ويستمر الشيخ ( إسماعيل ) بسرد رحلته نحو الإسلام .. فيقول :
كان لدهشتي مبررها ..
فالكتاب الذي رأيته بين يدي الرجل لم يكن إلا كتابا كتب عليه باللغة الإيطالية
( القرآن العظيم ) !!
وازداد تعجبي حين علمت من ذلك الرجل التشادي بأنه أحضر هذا الكتاب من الكنيسة
التي كنت في يوم من الأيام أرأسها قبل أن أقدم استقالتي !!
فعلمت منه أن المنصرين والرهبان تم استدعاؤهم لايطاليا لتفادي الوقوع في مشاكل
مع الحكومة التشادية قد تؤثر على حركة التنصير في أفريقيا .. فكان أن هدمت
الكنيسة ، وبيعت الأرض التي أقيمت عليها .. ومن ضمن ذلك تمت تصفية جميع ممتلكات
الكنيسة فبيعت أو وزعت ... فحصل هذا التشادي من تلك التركة هذا الكتاب العظيم .
فسبحان من ساق إليّ نور الهداية بيد من لا يفقه من الإيطالية شيئا !!
اشتريت من ذلك التشادي ترجمة القرآن ..
فتحت أول صفحة ..
وإذا بمسلسل المفاجآت لا يزال مستمراً معي !!
فلقد وجدت أن الاسم المكتوب على الترجمة هو اسم صاحبي ورفيقي منذ الصغر الذي
درس معي في الكاتدرائية ورافقني إلى جزر القمر ثم إلى تشاد !!
تصفحت الترجمة .. وأثناء التصفح وجدت أن هناك نصوصا قد خط صاحبي تحتها خطوطا ،
ونصوصا أخرى قد وضع حولها دائرة ...
قرأت ترجمتها ..
لقد كانت تتحدث عن عيسى عليه السلام وأمه مريم وأن الإله إله واحد ...
اتجهت إلى نسختي من الإنجيل ، ثم بدأت أقرأ وأقارن .
كانت قراءتي للترجمة في البداية قراءة سردية ، فأعدت القراءة مرة أخرى لكن
بتركيز دقيق ، فوجدت من قراءتي ومقارنتي أن النصوص التي كان تحتها خطوط لم تكن
إلا لآيات وافق القرآن فيها الإنجيل ..
أما التي حولها دوائر فكانت لما خالف القرآن الإنجيل .. فتعجبت من صاحبي !!
قرأت الترجمة أكثر من مرة ، فتعجبت من حجم التناقضات في الإنجيل التي كنا
نرددها وندرسها .. لكننا لم نكن نعي مانقول !!
اقتنعت في نهاية الأمر أن الطريق الذي أنا عليه طريق خاطئ ويجب علي أن أسلم
واعتنق الإسلام .
سكت الشيخ ( إسماعيل ) ...
ثم أطرق رأسه قليلا ..
فخيم السكوت علينا بسكوته الذي لم أعرف له سبباً .
فقلت : لعله متحسر على ما فاته من عمر قضاه ، فبادرته بأن الله عز وجل يقول (
إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) وان الرسول عليه
والصلاة والسلام أخبر بأن الإسلام يجب ما قبله ..
فحمد الله وأثنى عليه ..
ثم قال : يا بني .. هل تعلم ماذا حصل لي بعد ذلك ؟
قلت : هذا الذي أنتظره ..
قال : بعد أن اقتنعت بالإسلام .. ذهبت إلى عائلة مسلمة تعيش بالقرب من مطعمي ،
فالتقيت برب الأسرة ، وسألته عن كيفية الدخول في الإسلام ؟
فسألني : هل تريد أن تسلم ؟
فقلت : نعم ..
قال : لماذا ؟
فأجبت : بأني اقتنعت بأن الإسلام هو الدين الذي يجب أن اتبعه ..
فقال وهو يستعطفني : نحن وأنتم إخوة !! وأنت دينك دين سماوي كديننا وكلنا واحد
.. فلست محتاجا إلى الإسلام !!
سألته : هل أنت جاد فيما تقول ؟
قال : نعم .
قلت : هل تعرف ماذا كنا نفعل إذا وجدنا شخصا يريد أن يصبح نصرانيا ؟
لقد كنا نقيم له الاحتفالات ونعطيه الهبات ونحتفي به فقط لأجل دخوله في
النصرانية ..
وأنت الآن تريد ثنيي عن الدخول في الإسلام !!
خرجت من عنده وأنا مندهش من حاله ، وعاقد النية على الذهاب إلى المركز الإسلامي
في قلب العاصمة التشادية .
اتجهت إلى هناك .. وقي تاريخ الرابع من شهر يونيو من عام 1994 م ، أشهرت إسلامي
ونطقت بالشهادتين ، منهيا بذلك رحلت دامت ست سنوات من البحث عن الحقيقة والحمد
لله رب العالمين .
وبعد إسلامي بدأت أفكر فيما يحتاجه المسلمون في منطقتي ، فوجدت أن ما ينقصهم هو
بناء مسجد تقام فيه الصلوات المكتوبة .
فشرعت في ذلك ، فجمعت الأموال ، واشتريت الأرض .. ومن تلك اللحظات بدأت المتاعب
الجديدة .
علمت الكنيسة بإسلامي ، فأرسلت إلي من يحاورني ويقنعني بالعودة إلى النصرانية
..
جلست معه ، وكان في البداية ودودا معي ، وعرض علي ما أريد على شريطة عودتي إلى
النصرانية ، فلما رأى عدم تجاوبي معه .. غضب وقال : لن تعود إلى إيطاليا أبدا
.. فالحكومة ستجعل اسمك ضمن قائمة الممنوعين من دخولها .
قلت له : إن إسلامي أفضل من مئة دولة كدولتك الكنسية .
فغضب بشدة وصفعني على وجهي .. وهو يقول : بل ستعود إلى إيطاليا ..
وإلى أهلك ، لكن ستكون في صندوق بعد ان نقطعك إربا إربا ... ثم خرج .
ومنذ ذلك الوقت وأنا اتعرض بصورة شبه يومية إلى الضرب من أشخاص غير معروفين ،
خصوصا أثناء فترة المساء .. وأذكر في إحدى المرات أني كدت أفقد حياتي حيث هجم
علي ثلاثة أشخاص وضربوني ضربا مبرحا وفي كل مرة أضرب فيها أقول : الحمد لله ،
فيغضبون مني غضبا شديدا ويقولون لماذا لا تسبنا بلغتنا !!
فأكرر العبارة .. وهم يقولون لن تبني المسجد أبدا .
فضربوني إلى أن فقدت وعيي .. ثم ذهبوا عني .
استمرت هذه الحالة فترة من الزمن وفي كل مرة يزداد عزمي على إنهاء بناء المسجد
.. فتم ذلك بحمد لله وفضله .
ثم بدأت في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام ...
قاطعته .. وقلت : يا شيخ ( إسماعيل ) لقد جربت التنصير .. وجربت الدعوة إلى
الإسلام . كيف ترى تقبل الناس لكلا الدعوتين ، وكيف ترى حال الدعاة وحال
المنصرين ؟
سكت الشيخ سكوتا طويلا ..
ثم هم بالكلام .. ثم سكت !!
وهنا بكى الشيخ ...
لأول مرة أرى في حياتي شيخاً بلغ من الكبر عتيا وجاوز العقد السابع من عمره وهو
يبكي أمامي .
أصبحت في موقف محرج ، فلست بمن يعرف السبب فيعذره ، ولست بالقادر على الكلام
فأحتوي الموقف .
فآثرت السكوت .. كما آثر المترجم ذلك .
والشيخ مازال في بكائه ..
بدأ بكاء الشيخ يهدأ تدريجيا .. فبادرنا بالحديث وصوته قد اختلط بنشيجه وهو
يقول :
للأسف ..
كم يمتلك المسلمون من المال والطاقات
لكنهم لم يعرفوا كيف يستغلونها ..
فضلا عن عدم وجود الكفاءات المتدربة والمهيأة للدعوة والصبر عليها .
هل تعرف أن المنصرين يجب أن يكون الواحد منهم : غير متزوج ، ومتفرغ كلية
للتنصير ويهاجر عن وطنه ويعود إليه مرتين في السنة لمدة أسبوعين ، وتكون لديه
إضافة على لغته الأم لغتين أخرى تكون واحدة منها لغة البلد التي سيذهب لينصر
فيها ، فضلا عن تهيئته لمدة تتجاوز الأربع سنوات قبل أن يوجه للدولة التي
سيمارس فيها نشاطه .
فضلا عن المؤسسات الرسمية الداعمة للتنصير من بنوك ومدارس وإذاعات وصحف وجهات
ضرائب ... الخ ، مهمتها توفير الدعم المادي للنشاط التنصيري .
أما نحن ... !!
هل تعرف مؤسسة .... التي لديكم ؟
قلت : نعم .
قال : طلبت منهم توفير دراجة نارية لي لتسهل علي التنقل بدلا من الدراجة
الهوائية التي لدي .. فوجهوا لي ( 3000 ) ريال ، استلمها الممثل لهم هناك ..
فاشترى لي دراجة مستعملة بمبلغ ( 900 ) وأما الباقي فلا أدري أين ذهب !!
فهل تلك المؤسسة وظفت في أفريقيا من يؤتمن على مال المسلمين ؟
لقد جاهدت من أجل إنشاء مركز تعلمي في منطقتي ، واستمر هذا الجهد من عام 1997 م
وحتى الآن لم يكتمل ...
وأنتم تتقلبون في النعم ، وتبنون ناطحات السحاب ، وتركبون أحسن السيارت ...
وأقل واحد يستلم راتبا يتجاوز الألف ريال ..
وعجزتم أن تدفعوا للمركز التعليمي الذي يكلف فقط ( 10000) ريال !!
هل تعرف أن المنصرين في تشاد يبنون مدارسهم في أراضي المسلمين ويقدمون لهم
الدراجات الهوائية والألعاب لأطفالهم وولائم الطعام المختلفة ؟
أما أنا ...
فلدي الآن 522 مسلم .. أسلموا على يدي ، ولا أدري ماذا أقدم لهم الآن ؟
وأخشى ان افتقدهم يوما من الأيام .
قلت : يا شيخ أنت عليك البلاغ ، وابذل الجهد فيما تستطيع وتوكل على الله .
لكن .. هل ستعود إلى إيطاليا في يوم من الأيام ؟
قال : أتمنى ذلك .. لكني الآن ممنوع من دخولها ، ولي الآن تسع سنوات لم التقي
بأقربائي .. وأرى انه واجب علي أن أصدع بالدعوة إلى الله في إيطاليا .
واستمر الحديث المزدوج .. ازدوجت فيه البشارة مع المرارة ، والأمل مع الألم
...فأترك لكم التأمل في أحداث القصة واستنتجوا فوائدها بأنفسكم .
هذا هو الشيخ إسماعيل .. الطاعن في السن ، الذي ضحى بالمنصب الكنسي ، وآثر
البقاء في منطقة تفتقد أبسط مقومات الحياة المدنية ، لنشر الإسلام والدعوة إليه
..
له في الإسلام تسع سنوات ، لقي فيها المصاعب والأذى ... فكان نتاجه أكثر من 522
مسلم .
وأخيرا ..
سؤال : كم هي أعمارنا في الإسلام : 20 ،30 ... ؟
فماذا قدمنا له ؟