صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







كرسي المتنبي: المجلس (3)

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


قال أبو الطيب المتنبي :

وَشِبهُ الشئِ مُنْجَذِبٌ إليهِ  ---  و أشْبَهُنا بِدُنيانا الطَّغامُ

 وَحْيُ البيت :
الشئُ لمثلِه و شِبْهِهِ يميلُ ، و عن ضِده ينصرفُ و ينحرفُ ، فلا يُعاكَسُ شئٌ إلا بِضِدٍّ فيه ، و لا يُوافَقُ إلا بشئٍ يأتيه ، فالكريمُ للكرامِ لاشتراكهم في الكرم ، و اللئيمُ للئامِ لاشتراكهم في اللؤم ، فكلٌّ يُحاكي مُشابِهَه في جِنسِه ، سُنَّةٌ خَلقيةٌ ، و عادةٌ طَبَعِيَّةٌ .
 و التشابُه بين الخلائقِ من المُستحسناتِ في المديح ، و من المُستقبحات في الهجاء ، فعند المدحِ يُمدحُ بالشَبَهِ بالكرامِ ، و يَلْحقُ المدحُ كلَّ شئٍ ، و عند الذمِّ كذلك ، لأن ” كل إناءٍ بما فيه ينضحُ ” ، و الذواتُ تنضحُ بالصفاتِ ، و الصفاتُ إما تتشابَه و إما تتفارَق ، كما الذواتُ .
 و التشابُه يجمع البعيديَن و يُفَرِّقُ القريبين ، كما الشأنُ في التفارق ، و قد قيلَ : رُبَّ أخٍ لك لمْ تلِدْهُ أُمُّك ، و الشأنُ أنَّ من التشابه ما جمع بين بعيدَين فكانا كأخويَن ، و فرَّقَ بين أخوين كما لو كانا بعيدَيْن .
و في المنقول من القرآن  { الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات ، و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات } ، و في المأثور النبوي ” الأرواح جنودٌ مجنَّدَةٌ فما تعارَفَ منها ائتلف ، و ما تناكَر منها اختلف ” فكان التعارف لِتشابُهٍ ، و التخالفُ لتفارُقٍ .
و المرءُ مدني بطبعه ، و لا يميلُ ذو الطبع إلا لذي طبعٍ مثله ، حتى يستقيم أمرهما ، و يدوم وَصلهما ، فالشِّكلُ لشِكلِه ميَّالٌ ، و الضِّدُّ للضِّدِّ مُبايِنٌ مخالفٌ .
و التشابُه حيثُ كان كما بانَ ، فإنَّ تنوَّعَهُ على حَسْبِ حالِ الناسِ ، فليسَ التشابُه و لا التفارُقُ على نَسَقٍ واحدٍ ، و لا على سابلةٍ واحدة ، فقد يكونُ في الخَلْقِ ، و قد يكون في الخُلُقِ و هو الأكثر ، و قد يكون في الحالِ .
و هو مدخَلٌ حسَنٌ للاتصال بالآخرين ، و التعارُف بينهم بعد التعرُّفِ عليهم ، و هو من تحقيق الألفةِ بين الناسِ ، و تحقيق الصِلة بين سائر الأجناس .
و هو كغيرِه ، يُمدَحُ و يُذمُ حيثُ يُوضَع ، و  كغيرِه ، يُمدَحُ و يُذمُ حيثُ يُوضَع ، فإن استغلَّ ذو شَرَفٍ مُشَابَهتَه في تنميةٍ و تعزيزٍ لشرفٍ رامَه الله بِهِ فهو من المحامِد و الممادِح ، و إن وضَعَه في ضِدٍّ و مخالفةٍ ، و استعمالٍ في سوءٍ لسوءٍ فهو من المذامِّ و القوداح .
و الأخلاقُ و الصفات تلتحقُ بذواتٍ و أجسامٍ تُشابِهها ، و لا تكون مع ذاتٍ مخالفة ، و لا في جسمٍ مُبايِنٍ ، فكما قال أبو الطيبِ نفسُه :

 و إذا كانت النفوسُ كباراً   ---     تَعِبَتْ في مُرادها الأجسامُ

و النفوسُ بواطنٌ و الأجسامُ ظواهرٌ ، فتشابُه يَجرُ شبيها ، و تفارقٌ يُحدثُ تفريقاً .
و كمال التشابُهِ المحمود الممدوح في اتفاقِ التشابُه بينَ الخلْقِ و الخُلُقِ ، و الصورة و السُّورة ، و المظهرِ و المخبَر ، و في تفارُقِهما مُفارَقَةٌ للحمدِ إلى الذم ، و للمدحِ إلى الهجاءِ ، و الجزاءُ من جنسِ العملِ ، فبتشابُه القلوب تشابُه الأفعالِ .
و ليسَ انعدامُ التشابُه بعذرٍ لتركِ التشبُّهِ ، فرُبما كان التفعُّلُ للتشبُّهِ كذاتِ التشبُّه ، و إنما الشئُ بتصنُّعِهِ و تخلُّقِ المرءِ بِهِ ، ” إنما الحِلْمُ بالتحلُّم ” ، و قد فاه أبو الطيبِ :

تَشَبَّهُ الخَفِراتُ الآنِساتُ بِها    ---   في مَشيِها فَيَنَلنَ الحُسنَ بِالحِيَلِ

فكانَ نيلُ الحُسْنِ بالتحيُّلِ و الوصولُ إليه بالتَّعَمُّلِ .
فالتَّفَعُّلُ للِتشبُّهِ كالتشبُّهِ ، بل هو سبيلٌ إليه ، و قد قيل قبلُ :

فتشَبَّهوا إن لم تكونوا مِثْلهم   ---    إنَّ التشبُّهَ بالكرامِ فلاحُ

فإذْ بلغَ شأن التشابُه ما سنا برْقُه لِعَيْنٍ ، و ما تشنَّفَ لحنُه لِسَمْعٍ ، فكونُ المرءِ مُتَشَبَّهَاً بِهِ في خيرٍ نعتٌ لكمالِه ، و وصفٌ لِفَعالِه ، و السعيُ في تحقيقِ ذلك ميسورٌ سهلٌ ، لا يتأتَّى إلا لذي أهلية و فضلٍ ، و هي مطمحُ رغائبِ الكُمَّلِ ، و مَلْمحِ أنفُسِ الأفاضل ، طَرْقَاً لجادةِ الأوائل { و اجعلنا للمتقين إماماً } ، و لم يَرْضَ بأن يكون مُتَشَبِّهاً ، حيثُ أمكَنَه أن يكون مُتَشَبَّهاً به ، إلا من رضيَ بأن يكون ذيلاً لا رأساً ، و سُفلاً لا عُلواً ، و أرضاً لا سماءً ، و ” اليدُ العليا خيرٌ من اليدِ السُفلى ” و ” المعطيةُ خيرٌ من الآخذة ” و ” خيركما مَن بَدءَ بالسلامِ ” و لا أبلغَ من سلامٍ في تَشَابُهٍ أن تكون مُعطياً له مأخوذاً منك ، و أن تكونَ عالياً لِتُمْطِرَ لا سُفلياً لتلتقِطَ .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية