا عليه الصحابة لما شرب: "لا تعينوا عليه الشيطان". فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم-برجل قد شرب، قال: "اضربوه"، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: "لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان". رواه البخاري.
وتأمل معي حديث النبي حيث قال صلى الله عليه وسلم حين بلغه قول عبد الله بن أبي بن سلول: "والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل"، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"(صحيح الترمذي)، لاحظ مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لسمعة الدعوة حينئذ رغم ثبوت النفاق الاعتقادي على الأعيان، والضرر المحتم من قبلهم إلا أن هناك مصالح تكمل ومفاسد تُدرأ أعلى من قضية قتل منافق، وما نحن في هذا الزمن بأقل حاجة لها من ذلك الزمن الطاهر المحفوظ إذ يهمنا كثيراً سمعة تلك المصانع الربانية ألا تشوّه بقيل وقال.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم قائد الأمة ونبيها المعصوم بالوحي لم يقتل أو يقاتل أحداً من المنافقين ممن يخالط المجتمع تحصيلاً لمصالح الدعوة ومنها قطع ذريعة الفتنة والتنفير عن الدين، ومعلوم أن نفاق عبد الله بن أُبي كان نفاق كفر، والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"، فإذا أخذ الناس يتصورون الدعوة وأهلها بهذه الصورة حيث الإقصاء والترك فأي رجاء في إنصاتهم لدعوة الحق وولوج تلكم المحاضن وقناعة المجتمع بها؟

5.   
هناك بدائل كثيرة عن الإقصاء في المشكلات التي تطلبت هذا الأمر، ولو فكرنا خارج الصندوق لما احتجناه نهائياً، ولو سلمنا مثلاً بأنه يمنع فصل الطالب لأي سبب من الأسباب سواءً كان لسبب تنظيمياً أو شرعياً. فإن بلا شك سوف نعمل جاهدين للخروج من هذا الأمر إلى أمور أكثر استيعاباً للطالب وتقليصاً لحجم المشكلة لديه. فالأزمة عندنا أزمة إرادة وليست قدرة، وما يتناغم به البعض من جدوى الإقصاء هو في الحقيقة مع عذرنا لهم عجز وتقصير، وكثيراً من المحاضن ساهمت بأفكار تفوق الوصف وكانت نموذجاً للمحضن الرباني الدعوي فبعضها جعل الحوافز المختلفة، وأخرى سنّت عقوبات تربوية، وأيضاً من قسّم المحضن لفئات مختلفة حسب الاجتهاد والتحصيل إلى غير ذلك من البدائل والأفكار الناجعة. ومن السلبيات التي نجنيها من عدم متابعة (هذه الفئة):
-       ضرره على نفسه بعدم الاستفادة.
-       ضرره على أقرانه ومن دونه بالإفساد.
-       ضرره على المشرفين بالإزعاج الذهني والنفسي.
-       ضرره على المحضن (السمعة السيئة)، وقد تدوم.
ومن الوصايا للتعامل معهم:
-       امنحه كامل اهتمامك ومتابعتك.
-       حببه إلى نفسك مع زرع احترامك عنده مهم لك.
-       أشعره أنه مهم.
-       انسب له الفضل له فيما يقدم.
-       ابدأ بالثناء معه قبل أن تحل مشكلة معينة.
-       الفت انتباهه إلى أخطائه، ولو كان بشكل غير مباشر.
-       قدم له النصح أكثر من غيره.
-       امنحه دائماً فرصة لتوضيح وتصحيح أخطائه.
-       تحريك الفاعلين داخل المحضن بالاقتراب منه.
-       تذكر أن صبرك لا يدل على ضعفك.

6.  
  قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، لنا في الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة في التعامل مع الأخطاء والنزوات، فقد أُتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الكبائر من أصحابه, ومن عمل عمل المنافقين، ومن أقيم عليه الحد، ومن أتى بأمر من أمور الجاهلية ومع ذلك لم يُعلم أنه عليه الصلاة والسلام أقصى أحدهم أو نفاه من بيئته، بل أقصى ما كان هو هجر المخلفين من غزوة تبوك رغم ما فعلوا إلا أنه أبقى لهم بيئتهم الدعوية ليستفيدوا منها الخير والهدى وتعمهم الرحمة، "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". آل عمران:159

7.  
  من المفاهيم الخاطئة أن عدم الإقصاء دلالة على ضعف المؤسسة التربوية، وأن الخضوع لما يسمى (ضرورة الزمان) وهي تلزمنا بقبول المتربي وعدم إقصائه لكثرة التحديات والمغريات من الاستسلام. والإجابة عن ذلك، أن الاحتواء وعدم الاقصاء منهج قبل أن يكون حاجة عصرية، ولم يعُلم أن النبي كان مقصياً حتى للمنفاقين وأرباب الكبائر، فمنهج النبي عليه الصلاة والسلام في احتواء المشكلات وتجاوزه عن بعض أفعال المنافقين والزنادقة الذي يتظاهرون بالإسلام ويعيشون في جنبات المدينة النبوية؛ رغم ما كان يصدر عنهم من مواقف الخيانة العظمى، إلى الحد الذي جعل الصحابة يضيقون ذرعاً بأولئك الأفراد، ويطالبون النبي عليه الصلاة والسلام بقتلهم في أكثر من مرة، غير أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متشبثاً بمنهجية الإغضاء، ويعلل ذلك بقوله: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"، رواه البخاري ومسلم. وفي واقعة أخرى يحدث جابر بن عبد الله يقول: "لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال: اعدل يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! لقد خبت وخسرت إن لم أعدل"، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال: "معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه"، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا وأصحاباً له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم". رواه أحمد وأصله في صحيح البخاري. وعن عمر بن الخطاب أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله. رواه البخاري، قال الله تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". النحل:125.
ثم إن ضرورة الزمان لا تدفعنا للإقصاء بل للاحتواء حيث المشتتات والمغريات وكثرة الصوارف، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وُصف بإنه رؤوف رحيم قال الله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ" التوبة:128، وكان في عهده هو عهد النبوة والرسالة والصحب الكرام خير مثال للرفق واللين والاحتواء بل حتى قسوتة كانت رحمة وعتابه كان لطفاً، فما بالنا بعصر عج بالصوارف والمغريات فهو من باب أولى.
ومن المفاهيم الخاطئة أن عدم الإقصاء يربي على عدم الجدية، والقول بهذا مداره على طباعٍ شخصية وليس المنهج الرباني والنبوي في التعامل مع الناس؛ إذ ليس من لوازم الجد والتربية عليه إقصاء المتربي أو تعنيفه، بل بجدٍّ يلزم الفاعلية والاستقامة الإيمانية والنفسية. وربما كانت هناك بعض المآثر تبين معالم الجد ولكن ليس هذا مفادُها، فمنها الدعوة للبذاذة وتعلم فنون الرماية والسباحة وركوب الخيل وكل ذلك أمور شخصية لا علاقة لها بالتعامل.

8.   
متى الإقصاء؟ كما قلنا متى أصاب كفراً ظاهراً أو بدعة يدعو لها أو كبيرة يجاهر بها، وهذا من منظور شرعي، ومن منظور تربوي متى ظهرت علامات الفساد جلية أو كان معيقاً لآداء الآخرين أو إحداث بلبلة داخل الفريق، وأيضاً إلحاق الضرر بأفراد المحضن أو إذا كان وجوده يضر بالمحضن ككل.
وكل هذا باستقراء وليس هذا مقام التفصيل فيه، ومن هؤلاء من يجب إقصاءه من المحضن، وهو من يكون وجوده ضاراً على نفسه أو على المحضن على أن يراعى استصلاحه واحتوائه، فربما بيئة المحضن لم تكن مناسبة له في صلاح أمره واستقامة حاله، وأما سوى ذلك في الجملة يُحتوى ويستصلح ولا يكُن فريسة للشيطان.
وختاماً فقد اتفق العقلاء على أن من لم يستطع كسب الناس فلا يخسرهم، والعاقل خصيم نفسه، وليوقن الداعية والمربي أنه ليس حكراً على طائفة من الناس دون غيرهم. إنما هو (وقف لله تعالى)! والجنة مفاتيحها بأيدي أناس اختارهم الله، فطوبى لهم، واللهم اجعلنا منهم.
وكتبه سعيد بن محمد آل ثابت
 

------------------------
[1] الفوائد.
 

سعيد آل ثابت
  • أبحاث وملفات
  • رمضانيات
  • الصفحة الرئيسية