اطبع هذه الصفحة


كرسي المتنبي: المجلس (4)

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


قال أبو الطيب المتنبي :

وَ مَنْ يَجِد الطَّريقَ إلى المعَالي --- فَلا يَذَرُ المَطيَّ بِلا سَنَامِِ

وَحْيُ البيت : مَن لقيَ في نفسَه طموحاً نحوَ غايةٍ نبيلةٍ ، و مقصدٍ سامٍ ، و بانَ له الطريقُ ، و اتضحتْ معالمُ سابلةِ المجدِ ، فلا يتركنَّ شيئاً من المطايا ليرْكبَها ، فإنَّ الطريقَ مِلْكُه ، و لم يَعُدْ سوى وَضْعُ القَدَمِ ، و البَدء بالخُطوة الفاعلة، وزَّعُ الله الهممَ بين الناسِ ، و قسَّم العزائمَ بينهم ، و ربَّما اجتمعتْ و ربما افترقت ، و بيَّنَ الطرائقَ و السُّبُل ، فبانَ الكلُّ للكلِّ ، أرزاقٌ مُوَزَّعة ، و نِعَمٌ مُنَوَّعَة ، كلٌّ يُدركُ مقسومَه ، و يأخذُ معلومه . و أكملُ الناسِ مَن علَتْ همتُه ، و قويَتْ عزيمتُه ، و بانت لَهُ طُرُقُ مُراداتِه ، فشَدَّ ساعد المسير ، و حدا بالدابَّةِ بالتغنِّي ، مَرِناً في مسيره ، متيناً في تشميرِه . و ليسَ هذا معذوراً في ترْكِ اقتحامِ مصاعبِ الطرقِ ، فإنَّ الكمال لا يُنالُ إلا بالمُحال ، و شموخَ النفسِ إلا بِذَوقِ النَّحْسِ ، و التمامَ إلا بهجرِ المنامِ ،و المجدَ إلا بالحَدِّ و القَدِّ ، و ما لمْ يأتِ بِالتعبِ يَغْدوُ كاللُّعَب ، فإياكَ و التراجُعَ ، و احذرِ زيفَ التواضُع ، فأظهرِ مكنون القوة ، و استعلي ظهرَ الصهوة . و أفصَحُ أبو الطيِّبِ قبلُ فقال : عَجِبتُ لِمَن لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ وَيَنبو نَبوَةَ القَضِمِ الكَهامِ و بِقَدرِ الهمةِ يكونُ الهمُّ ، و الرجالُ بهمَمِهم و عزائمهم ، و لكلِّ صغيرٍ صغيرٌ ، و لكلِّ كبيرٍ كبيرٌ ، فللحويجةِ رُجَيلٌ ، فبِعِظَم المطلبِ يَعظُم الاقتحامُ و الخوضُ للشدائد ، و ” الحياةُ مغامرةٌ جريئةٌ أم لا شئ ” ، و لا يبينُ شرَفُ المطلوب إلا بمدى البذلِ لَه ، فـ ( من يخطُب الحسناء لَمْ يُغْلِهِ المهرُ ). و مَن لمْ يَخُضْ معاركَ المجدِ فدعواه باطلة ، و همته ساقطة كَزَرْغَبٍ ، و عزيمته كبيت عنْكَبٍ ، و صِدقُه مفقودٌ ، و خَتَلُه موجودٌ ، فعلامةُ ما لمْ يَكُنْ الاعتراضُ للمحن و مهاجرَةُ الفَنَن .

و ما نيْلُ المطالِبِ بالتَّمَنِّي --- و إنما تُؤْخَذُ الدُّنيا غِلابا

و يقلُّ عَنه منزلةً في الكمالِ مَنْ لَم تتضح له الطريقُ ليسلكها ، فعنده همةٌ تُفَتِّتُ الحديد ، و تُكسِّرُ الجبالَ ، و لكنَّ الطريقَ هي التي لم تُفْسَحْ له ، و لم تُواتِه الفُرْصَة لتحقيقِ ما يُريد ، و هذا حالٌ غالبٌ على كثيرين من أفاضل الناسِ ، تحدوهم الهمم العوالي ، و العزائم الكبار نحو غاياتٍ يتقاصَرُ عنها كلُّ دنيء الطبع ، فيبقى في حالٍ من الهمِّ و الغَمِّ ، يَرى إشراقاتِ مستقبلِه أمامه ، و يمنعه عن الولوج في طريقِهِ مُحقَّراتٌ مُصغَّراتٌ ، و تلك هي : القشَّة التي قصَمتْ ظهر البعيرِ . و ليسَ في حكمِ أهل الهمم و العزائم ، و لا في دساتير ذوي الطموحات العالية البقاءُ باستسلامٍ ، و ضمُّ الأيدي فُرْجَةً ، و إنما خلْقُ الطريق ، و تمهيدُ السابلة ، فالطريقُ المسدودةُ كانت لا شئَ ، و كانت مَعِرَة ، فمهدها مَن كانت لَه عائقاً ، و سهلها من كانت حجرةَ عِثارِ أمامَه ، ففرَّج عن نفسه ، و لم يُخَيِّب أملَه ، و لم يرضَ بالبقاءِ ، لأن البقاءَ شقاء . و متى بقيَ مَن أُوْصِدَتْ أمامَه الطُّرُقُ واقفاً لا حراك له ، فإنَّهُ نعيٌ لهمته ، و إمراضٌ لعزيمته ، و المرضٌ للموتِ عرَضٌ ، و الموتُ فوتٌ .

و أوْضَع الناسِ قومٌ كثيرٌ ليسوا إلى الهمِّ في المعالي ، و لا إلى عزمٍ على العظائم ، رضوا بالرتعةِ مع الراتعِ ، و أخملوا النفوسَ بِخِلْعَةِ الميئوس ، و لو أدركوا شأنهم ، و عرفوا نبأهم لشدوا المُطِيَّ ، و أعملوا الرواحلَ ، فلحقوا السابقين ، و بَسَقوا معَ الباسقين . إن لبلوغِ المقاصِد ، و إدراك الأمنيات قانوناً قوياً ، و نظاماً مُحْكَمَاً ، من سلَك في تحقيقِ المطالبِ قانونها بلغها ، و من حادَ عنها ذِيْدَتْ عنه ، و بقيَ في حالِهِ . همةٌ الشخصِ العاليةُ أساسٌ لبناءٍ عظيمٍ ، و قاعدةٌ لطريقٍ مُنيرٍ ، فإنها لا تزالُ تدفعُ بصاحبها حتى يُدرِكَ الشأوَ و يبلغ الأُمنِيَّة ، و لا تستقيم الهمةُ إلا بعزيمةٍ صلْبَةٍ ، تُواجِهُ المعترِض فتهزمه ، و تأتي على المُثَبِّطِ فتُنْهِضه أو تقرِضه ، فتغدو كشاهبٍ يخترقُ طباقَ السحابِ ليُحدِثَ أثراً بعده ، يكون مَعْلَماً لمن مرَّ ، و بتحقٌّقِ الهمة العالية ، و العزيمةِ القوية ، يكون لدى الشخصِ الهمَّام العازم طرْقُ الطرُقِ ليشُقَّ سبيلَه على صهوةٍ الأملِ الواسع ، و المستقبلِ المُرْتَقَب ، فيضع أولَ خطواتِه طريقَ مجدِهِ فينفجرَ { مُغْتَسَلٌ باردٌ و شراب } فيتخلَّى عن خوامد المقاصد ، و يُعرِض عن سفاسفِ الهواتفِ ، غاسلاً قلبَه عن دنيءِ الهَّمِّ ، و قالَبَه عن رخيصِ الوصف ، فيشرَبُ مِن كأسٍ مِسْكُ خِتامِها عزيمةُ أهل العزم ، فيرتوي من معاني السَّبْقِ ، و يُدركُ مقاعِد الصِّدق ، و يَلْحَقُ و يُلْحِقُ ، و يسبِقُ و لا يُسْبَق ، فَمنْ أرادَ لقيَ ، و مَن حادَ شقيَ ، و ليسَ موهوبَ الهمةِ بسابقٍ إنْ جلَسَ ، و لا محرومها بممنوعٍ عن كمالٍ إن اقتَبَس ، فإن الكمالَ لمنْ صدَقَ في العزمِ ، و سبقَ في الهمِّ .

 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية