اطبع هذه الصفحة


كرسي المتنبي: المجلس (5)

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


 قال أبو الطيب المتنبي :

إِذا تَغَلغَلَ فِكرُ المَرءِ في طَرَفٍ   ---    مِن مَجدِهِ غَرِقَت فيهِ خَواطِرُهُ

 
وَحْيُ البيت :
عادات الكبارِ مِن أهلِ الهمم أنَّهم إذا أردوا الخوضَ في أمرٍ مِن غاياتهم و مقاصدهم أعملوا العقلَ في التفكيرِ ، و أعملوا أُخرى في التدبيرِ ، فيستغرقون فيه استغراقاً كُلِّيَّاً ، حتى يأتوا على أتمِّ أوْجُهُهِ ، فإذا بدأوا فيه بالتنفيذِ يكونون قد برئوا من تَبِعَةِ اللومِ في التقصيرِ ، و برئوا من هُمومِ الإهمالِ .

فمن رامَ شيئاً من المقاصِدِ الحِسان ، و الغاياتِ الكبارِ أغرقَ فِكْرَه في معرفتِها ، و سَبْرِ غورِها ، و درْكِ أبعادها ، فيكون متصوِّراً الغايةَ كأنها يراها ، و يُبصرها أمامه رأيَ العَيْنِ ، حتى لا يَفْترِقَ عنده خيالٌ مِن حقيقةٍ ، فيعرفَ من ذلك كلِّه مواطنَ الكمالِ و الجمال ، فيُنَمِّيْها و يُرَبِّيْها ، و يعرفَ محالَّ النقصِ و العيبِ ، فيُعَدِّلَ ما يُعَدَّل ، و يُبدِّلَ ما يُبتَذَل .

فإذا خاضَ في بحرِ هذا الاستغراق ، و غاصَ في أعماقِهِ ، اجتاحتُه حالةٌ تَدَعُه يَرىَ غايتَه في أجملِ اللونِ ، و أحسنِ الصوَرِ ، فتكتحل عينُ باطنه بذاك الجمال ، و تُسْبَى بذلك الحُسْن ، و يُبصرُ دقيقَ الصورِ ، و تدرُّجاتِ اللونِ ، فيكون مُسْتَغرِقاً خاطرَ التخيُّلِ البَصَري .

و يُشَنِّف أُذُنَيْهِ بِهُتافاتِ المجدِ مُنْشَدَة ، و بلابلِ المدحِ مُغَرِّدَة ، تنتابُه حينها نشوةٌ تُطْرِبُ فؤاده ، و تهُزُّ أنغامَ قلبِهِ ، تخترِقُ حُجُبَ السماعِ فتغدو هباءً منثوراً ، يُنادي على نفسِه في فلاحه ، و يُثنى عليه بنجاحه ، و يُبارَك له في البلوغ ، و يُهنأ بالنبوغ ، تمام الاستغراق في السَّمْعِ في بلوغِ الغايات .

فيبعث الاستغراقانِ في نفسِهِ نزوةَ الشموخ ، و زُهُوَّ السُّموِّ ، و بَرْدَ الاطمئنانِ ، و راحةَ المرتجلِ ، مشاعرٌ أغرقَه فيها تمامُ استغراقِهِ في تَفَكُّرِهِ في بلوغِ مجدِهِ ، فيتمَّ له في ذلك التكوُّنُ الداخليُّ ليقينِ البلوغ ، و ثِقةِ التحقيق .

فإذا ما اجتازَ هذا الاستغراقَ بإتقانٍ نَقَلَه إلى الاستغراقِ في التدبير ، فيُقَلِّب الأمورَ ، و يُصرِّف الأحوال ، و يُقايسُ بين مُتْعَةِ البلوغِ و ألم المسيرِ ، و بين مصالحِ الوصولِ و مفاسدِ الخمولِ ، فيُقَدِّمَ مُسْتَحِقَّ التقديم ، و يَضْبِطَ الزمانَ فلا تختلطَ الوظائف ، و يتمهَّرُ وسيلةَ الترابُط و التواصُلِ ، فيخدِمَ الغايةَ و المقْصَدَ .

و بعدُ ، فلا يُبْقِيْهِ في عريْنِ الاستغراقِ التدبيري إلا عجزُ و خَوَرٌ ، و لا يستقيمانِ معَ كلِّ مَن بَدتْ فيه بوادرُ الشوقِ نحو المجد ، و بواعثُ السموِّ نحو السماءِ ، و إنما ينتقلُ إلى الاستغراقِ في سُوْحِ التنفيذِ ، بَدْءاً من رَسْمٍ للمسيرِ ، و تخطيطِ الانطلاقِ ، و تثنيةٍ بالخَطْوِ في أولِ الدرْبِ ، حيثُ العينُ على النهايةِ ، و القلبُ في الغاية ، و النفسُ تتوقُ ، و الهمةُ تسوق ، في ميدانٍ كثُرَ المُزاحمُ و قلَّ الحازم ، و التفَّ المُدَّعي و احتُفَّ بالألمعي .

هذا الاستغراقُ في صورِه و أشكالِه ، يأتي للمرءِ في طَرَفٍ من مجدٍ يَرومه ، ليُدرِك الكلُّ أنَّ القاعدةَ الراسخة ، لا مجدَ إلا باستغراقٍ في بحرٍ عميقٍ قعرُهُ ، ليُسْلَكَ طريقٌ عَتِيٌّ ظَهرُه ، فيُرْتَقى جبلٌ شديدٌ وعرُه ، لتُدرَك الراحةُ في قمة الساحة .

دستورٌ كونيٌ ، سنَّه الربُ تعالى ، و بانتْ حقائقه ، و بدتْ نتائجه ، فمن غالطَ دُفِعَ ، و من عاندَ صُفِعَ ، فالحقائقُ براهينُ اليقين ، و التجاربُ سوابل التمكين .
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية