بالأمس القريب .. كنت في جلسة أخوية مع بعض الأحبة ، وكان الحديث متشعباً في
قضايا متعددة إلى أن استقر بنا في النهاية حول ظاهرة لم يتفق على توصيفها أو
الوقوف على مسبباتها .
قال أحدهم :
أتعجب ممن يسير معك في الصف ويتفق معك في الوجهة وينهل معك من نفس المعين ، لكن
ما إن توكل إليه مهمة ذات صبغة رسمية في القطاعات المدنية المتعددة ؛ إلا وتلحظ
عليه التغير .
فأجابه الآخر :
أن نعم ، ففلان كان كذا .. وعندما تولى ذلك المنصب الأكاديمي أصبح كذا !
وذاك فلان الآخر .. كان يقول ويتحدث أنه سيفعل ويفعل .. لكن ما إن ساس دفة تلك
الإدارة ، لم يقدم المؤمل والمنتظر ، بل قدم التنازلات تلو التنازلات !
أما فلان .. فلقد كان قبل خمس سنوات كذا ، وغدا الآن شخصا آخر بفكره وعقله
وأطروحاته ...
فرد عليه رابعنا :
على العكس من حال المستغربين وأهل الإفساد الذين يوظفون كافة قدراتهم وعلاقاتهم
لخدمة أهدافهم ... وساق لنا الأمثلة .
واستمر الحديث يدور في هذا الفلك ... وفجأة
انتبهوا لي !!
وقالوا أضجرناك بالثرثرة وأضجرتنا بالسكوت ...
فتكلم
وتكلمت ...
إن العديد من المجالس والمنتديات بدأت تسود فيها مثل هذه الأحاديث سواءا أكانت
من طرف خفي أو بطرح علني مباشر ..
وهذا الأمر يدعوني إلى أن أقف بعض الوقفات حيال هذا الموضوع .
=====( 1 ) =====
إن الإنسان مهما بلغ من النضج الفكري ، والنمو
العقلي ... سيبقى متأثرا ببيئته التي يعيش فيها ومعطياتها عليه ، ولن يستطيع
الانفكاك عنها – على أقل الأحوال – جزئيا .
وحسب طبيعة تلك البيئة وتشكلاتها نجد أنها تساهم بشكل فاعل في التأثير على
أفعالنا وتصرفاتنا .
وحينما نعتقد أن أهل الخير والاستقامة عنصر مختلف عن طبقات المجتمع من الناحية
النفسية والطبائعية ، وأنهم لم ولن يتأثروا بما حولهم وما يعايشونه فهذا وصف
جامد باخس للحق .
فنحن نقر أنهم تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ونهلوا من
المعين الصافي ... لكن الأصل فيهم أنهم بشر كغيرهم .. قدراتهم ليست سواءا ، كما
أنها محدودة لا خارقة ، والنقص مركب فيها .
فلماذا يحملون مالا يحتملون ، وكأننا ننظر إليهم نترقب المارد متى يخرج من
قمقمه ؟ وأن الحلول ستجري على أيديهم ... دون النظر إلى القدرات البشرية فضلا
عن العوامل القسرية المحيطة بهم و التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ؟
والتزكية المثالية لهم خطأ كبير ، فإن كنا نحبهم في الله لتقربهم منه .. فإننا
لا ننكر أن للمنصب والتصدر خطر كبير على صاحبه إن لم يسس نفسه بالتقوى ، ومخافة
الله .. ومعرفة قدر نفسه .
لذا ..
فرق شاسع وبائن بين من يقول ( اجعلني على خزائن
الأرض إني حفيظ عليم ) و بين من يضرب على منكبيه ويقال له (إنها أمانة وإنها
يوم القيامة خزي وندامة ) .
=====( 2 ) =====
هناك إشكالية لها ترسباتها في العمل الإسلامي
منذ القدم وهي ( هل نرضى ونقبل بأنصاف
الحلول أم لا ؟ )
هذه الإشكالية تباينت آراء الكثير تجاهها وتعددت مواقفهم بين مؤيد ورافض ومحايد
...
فحينما يقال لأحدهم - ممن تولوا المناصب - : اقبل هذا المنصب.. لكن على شرط أنك
تقضي على جميع المنكرات وان لا نجد أي منكر في القطاع الذي تعمل فيه ، أو لا
تقبله .
ثم يأتي آخر ويقول له : اقبل هذا المنصب ، فهو فرصة مادية لك .. ولاتكن متشددا
، حتى لا يتضايقون منك ، فلا يقبلون أي شخص في مثل سيماك مرة أخرى .
ويأتي ثالث ويقول : اقبل هذا المنصب .. وانهج التدرج ، وقم بعملية الإصلاح
الأولى فالأولى ، والأمكن فالممكن .. وخفف الشر حسبما يتاح لك .
ترى ..
أي رأي سيأخذ به صاحبنا ؟
وأي رأي يعتقد القارئ أنه هو الأولى ؟
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله ( إن المصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها
مع المفسدة في حكم الاعتياد ، فهي المقصودة شرعاً ، ولتحصيلها وقع الطلب على
العباد )
وأذكر أن الشيخ ابن باز رحمه الله أتاه أحدهم وقال له : يا شيخ أنا سأعمل في
إذاعة .... ، وهم يبثون من خلالها الموسيقى ، واللغو من الكلام . فهل يجوز لي
أن أعمل معهم ؟
فأجابه الشيخ رحمه الله : إن استطعت مدافعتهم فاقبل .
فكرر عليه المستفتي بأنهم يبثون الغناء .
فرد عليه الشيخ بنفس الرد الأول .
لذا الأسئلة التي يجب أن نتوجه بها
لأنفسنا حين نقول عن فلان : أنه قدم تنازلات أو لم يخدم أهدافنا ( والأسئلة
مرتبة بالأولوية ) :
• ما هو ضابط تلك التنازلات لدينا ؟
• وهل هي تدور في فلك الثوابت أم المتغيرات ؟
• وهل المصلحة متحققة بها أم لا ؟
• وماذا نريد منه أن يحقق تحديدا ؟
وبعد الإجابة على هذه الأسئلة نحدد موقفنا من القبول أو الرفض .
وفي عموم الأمر :
نظرية ( إما أن أحقق 100 % أو 0 % ) هي
نظرية العاجز ومن يسبح في بحر الأماني ويوشك أن يغرق فيه .
=====( 3 ) =====
إن من المعضلات التي حاصرت بعض شرائح العمل
الإسلامي ، وأصابته بالعجز عن النمو والامتداد هي : عدم القدرة على تقديم نماذج
سليمة وعملية للولاء للفكرة والرسالة تغري بالإتباع وتشكل الرد الطبيعي على
الولاءات البدائية للوطن والقوم والقبيلة والأسرة وسائر الولاءات الاقليمية
الأخرى ، أو الولاء للأشخاص والدوران في فلكهم - وهذا جزء من مسألة البيئة
وتأثيرها التي تحدثت عنها في البداية - .
فهدمت معاني الولاء والنصرة للفكرة ، وتأصلت جاهليات جديدة متقنعة بشعارات
إسلامية .
كما أن شرائح أخرى لم تستطع تجاوز الارتكاز على الفرد والأشخاص وتنتقل إلى
الاعتماد على المؤسسة القادرة على الامتداد وإبصار المستقبل ضمن تأطير ثابت
لمسيرتها .
ولعل هذا مما ساهم في عدم بروز الطاقات والمواهب ، واكتشافها وتقدمها ... لأن
المطلوب من الكل أن يعيش على عقل القائد ، ويكون نسخة مكررة منه ، وإن شذ ضاقت
به تلك الشريحة لأنها تريد فقط أن يبقى رقماً في خانة قائدها .
وهذا يدعونا إلى الحديث عن أثر التربية والتأسيس المنهجي في تهيئة العناصر
والأفراد المتوقع بروزهم وفق رؤية مستقبلية إلى أن تقدم برامج لهم تساهم في
تشكيلهم وتعميق رؤيتهم ، إضافة إلى التحصن بالعلم الشرعي والتزود به وفهم
القواعد المتعلقة بالمصلحة والمفسدة ، وتحرير محل النزاع ، والضروريات
والحاجيات والتحسينيات ... الخ
=====( 4 ) =====
يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
إني رأيت وقوف الماء يفسده **** إن سال
طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست**** والسهم لولا فراق القوس لم يصب
إن تغير الأفكار والقناعات ليس عيباً أو إثماً .. إن كان في حدود الفروع
والمتغيرات ، وليس تغيرها أو تبدلها مسوغ لأن نشنع على صاحبها ، ونرفضه ، وننقض
الغزل من بعد قوة أنكاثا .
إنما الإشكالية هو البقاء بالعقلية الرتيبة التي تضيق ذرعا بأي تطوير أو تفكير
أو تغيير .. وكل الذي يعنيها : الإبقاء ، والإصرار على صورة الماضي للمفكرين
الرواد الأوائل وإنزالها على واقعنا على الرغم من تغير الظروف والأحوال
والمشكلات .
فغدت تلك العقلية مجرد أغلفة لحفظ تاريخ الجماعات !!
والسؤال المطروح :
من الذي لا يتغير ؟
فكر ملياً .. ثم استنتج .
====( 5 ) =====
إن جملة النقاط التي تطرقت إليها ، إنما هي
لبعض النماذج التي لا تقبل التعميم ..
وإلا فكم نرى من جهود دعوية مثمرة من أناس تولوا المناصب الحساسة فأخذوها
بزكاتها ، وخدمة الإسلام والمسلمين من خلالها .. وأجرى الله على أيديهم النفع
المتعدي ، فلله الحمد والمنة من قبل ومن بعد ثم لهم الدعاء بالثبات ، وأن
يزيدهم قوة وأمانة ( إن من استأجرت القوي الأمين ) .
وإليهم أسوق تلك الأبيات التي جادت بها قريحة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله
حين قال :
عجبت لهم !! قالوا تماديت في المنى ***
وفي المثل العليا ، والمرتقى الصعب
فاقصر .. ولا تجهد يراعك إنما *** ستبذر حبا في ثرى ليس بالخصب !!
فقلت لهم : مهلا ، فما اليأس شيمتي *** سأبذر حبي والنبات من الرب
إذا أنا أبلغت الرسالة جاهدا *** ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي ؟