يوم الأحد الماضي و بعد صلاة المغرب تفاجأت بأحد الإخوة الفضلاء وهو يقول لي -
على عجالة - :
تعال معي ؛ فهناك قـس ، أريدك أن تلتقي به !!
قلت – مندهشاً - : قــس !!
قال : نعم .. تعال لتتأكد .
أعدت عليه مرة أخرى : قــس !! .. قــسٌ هنا ؟!
قال – مؤكداً وهو يومئ برأسه - : نعم ..
فلم أشعر إلا وهو يأخذ بيدي ، لئلا أطيل الكلام ... فسلمت أمري له والدهشة
تمتلكني !
في الطريق .. غدت مخيلتي ممتلئة بالصور والافتراضات .
فتارة أتخيل منظر ذلك القس .. هل هو كغيره من قاطني الكاتدرائيات ، وتالي
الصلوات في الكنائس بلباسهم الأسود ؟
وتارة ينتقل بي الخيال إلى ماهية الحوار الذي سيدار معه ، وماذا سأقول ..
وبماذا سأرد ؟
وأنتقل إلى بحر آخر من الخيال .. مالذي جاء بهذا القس ؟ وهل أُبـِلغ الجهات
المسؤولة لمتابعة نشاطه وإيقافه أم أتريث قليلاً ؟
قطع هذا الحبل الطويل من الخيالات صوت صاحبي وهو يقول : وصلنا ..
رفعت رأسي ، وصُدمت بالمفاجأة الثانية ..
لقد توقف صاحبي أمام مسجد !!
قلت له – باستنكار يشوبه العجب - : ماخطبك ؟ .. إن كنت تريد ممازحتي ، فإني
إعتقد أن الوقت غير مناسب لذلك .
أجابني قائلاً : لا تستعجل ...
ولجنا سوية إلى المسجد ، ونفسي تستنكر الوضع .. قــس في هذه البلاد قد تهضم ،
لكن قــس في مسجد ... عجبي !!
في زاوية من زوايا المسجد ، جلست وصاحبي .. وأنا في حالة بين الترقب والاستغراب
؛ أنتظر دخول المنتظر .
في تلك الفترة ..
استغرقت في استكشاف المكان والالتفات يمنة ويسرة ...
وجدت سريراً ، و حقيبة صغيرة تناثرت بجانبها مجموعة من الملابس البسيطة .
وعلى مقربة منها كتباً صفت بشكل مرتب .. وكتبت بلغة غريبة غير مفهومة ، وبعثرت
بجانبها وثائق متعددة .
وبينما أنا كذلك ..
إذ برجل يقبل علينا ، ذو سحنة أوروبية .. قد انحنى ظهره ، والماء يتقاطر منه ..
قال لي صاحبي : هذا هو القـس ..
أجبته بكل دهشة : ماذا ؟ .. هذا القس !!
وكان لدهشتي مبرراتها ..
فأنا أرى أمامي ماقلب كل توقعاتي .. شيخ مسن ، تزين وجهه لحية قد اصطبغت بالشيب
، وتعمر رأسه كوفية .. والثوب الأبيض الناصع هو رداؤه !!
ويقول لنا – بلكنة متكسرة – السلام عليكم .
استدرك صاحبي – وكأنه خشي علي من الصدمة – فقال معرفاً :
هذا هو القس الإيطالي ( ستيافنو ) سابقا ..
واستدرك ...
الداعية والشيخ ( إسماعيل ) الآن .
في هذه اللحظة تملكتني حالات نفسية متعددة :
فحالة من الغضب والحنق تجاه صاحبي وتلاعبه ..
وحالة من قلب أوراق ما توقعته ، وما كنت أخطط لطرحه ..
وحالة من الفرح والبهجة حين سمعت العبارة الأخيرة ( الداعية والشيخ ( إسماعيل )
الآن ..
بادرته بالسلام ، وأردفته بسلام آخر لمرافقه الجزائري الذي لازمه كمترجم .
جلسنا سوية .. ودار حديث طويل ، طويل جداً ، فيه من العجائب والغرائب والمآسي
والبشائر الشيء الكثير .
فهذا الشيخ الذي أمامي .. كان في يوم من الأيام قسا من القساوسة ، ومنصرا من
المنصرين ، صنع تحت عين مجلس الكنائس العالمي في الفاتيكان منذ نعومة أظافره ،
وتم تبنيه .. وتقديم برنامج خاص له ، حتى غدا في نهاية مطافهم المسؤول عن نشاط
التنصير في جمهورية تشاد ، والقس الأول الذي يعتمد عليه هناك ...
ومنذ ذلك الوقت والتحولات تجري في حياته ... من تركه لتلك المنظمة التنصيرية
لخلاف اقتصادي ، ثم وقوفهم ضده – وهو لم يسلم بعد – وتقدم ( الفاتيكان ) بطلب
رسمي لحكومة تشاد لطرده من البلاد لعدم شرعية إقامته .. ووقوف الحكومة في صفة ،
وإغلاقها لتلك المنظمة ...
تعرض قبل إسلامه لحرق مزرعته ومنزله ، وتم إدراج اسمه ضمن أسماء المطالبين من
قبل الحكومة الإيطالية ...
فغدا طريدا شريدا من عام 1988 م وحتى عام 1994 م ..
وخلال تلك الفترة .. حصل التحول الأساسي والجذري في حياته ، وبدأت رحلة إسلامه
التي طالتها ست سنوات حتى استقرت بصاحبها في النهاية ...
وهي قصة مثيرة عجيبة ... فيها من المواقف والفوائد مايطرح ويستغل .
وهي ماسأتناوله في طيف الإسبوع القادم بإذن الله .. فترقبوها .