إن وجود أمة قائمة ذات شخصية متميزة وكيان مستقل ، وذات تقاليد وأعراف وطبائع
نفسية وسلوكية مرتبط تمام الارتباط ببقاء ثقافة هذه الأمة ، بل مرتهن بحياة هذه
الثقافة أو موتها ، ومحاذ لمستويات ازدهارها وضعفها .
وكما أن هناك معاركا تعترك فيها الجيوش على حدود الدول وفي أعماقها ، فكذلك
الحال في الثقافات ، بيد أن الناس انشغلوا عنها لما يصلون من نار المعارك
العسكرية وإسالة الدماء وإهلاك الجموع . وثقافة أمتنا .. ثقافة أصيلة لم نأت
بها بدعا من لدنا ، فلقد نهلناها من أعذب منهل ، وارتشفناها من أعذب معين ..
معين الوحي والرسالة ، فأضفت علينا سمة بارزة عن باقي الأمم ؛ وارتبط تميزنا
بأخذنا لتلك الثقافة بحقها .
وعلى الرغم من هذا ؛ برزت لدينا طائفة عانت من
( مجاعة فكرية )
مما ولد لديهم حالة من ( التبعية
الذهنية ) فأصبحوا لا يرون ثقافتهم إلا
مـن خلال عدسات أوروبية غربية .
أما الثقافة الإسلامية العربية (هذا إذا تفضلوا بمنحها لـقــب أو رتـبــة
الثقافة) فهي ليست إلا مخلفات (رجعية)! (طلابية)! لا محـل لها فـي العصـر
الحـديث.
لقد كان بعض حسني الظن يتصورون أن التفضيل والتمييز اللذين تحظى كلمة الثقافة
بهما إنما يعودان إلى أهمية الفكر والقراءة والعلم في تهذيب الشـخـصـيـــة
وتهذيب سلوكها وترقية وجدانها و عقليتها حسب المفهوم الدارج لكلمة الثقافة أو
الـمثقـف ، ولكن هذا التفضيل للمفهومين إنما يعود لدى النخبة العلمانية إلى أن
للثقافة والمثقف عندها معنى خاصاً هو الامتلاء بفضلات غربية علمانية مخالفة
للإسلام إن لم تكن مفارقة ومعاديةً له.
ومن هـنا حدث اللبس الذي عكر الأجواء الثقـافـيـة وأوجــــــد فيها الاضطراب
والبلبلة ؛ فـالـعلمانـيون الذين احتكروا منابر الفعل والحركة الثقافية لا
يفـتـؤون يمتدحون (الثقافة) و(المثقفين) ويرفـعـون لـواءهـمــا ، ويـدافـعـون
عنهما ، ويقف عامة الناس متفرجين لكنهم مسرورون ؛ لأن الثقافة عندهم لها معنى
إيجابي هو الفهم والفقه ، والتعمق في القراءة والعلم، وتكميل الشخصية، وتطوير
العقل وفق جذور معناها في الوسط الإسلامي؛ لكنهم لا يدركون أن الثقافة التي
يجري الحديث عنها ليل نـهــــار وترفع رايـتهـا إنما هي الثقافة الناظرة صوب
الغرب والمستمدة مفاهيمها من هناك، وهـم لا يـدركـــون ذلك إلا إذا خرج (مثقف)
بكتاب يطعن في الإسلام ، أو إذا وقعت واقعة كالاحتفال (الثقافي) بالرواية
الفرنسية ( الحزام ) الصادرة عن دار ( جليمار ) أشهر دار نشر فرنسية ، أو
بانتكاسة فكرية أليمة كالاحتفال بالاحتلال الفرنسي وإقامة الذكرى المئوية
الثانية لغزو نابليون لمصر أواخر القرن الثاني عشر ، وسط دعاية طنانة تجعل من
ذلك الغزو السافر المقترن بهمجية الاحتلال ووحشيته بداية التاريخ المصري الحديث
وفاتحة النهضة الفكرية والاجتماعية وباعث الحياة في أمة قتل روحها الإسلام !
إن الثقافة عند النخبة العلمانية
هي ما جاء من الغرب، ومعيارهـا هـــــو محاذاة
النموذج الغربي والسير وراءه، ومقياسها هو التمشي واللحاق بأحدث ما يخرج فـي
الـغـــــرب من مذاهب ونظريات فكرية وفلسفية واجتماعية واقتصادية... إلخ .
إن مفهوم الثقافة عند هؤلاء
هو في الحقيقة التبعية لا غير ومحض ( الذيلية ) حتى وهم يرفعون العقيرة بالحديث
عـــــن الإبـداع وثـقـافــة الإبداع لا ثقافة التلقين (الإسلام)! وحتى عندما
يتحدثون عن (الثقافة الوطنية) أو (الثقافة الجماهيرية) فلا يخلو حديثهم هذا من
التبعية والذيلية؛ لكنها تبعية مستترة خفية. فالثقافة الوطنية عندهم هي ثقافة
النخبة العلمانية المتغربة، وتقابلها ثقافة الظلام والرجـعـيــة والردة
(الإسلام) أما الثقافة (الجماهيرية) فهي ليست ثقافة الجماهير القائمة أو التي
كانت قائمة؛ لأن تلك الثقافة إسلامية الطابع والجوهر، وإنما هي الثقافة التي
يراد لها أن تـنـتـشـر وتسود بين الجماهير بقوة الفرض والإلحاح الإعلامي
والدعائي وهي الثقافة المُعَلْمَنَةُ.
و مـفـهـوم الثقافة كما يُروّج له الآن من عدة تيارات وجهات علمانية في العالم
العربي ـ وهي جهــات ملكت أدوات الفعل والقرار والتنفيذ الرسمية في العديد من
البلدان ـ يخفي وراءه ـ حتـى ولو تسربل بثياب الثقافة الشعبية أو الجماهيرية ـ
انحيازاً كاملاً للمفاهيم والتوجهات الغربية. وتحت هذا المفهوم وأبعاده تصبح
الثقافة الإسلامية ـ وهي الثقافة الأصلية والأصيلة ـ (لا ثقافة). أي تصبح منفية
ومقصاة ومقموعة تحت شعارات جذابة هي رفض الرجعية والظلامية والانغلاق... إلخ.
وهكذا يكشف هذا المفهوم عن أحد أشد جوانبه شــــــراً وخطورة ألا وهو العنصرية
البغيضة التي ترفع شعارات العقل والتنوير والديمقراطية والحـريـة والتعددية وما
شابهه؛ ولكنها ـ في الوقت نفسه ـ تمارس أبشع أشكال الاستئصال والإقصاء للتيار
الثقافي الأصيل والغالب وهو الإسلام.
إن الدكتاتورية هي الوجه الآخر المختفي من مفهوم الثقافة الذي يحرص على إظهار
نفسه في صورة نظيفة ناصعة البياض . والواقع أن مفهوم الثقافة هذا يكشف عند
تدبره عن أوجه كثيرة تخالف كلها المعلن منه، وتناقض مزاعم الدعاية الطنانة التي
تُروّج له وتطنطن به جاعلة منه لفظ مديح واستحسان حتى يحرص كل (مثقف) على أن
يتصف به حتى يُعدّ من زمرة المرضي عنهم! فإذا كان الشعار هو (الثقافة الوطنية)
فإن المضمون غربي علماني يناقض المفهوم العربي الإسلامي، وإذا كان الشعار هو (
الجماهيرية والشعبية ) فإن المضمون هو النخبة والصفوة التي تحاول أن تُكْسِب
أفكارها الخاصة والغريبة عن الشعب والجماهير لباس الانتشار والذيوع والأصالة،
كما تحاول أن تسلب الأشكال الشعبية مضامينها الأصيلة وتملأها بمضامين معلمنة ثم
تعيد إطلاقها وسط الناس تحت زعم أنها تنتمي إليهم، وإذا كان الشعار المرفوع هو
( الديمقراطية والانفتاح والتعددية ) فــإن الممارسة المشهودة هي الاستبداد
بالرأي وحجب المخالفين حتى ولو كانوا يمثلون فكر الأغلبية وعقيدتها ثم رميهم
بتهم الرجعية والتخلف.
إننا عندما نسمع وصف الثقافة والمثقف يُطلق اليوم على اعتبار أنه وصف استحسان
ومديح فإن علينا أن نبحث في الخلفيات والبواعث وفي حقيقة المضامين المستخدمة
ظاهرة وخفية، وعلينا أن نستكشف أبعاده المختلفة وأبعاد المفاهيم الأخرى المقصاة
عند استخدامه وهي في المقام الأول مفاهيم الثقافة الإسلامية .
وعندما نركز بؤرتنا على منطقتنا الخليجية ، فنتحدث بصورة إقليمية حول الواقع
الثقافي ؛ سنجد أن إفلاس التيارات الفكرية ذات المنحى الإيديولوجي بدءا من
الماركسية ومرورا بالقومية وانتهاءا بالحداثة أدى إلى حدوث فراغ فكري – كما
اسلفت – لدى أرباب وأتباع تلك التيارات ، مما حدى إلى تلاشي الرموز التي كانت
الآمال تعقد عليهم ، واستقلالهم فكريا و ( تنظيميا ) بعد أن تبين لهم فشل
تجربتهم التي كان مخاضها عسيرا .