اطبع هذه الصفحة


| النبوغ الخُلُقي |

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


“النابغة لا يحتمل ، إذا لم يُضف إلى خصاله اثنتين على الأقل : الشكران و النقاوة ” نيتشه
 

تميز الجنس البشري عن سائر المخلوقات بما حُبيَ من الله بعقلٍ ، يُميز فيه بين الخطأ و الصواب و الضار و النافع ، و يستعمله في عمارة ذاته و حياته ، و كذلك في بناء مجتمعه و أمته ، و هذا العقل درجات متفاوتة لدى الجنس البشري ، فليس سواءً ، ففيها من التمايز الكبير ، مما يدع الشخصَ مُنطلقاً في الزيادة العقلية ،ويدع الآخر منفرطاً في النقصان ، فالأول يُمدحُ و الأخرُ يُذم ، و كلاهما وجهان متجاوزان الحدَّ للشيءِ الوسط ، و لكنَّ الاعتبار في تقييمهما في نتائجهما و آثارهما .لا كلام عن النوع الثاني ، فليس محلَّ اهتمام النوعين ( الوسط ، و المتجاوز للزيادة ) ، و لا كلام عن النوع الوسط أيضاً ، لأنه ليس متميزاً في ذاته بل هو على طبيعته ، و إنما الكلام عن النوع المنطلق في الزيادة ، حيثُ يُرى هذا النوع من العقلاء أنهم يمتازون بشيءٍ ليس موجوداً في غيرهم ، و في حقيقة الحال هم كذلك ، لكن من ناحية أنهم أبدوا و أظهروا تلك الزيادة ، في حين أن غيرهم كتمها و لم يُبدها ، و ما لم يُبْدَ كما لم يُوْجد .هذا النوع المتميز بالزيادة في عقله ، هو النوع العبقري ، أو الذكي ، أو النابغ ، و هو ظاهرة إيجابية كبيرة في الجنس البشري ، لأن به يظهر ميزان العقل الوسط و العقل النازل السلبي ، و من ثم كان محلَّ اهتمام الدارسين في كثير من الأحوال ، و في عدة جهات ، منها الجهة الأخلاقية و السلوكية ، فالعاقل النابغ الممتازُ عن غيره بزيادة الذكاء و العبقرية ينبغي أن تكون سلوكياتُه سائرة مع تلك الصفة فيه ، فبقدر القوة العقلية ينبغي أن تكون القوة الأخلاقية ، لكن حين نُمعن الكثير من النظر في أحوال أولئك نجد أنهم سلكوا مسالك شتى ، فما بين نابغ ارتقى به ذكاؤه فصانه عن السفاسف ، و ما بين آخرَ هوى به ذكاؤه حتى أوردَه السَّقْطَة التي لا قيام بعدها .قد يتقبل الناس النابغة ، و يُفتنون به ، و يتبعونه أينما حلَّ و ارتحل ، لأنهم سيقفون منه على جديد يُنوِّرُ عقولهم ، و يُكسبهم المزيد من أبعاد و أعماق نظرته للحياة ، و لكن هذا لن يشفع أبدا له عندهم حين لا يكون مرتقياً السلوك الحسن ، و الخُلُقَ الحميد ، بل سيجعلهم في نُفْرة منه ، و في منأىً عنه ، و في مُنصرفِ القلب عن مودته ، و تلك مكمن خسارته ، لأنه سيكتسب صوراً لأتباع ، و لكن يكتسب قلوباً و لا عقولاً ، ففي حال غيابه تغيبُ مودته معه في قلوبهم ، فلا يرقبونه و لا يأملونه . أما إن كان على ارتقاء في أخلاقه ، و اكتمال في سلوكه فإنه سيكسب في إطاره الكثير من الناس ، و سيتناقل العالَم خبره جيلا بعد جيل ، لأنه أبقى معانيه بعد أن فَنِيَتْ مبانيه .نوابغ الرجال عبر تاريخ البشرية كلها ، كانت على هذه السُّنة من السلوك ، و يُعنى بهم هنا : الباقون سيرةً و خبراً ، فلا نظرَ في تخليدهم إلى شيءٍ سوى معانيهم الباقية ، و الأخلاقُ أسمى المعاني ، فلا بقاء لمن صحَّ دينه و قد ساءَ خُلُقه ، و لا لمن علا نسبُه و سفُل أدبه ، بل كانت الخالديةُ الذِّكْرِيَّة لأولئك الذين لما ارتقوا بنبوغهم العقلي ارتقوا كذلك بنبوغهم السلوكي و الأخلاقي .عودةُ النظر أخرى في حال أولئك النابغين ، الخالدين ، نجد أنهم لا يمكنهم أن يرتقوا سُلَّم المعرفة إلا على أكتافِ آخرين ، و لا يمكنهم أن يصلوا إلى منزلة إلا بدلالة غيرهم ، و لو قلَّ عنهم ، و هنا تكمنُ حقيقةُ نبوغهم الأخلاقي و السلوكي ، فهم سيمنحون أولئك شكراً و ثناءً و حمداً ، فمن لا يعرف للشكر لغةً لا يجدُ في النعمة بُلغةً ، فتراهم يلهجون شاكرين لمن كان عوناً لهم ، بدءاً من الرب الأعظم جلَّ ، إلى آخرِ من أرشدهم بإشارته ، و يصل الحال بأحدهم أن يستدلَّ بجماد على شيءٍ فينتزوع في قلبه منزع الشكر له ، فلا يجد إلا أن يتوجه إلى الله شاكراً له أن دلَّه على شيءٍ بشيءٍ لا يُؤْبَه به ، و الكاملون يرون في كلِّ شيءٍ كمالاً .قلَّما تجد خصلة الشكر عند من يرى نفسه شيئاً عن غيره من جنسه ، لأنه غارقٌ في بحرٍ لُجِّيٍ من الكِبر و الغطرسة ، فيرى أنه أرفعَ من غيره ، فلا حاجة أن يشكر من قلَّ عنه ، و لا يرأف الله بمثل هذا ، فقانون الحياةِ أن من حقَّر شيئاً حُقِّرَ يوماً ، ” لكل بطَّاح من الناسٍ يومٌ بَطوح ” ، و حين يصل النابغةُ إلى هذا القدر أن يُعرض بخده عن شكرِ من صنعَ منه شيئاً و لو لحظة فإنه ينادي على نفسه بتبديد و ضياع .آخرُ من الأشياءِ في النابغين ، كثُرَ من نفاها عن نفسه ، و لا تجدها إلا عند قلةٍ ، و الكرام قليل ، صفاءُ الروح ، و نقاءُ النفس ، و تلك تعني سلامة القلبِ من حقدٍ و حسدٍ ، لا يخلو جسد من سوء ، و لكن الكاملين يدفنونه بمفاخر أخلاقهم السامية ، و الناقصين يحسبونه ميزةً فيُفاخرون بالردى ، و كلٌّ على ما تكوَّن عليه . لا يصل النابغة إلى حد النقاء و الصفاء التام في حالاته ، القلبية و النفسية و الروحية ، إلا حين يؤمن بأنه ليس إلا أثراً من آثار العناية الكبرى ، و التي ميزته بهذا النبوغ ، و أنه ما كان ليكون كذلك إلا ليمنح الوجود أثراً بما يُقذف في عقله من بديع المعارف ، و حين يصل إلى ذلك فإنه سيكون إلى نقاءِ في طريقٍ واضح أبينَ ، لا ينغلق أمامه إلا حين يرى أنه شيءٌ بذاته ، فعندها يُسلب ما لم يكن في حسبانه أن يُسلَبَه يوما .حين يتخلَّى النابغة عن نبوغه الأخلاقي و السلوكي ، فإنه يُغلق على نفسه باب الزيادة من ذاك النبوغ ، فليس النبوغ إلا شيئاً متى ما وُهِبَ و عُومل بأدبِه أعطى و منح الأكثر ، و من دقائق منحه الأكثر جلبُ الأتباع المخلدين ، أنعتقد بأن من خُلِّد من النابغين إنما خُلدوا بأنفسهم ؟ ، لا ، و إنما خُلدوا بالأتباع الذين لزموهم ، و ما لزمهم الأتباع إلا لكونهم نابغين سلوكياً و خُلقياً .لا يتجردُ عن النبوغ السلوكي و الأخلاقي أحد نبغ فكرياً إلا لاعتراء النقصِ في شيءٍ من حاله ، ذاك النقصُ كامنٌ في تَيْنك الخصلتين اللتين ذُكرتا ، إهمال الشكر و العرفان ، و تغييب الصفاء و النقاء ، و عند غيابهما تسقط مهما كل قيمة للنابغة ، مهما كانت أثار نبوغه .

 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية