الثلاثاء .. الحادي عشر من سبتمبر؛ يومٌ نحتت أحداثه في ذاكرة الفرد مشاهد لن
تنسى .
وكل بحسب أدلجته وسم ذلك اليوم بالوسم الذي حلى له .. ( ثلاثاء أسود ) ، (
ثلاثاء النصر ) ، ( ثلاثاء الرعب ) ... الخ .
حين تأملت الحدث وملابساته المتسارعة والمتلاحقة في آن واحد ، قلت في نفسي : هل
صدق الشاعر حين قال :
جزى الله الشدائد كل خير *** وإن جرعنني
غصصاً بريقي
وما مدحي لها حبا ولكن *** عرفت بها عدوي من صديقي
ربما ؟!
فالشدائد دوماً لها طعمٌ مرٌّ علقمي ، يتجرعه المصاب ولا يدري هل يسيغه أم لا
؟!
إن منوال الشدائد وديدنها الإسفار عن الحقائق ، والكشف عن الأقنعة ، وإجلاء
الصدأ ، وصقل المعدن ...
فكثيرون هم أولئك الذين نعيش معهم في هذه الحياة حفلة تنكرية ؛ ما إن تنتهي
فصولها ، ويقضى الوطر .. إلا ويعود كلٌ إلى زيه الحقيقي !!
وهذا هو باختصار حالنا مع الأحداث الأخيرة التي تبين فيها الباكي من المتباكي ،
والدعي من المدعي ، والغبي من المتغابي .
مع تباين الآراء والمواقف تجاه الحدث ، والتي مثلت طرفي النقيض المتوقع بين
الموقف الثوري الغير متعقل ، والموقف المنهزم نفسياً وفكرياً .. وبينهما برزخٌ
من المواقف والآراء الأخرى ؛ شدني من ضمنيات هذه المواقف بروز فئة يممت وجهها
نحو موقف أصح وصف يطلق عليه هو وصف ((
الإنبطاحية )) .
تلك الفئة حملت على عاتقها لواء النخبة الفكرية والثقافية – بحد زعمها – فوظفت
كوادرها وكل ما تملك في سبيل مهنتها الانبطاحية البريئة !!
فكل ما في الأمر أن مهنتهم تتلخص في مجموعة أحذية تدوس عليهم ، فتكون ردة فعلهم
تبجيل أصحاب تلك الأحذية ، ورفعهم على الأكتاف .. بمصاحبة خلفية من المدح
والثناء والمكاء والتصدية !!
هذا إن لم تشمل بركة أصحاب الأحذية من حولهم من (( العربيكان )) وممن مردوا على
التزلف والنفاق .
فيبدع لهم اليراع ..
ويتفتق الإبداع ..
ويجند أساطين الفكر للدفاع ..
فبهم يصول ..
وعليهم يتوكل ويجول !!
ويسكبُ المداد المتلون حسب الطلب ، مقابل ما سكبَ في العقل أو الجيب .. أو في
الشيك !!
ولسان الحال :
إستأذنا من أمريكا
ونشرنا لهم الأقوال
بُسنا أبوابا مقفلة
ولحسنا صدأ الأقفال
ووقفنا في الباب نياما
ووهبنا الأنفس والمال
بعد جدال طال وطال
رح وتعال
وقيل ، وقال ، وحيث ، و رُبَّ
وإن ، ولكن ، وبما أن ، وأية حال
أعطونا القدم بمثقال !!
إن الإنبطاحيين في الحدث الأخير، فاقوا أربابهم وأولياء نعمتهم في تبرير
المواقف ، ونصبوا أنفسهم كهئية محلفين عربية تتولى إصدار الأحكام حسب قاعدة
المتهم متهم ولو ثبتت براءته !!
ويتسابقون أيهم يبدع في تلميع الحذاء ، و إظهار الولاء ، وتوظيف كل الملكات
والمواهب والقدرات في استغلال الحدث بما يعود عليهم بالنفع وتحقيق المآرب .
فعجبي .. كيف نبض ذلك ( الشريان ) فجأة بدم التبعية والانبطاحية ، فأحيا عروق
الرفاق في الجسد المتهالك .
فأجلبوا بخيلهم ورجلهم ، مستمعين بإنصات
إلى أمهم الرؤوم وهي تخاطبهم فردا فردا :
يا دودتي الحبيبة ..
عضي بالطول وبالعرض
من صنعي هيكلك الغض
ودماؤك من قلبي المحض
ورضاك بإحساني فرض
ولكِ الدفع .. ومنكِ القبض
وفضلا عن إسفارهم لوجههم الحقيقي ، وقعوا في التناقضات والمغالطات ، ولاغرو في
ذلك فالأبواق دوما مهمتها رفع الأصوات الخافتة ولايشترط ان تعرف محتواها !!
ترى .. هل غفل الانبطاحيون بأن الآراء والمواقف في فترات الشدائد سيبقى لها
بعدا تاريخياً لن ينسى .. فهم سيرحلون كغيرهم .. لكن مواقفهم ستبقى بصمة عليهم
.
ومن سبر التاريخ ، وتأمل في السير لوجد مصداق ذلك .
فكثيرون الذين لم نعرف أسماءهم إلا بمواقفهم في الأحداث التاريخية ...
فهذا هو موقف الوزير الرافضي ابن
العلقمي الذي عاون التتر في غزوهم على
المسلمين عام 656 هـ ، وآثر النصر اللحظي .. فقدم يد العون والمساعدة ، وسهل
الدرب لهم ، وخان المسلمين ... وفي النهاية : مات .
وبالمقابل هذا موقف السلطان العثماني
عبدالحميد الثاني رحمه الله في رفض
مساومة اليهود على فلسطين ، فرفض المغريات والهبات وأبى إلا المواجهة .. وفي
النهاية : مات .
وهانحن نتذكر الاثنان ..
لكننا نذكر ابن العلقمي (( بالخيانة ))
، والسلطان عبدالحميد (( بالأمانة ))
فهل يعي ( ضعيف الإيمان ) ذلك ؟
وهل يراجع من سيسوا الفتوى والتوقيع عن
رب العاليمن مواقفهم ؟
وأخيرا :
قاتلٌ من يتقوى برغيف
قُص من جلد الجماهير الضعيفة
ليس إلا خنجرا يفتح جرحا
يدفع الشعب نزيفه
والله المستعان .