اطبع هذه الصفحة


العقيلات القادمون

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


العقيلات رجال من القصيم، منطقة في المملكة العربية السعودية، أضناهم الفقر و الحاجة، فاضطروا إلى الخروج و السفر إلى دول قريبة، و كذلك بعيدة، لكسب الرزق، و جلب التجارة لبلادهم، ما كان ذلك يسيراً عليهم، بل هو أصعب قرار اتخذوه في حياتهم، و لكن حين تكون الحاجات حاكمة، و حين تكون الغايات كبيرة، فالتضحية بالأثمن تكون شيئا طبيعيا.

رحل أولئك الرجال و بقوا السنين في بلاد غير بلادهم، يبحثون عن لُقمة العيش، و يصنعون مجداً تليدا يفتخرون هم به و يفتخر به أولادهم من بعدهم، و يتخذه آخرون فخراً لهم و هم لا طرف لهم في صناعته، و بعد تلك السنين يعودون إلى بلادهم حاملين معهم إنجازات كثيرة حققوها، لم يُحققها من توفر له طيب المنام، و لا رغد العيش، و لم يحققها من كان العجز و الجُبْنُ وصفه و نعته. و عمروا بلادهم بجهودهم، و لولاهم ما ازدهرت أرض. و في كل بُقعة من العالم ناسٌ كالعقيلات.

حين ننظر إلى أحوال أولئك الرجال الأشاوس، الرجال الأكابر، الرجال العظماء، نجد أن دافعهم لذلك إثبات وجودهم في حياتهم، فلم يستسلموا لحال الفقر في تلك البلاد، و التي كان الفقر عاماً إلا عند طائفة، و كانوا أيضاً يحلمون بأحوال يريدون أن يعيشونها، فسعوا لتحقيقها، و قد حققوها، و صنعوا ما أرادوا صناعته، و لا يصنع المجد إلا من عرقٍ.

أولئك الرجال منهم من مضى و منهم من بقيَ، و من بقي منهم لا أستبعد أنه يرى الحال اليوم شبيها بتلك الحال أو أشد، مما يجعله ينظر إلى أحفاده، بل ربما إلى أولاده، أنهم من يُجددون أحوال العقيلات. ذلك أن الأوضاع المالية للكثير من الشعب، في أغلب الدول، متدنية جدا، و البطالة منتشرة انتشاراً أعجزَ أهل المسؤولية من أن يُقدموا حلا فعلياً، و الأعمال قليلة للغاية التي يكون للعمل الواحد أكثر من ألفي متقدم أو أكثر. و أيضا لما يحدث من ظاهرة الغلاء الفاحش من الأثرياء مَيِّتي الضمير الإنساني. هذه كلها تجعل عقيلات الماضي يرتقبون عقيلات جديدة.

الإنسان خُلقَ كريما، و حيث كانت كرامته في أرض بقيَ فيها، فإن لم يجد تلك الكرامة رحل عنها غير آسفٍ عليها. و هو أيضاً خُلِقَ ليعيش حياة لا تقلُّ عن الشأن الذي يقدر أن يكون بالغه، و لا يرضى أن يكون في دنوِّ حالٍ و الدنيُّ عنه أرقى منه، لذلك يصيبه ضيم الحال فيسعى لأن يكون كما يريد، و هنا تتمثل أمامه خيارات، أشدها أن يبقى بذلٍ أو يرحل بعزٍّ، و ما كان ترك الأرضِ العاقَّة يوماً ما عيباً، و لا هجر الوطن خللاً و خدشاً في الكرامة الانتمائية. لكنه يقيناً إذا وجد في أرضه شيئاً من الاهتمام به فإنه قطعا لا يُغادرها.

حينما تهتم أرضٌ بغريبٍ عنها، ترك أرضه ليبحث عن رزقه، فتحتويه و تمنحه و تعطيه، و في مقابل الحال تترك ابنها يتلقف خشاش الأعمال ليُطعم نفسه من ردي العيشِ، و هو في أرضه، فإنه لا يقبل ذلك، فينتقل باحثا عن أرضٍ تحتويه، فدول اليوم تُكرم الغريبَ أكثر من القريب، لأنهم يؤمنون بحديث ” من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليُكرم ضيفه” و يؤمنون بآيةِ ” و يُؤْثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة”. فكان الإكرام و الإيثارُ مفهوماً على الخطأ فكان التصرف اللا مقبول.

تلك الأحوال التي لا ترحم قلبَ صابرٍ، و لا تدعُ حليما يُمسك غيظه للحظة، ستجدد لنا ذكرى العقيلات، و سيكون من أبناء كل وطنٍ لم يهتم بشعبه عقيلاتٍ يسعون في الأوطان ليجدوا أوطانا تعتني بهم، و ليس لأي وطن قيمة إلا بشعبه، فإن اهتم الوطن بشعبه و أكرمه أعطاه شعبه ولاء و نماء، و لكن الشعبَ حين يُسلب أقل حقٍّ له و يُمنح لغيره، و يُجوَّعَ أو يُعرَّى أو لا يُؤَمَّن له سكن يأوي إليه، أو لا يجد أمناً، كل صور الأمن، فإن الشعبَ لن يمنحه أيَّ شيءٍ، و ما من أهلِ وطنٍ هم أُصلاء في أوطانهم، فما هم إلا رُحَّلٌ من أراضي الأجداد إلى أراضٍ وجدوا فيها أنفسهم.

إن نظرة سريعة على أحوال مجتمع من المجتمعات نرى أن دواعي الهجرة متاحة، و أسباب تركه كثيرة، فلا كُرْه للوطن و إنما سعيا لتحقيق القيمة الإنسانية التي خُلقوا ليحققوها، و لا يمكن أن يسلبها من إنسانٍ أيُّ إنسان مهما كان قدره، فلا يسلب الإنسانية إلا عديمها، و متجرد من أدنى صفاتها. فمع كثرة البطالة و قلة الأعمال، و عدم معالجة هذه القضايا علاجاً واقعيا له أثره، مع الاهتمام الكبير في صناعة العمران ليكون مظهراً فارغاً من كل جوهرٍ عمراني، مع الدعاوي و التضخمات بأعمال المستقبل التي تجلب الأضواءَ ليكون السطوع أكثر لمن يرى، و مع أنظمة للأعمال و المناشط التجارية قديمة مهترئة لا تبني و لا تواكب عصراً يتقدم بسرعة البرق، و ربما أسرع، كل هذه و غيرها مؤشرات خطيرة لحدوث مثل هذه الظاهرة.

كانت هناك خطوة رائعة ربما لو نجحت لأدت إلى نهضة اقتصادية، و لكن وراء كل بادرة نهضة قرضة سوء، و هو خطوة توطين الأعمال، فتكون الأولوية للمواطن، و يكون هناك تصفية للمقيم في الدولة، و لو تمت لكانت ذات أثرٍ كبير، و لكن لما كانت منافذ كبرى أدركت أن هذه الخطوة ستكون أثرا سلبيا على جشعها المالي اللا إنساني، في تعطيل توظيف المقيم و استقدامه كان تدخلها في نقض دستور هذه الخطوة بشيء من واوات العطفِ بالعنفِ، و كل عمل تدخل في إتمامه وجاهة فهو إلى سقوط مهما كان القائم عليه من القوة و الحزم. و كذلك لم يرُقْ لأولئك أن يمنحوا المواطن ضِعف ما يمنحونه للمقيم، فكانوا معترضين.

إن ملاحظة هذا الشيء قبل حدوثه من الأهمية بمكان كبير، فبالعناية به، و بصيانة الحال إقامة لنهضة الدولة، و حماية لأصل الحضارات لها وهو الشعب، فيكون منها إتاحة الفرص، و ووضع الحلول الفعلية في أسرع وقت، و إلا فإن خسرت شعبها لن تربح إلا غريباً، و الغريب لا يُؤتمن. و كذلك تغيير الكثير من أنظمة الأعمال، فلا يُعقل أنه لا تزال مؤسسات كبرى تنتسب لنظام الدولة تسير على نظام مضى عليه أكثر من ثلاثين سنة. و إن جددت فيه جددت التاريخ و التوقيع. ففي بعض فروع ما يسمى بالبلديات حين يُقدَّم نشاط معينٌ يُقال للمتقدم: ليس في القائمة المرخَّص بها. و هذا الاعتذار القبيح ينُمُّ عن مدى تخلفٍ كبيرٍ يعيشه ناسٌ هناك. فالأعمال التجارية لا تندرج تحت قاعدة غير مرخص إلا ما كان مخالفا للدين المعتمد أو ناقضٍ لأصول الذوق العام. كذلك حين يُقدِّم أحد على رُخصة لعمل ما، و هو تجاري، يكون من ضمن شروط التقديم وجود المؤهل الجامعي، أو التخصص، و الأعمال الحُرة لا يُطالب فيها بذلك، لأن المؤهلات إنما تُطلب في مجال التوظيف. هي خطوة منهم في تفعيل دور التقدم، و لكنه تقدم و تطور في الطريق العكسي، أي: إلى الوراء.

أكثر من ذلك بكثير لم يُذكر، و كل إنسان مليءٌ، و كل إنسان لديه طرفٌ من خبرٍ، و أثرٌ من حادثة، تنبيء عن أن مثل هذه الأشياء ستكون سببا كبيراً في تاريخ العقيلات، و سيكون للعقيلات مجددون، و المؤسف إذا كان من مجددي العقيلات أبناء رجال العقيلات، فهذا يعني أن نماء الحضارة قصير جدا، و أن هناك خلل كبير، يحتاج إلى مراجعة كبيرة لكل جزئيات الأحوال.

أُلفتُ الانتباه إلى أن تلك الهجرة إلى بلاد يجد فيها الإنسان نفسه قد أقرها الشرع الكريم، و هو الذي يحفظ كرامة الإنسان، فلفت الله الناسَ آمراً إياهم بالسير في الأرضِ ابتغاء الرزق حيث قال ربُّ الإنسان و مُكرمُه : ” و هو الذي جعل لكم الأرضَ ذلولاً فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه و إليه النشور” فهو أمر بذلك، و الأمرُ قد يصل إلى الوجوب حين يكون الاضطرار. و ختم بالنشور إليه إشارةً إلى أن الإيجاد كله نشرٌ و إلى نشرٍ. إضافة إلى الشرعِ الحالُ الإنساني فلا حضارة تقوم إلا بمغادرة حال الاستقرار المعتاد، و التغيير سنة كونية. فمن هاجرَ فإن معه شرعه و معه إنسانيته. ومن لامَه فقد أراد أن يُضيمه.

يبقى هنا سؤال كبير، و جوابه أكبر منه خطراً و أثراً على التاريخ: هل العقيلات القادمون سيكونون خير سفراء الوطن؟!

أدع الجواب للتاريخ الذي صنع الكلمة.


 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية