اطبع هذه الصفحة


استباق المستقبل

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


المستقبل عالم مجهول، غائبٌ عن المحسوس، لا يُدرَك إلا بطرقٍ خفيةٍ، و يعتريها من الوهنِ ما يجعلها عُرضة للتكذيب. و النفسُ طُلعةٌ إلى التعرُّفِ على المستقبل، و تسعى جهدها لتصل إلى أثارةٍ من علم عنه. فلا تقف عن استشرافٍ و لا عن تنقيبٍ. نؤمن بأن كل شيءٍ يحدث بقدرٍ سابقٍ، و استشراف المستقبل لا يخرقُ قانون الإيمان بالقدر، و لا يعني ادعاءً للغيبِ، فكيف يكون التعامل مع هذا النوع من الناس؟

الكون كله قائم على سُنن و نواميس، و الحياة تعيد نفسها، و تُنقِّلُ أحوالها دُولة بين ناسها، فشيءٌ ليس غريبا أن يُدرك الإنسان من شيءٍ مَّا مَا ستكون عليه نهايته، و لو كان قبل النهاية بوقت طويل.

قُدرات العقلِ ليست واحدة، و الناسُ في رؤاهم العقلية ليسوا سواء، و النفوسُ منها ما تُدركُ الكثير مما في الحاضر البعيد، فربما كانت كذلك مُدركةً للمستقبل المجهول، وهذا الشيءُ إنما هو مغروز في أحوال الإنسان، و الخالق الأعظم يمنح بعضاً من خلقه شيئاً من ذلك.

هذا في ذاته من حيث كونه موجوداً في الإنسانِ ليس مذموما، و لا محلَّ إشكالٍ، من جهة الشرع، لأن الإشكال في المذموم الذي هو تنقيبٌ و بحثٌ و حرثٌ عن المستقبل بطرقٍ غيرِ سويةٍ و مرفوضة، إما في نظام الشريعة أو نظام الناس. لذلك جاءَت الشريعة في النهي عن استكشاف المستقبل عن طريق وسائل مرفوضة، لأنها لا ضمان فيها، و يُداخلها الغرر و الخداع. في تعيين شيءٍ من عموم مجهولٍ إثبات لكون الأصل عدم المنع من ذلك، إلا للصورة المعينة. كذلك في قراءة الرملِ عيَّن الشرعُ وصفاً للرملِ الصحيح و أنه ما كان موافقا لفعل نبي، و هل هذا يراد به تتبع ذلك الفعل و كيف كان، أم أن المراد منه أن ما وقع من أي فعلٍ وكان موافقا لفعل النبي الذي فعل الرمل فهو صحيح؟. والاحتمال الثاني أقرب.

عندما ننظر إلى أحوال الناسِ، نجد أن هناك الرؤى التي يرونها في مناماتهم، و الرؤيا هي ما كانت متعلقة غالباً في المستقبل، فتكشف الرؤى بعضا مما يحدث في المستقبل، و تسبق المستقبل بالإشارة إلى ما يحدث فيه، ومن مارس تعبير الرؤى أدرك هذا الشيء كثيرا. كذلك هناك ما يكون تفرُّساً في أحوال الحياة مما يُخرج للمتفرِّسِ أن هناك شيئاً سيكون.

هناك نوع من الناسِ يطرأ عليهم خاطرٌ أنه سيكون شيء ما في زمنٍ ما في مكانٍ ما لفلانٍ من الناس، استباق للزمنِ، و اختراقٌ لحجاب الغيبِ، بمحضِ عطاءٍ من الخالق، لا بتكلُّفِ الإنسان، و لا بسعيه. هذا النوع من الناسِ لن يجد من يتقبَّل ما يقوله بقناعة، و غالبا ما يُقابل بسخرية و استهزاءٍ، كحال أي إنسان امتازَ عن السائرِ من البشرِ بشيء.

اختراق هؤلاء لحجاب المستقبل المجهول يثير قلقاً لدى من حولهم، بل يثير قلقاً لديهم أنفسهم، فيكونون في تخوُّف مما سيحدث، لذلك لا يهنأ لهم بال، خاصة حينما تكون الأحوال القادمة ليست محمودة و لا حسنة، و لا لها أثر إيجابي على من ستحدث له، فيكون القلق هو سيد الوضع، و هو المسيطرُ على الأحوال النفسية لهم. فهذا الذي حدث له ناموس متكرر في الحياة، لكل أحد من المخلوقات، و ليس خاصا في البشر فقط. يشعر بذلك كثيراً الوالدان، و الأصدقاء، و قانونه أنه يحدث لكل من رابطتهما الروحية قوية،و بقدر قوة الرابطة الروحية يكون استباق المستقبل بالشعور لما يكون للطرف الآخر.

لا يُناهض هؤلاء و لا يقف مصادما لهم إلا من لم يعرف أسرار الأزمنة، و لم يُدرك سر الغيبِ حقيقة، وهو ممن لا يؤمن إلا بحاضره فقط، و لا يكون قد باشرَ الإيمان بالقدر أعماق قلبه، فيسلك المعارضة و المصادمة، ليجد في طمس ذلك و كتمه أمانا مزيفاً، و إلا فالحقائق لا يُمكن أن تُطمسَ أبدا، مهما كانت وسيلة الطمس و طريقته، لأن الحقيقة تُثبت نفسها كونيا، و الكونياتُ لا يطمسها إلا من كوَّنها.

في مثل هذه الأمور يجب على عقلاء الناس أن يتعايشوا مع ذلك، فلا يُعارضوه و لا يُصدقوه، بل يأخذونه بالمحايدة و المسايرة، فالمعارضةُ لا تستقيم مع نظام الحياة، فنواميس الحياة المتكررة تؤيد ما يعيشه هذا النوع من الناس، و القبول نقضٌ لقانون الإيمان بالقدر، و إثباتٌ لكون هذا النوع قد اخترق حجاب الغيبِ فعلم ما لم يصل إليه، وهذا لا يستقيم أبدا عند أهل الدين السماوي، الذي يؤمن أهله بالقدرِ. هذا الموقف تجاه ما يقوله هذا النوع يجعلنا نأخذ الأمور بتؤدة و حذر، و ننظر إليها بشيءٍ من الهدوء الذي يجعلنا نستعد لمثل هذه الأشياء.

في كون ذلك من نواميس الحياة، كلنا يؤمن بأن الإنسان قبل أن يحدث له شيءٌ تتغيرُ نفسيته، و يكون في حالٍ من ألمٍ في بطنه، أو انشغال ذهن، أو قلقِ أحد مقرَّبٍ عليه، ثم يحدث ما كان مُتَوجَّسَاً، و يقع الشيء الذي استرابَ منه الإنسان.

نحتاج للتعامل مع هذا النوع من الناس إلى أن نعرفَ سُنن الكون أكثر، فكل شيء في الكون سيتكرر، لأن السُنن طرائقُ مطروقة، و طرائقُ الحياة لا تقف، فحينما نعرف سنن الكون و الحياة نعرف أن ما يقول به بعض هؤلاء ليس غريباً، و ليس فيه اختلاف إلا الزمن و المكان و الناس، و إلا فالناموس متكرر.

كذلك أن نعرف أسرار النفس البشرية، فالنفسُ البشرية في تفاوت كبير جدا، و في تباين، فليست القُوى النفسية واحدة، و الشرائع أكدت ذلك، و أقرَّتْ ما كان موجودا، و كذلك الحس يُثبت هذا برهانا لكل عقلاء البشر. فبمعرفتنا لأحوال و أسرار النفس البشرية و قُواها نُدرك أن مثل هذه الظواهر ليست غريبة على النفس.

غير القوى النفسية، و التي تنطلق من المشاعر غالبا، هناك القُوى العقلية، فالعقلُ لا حدَّ له يقف عنده، إلا حد المستحيل، و المستحيل هو ما كان من خصائص الخالق ، وما دون ذلك فهو ممكن، و الممكن يُدركه العقل، و المستقبل من الممكن، فبعض العقول مُنحت قُوى جبارةً تقدرُ على اختراقِ المستقبلِ و معرفة ما سيكون فيه، فكما يستطيع عقلٌ أن يرجع إلى الوراءِ فيُحللَ حضارةً انطمسَ بعضها فكذلك يقدرُ على اختراق القادم ليُدركَ ما سيكون فيه.

من خلال هذه الأشياء نعرف أن مثل هذا النوع ليس غريبا بين الناس، و لكن عقول الناس لا تستوعبه، فلم يجد بينهم مكاناً، لذلك حُوربتْ الأنبياءُ لأجل ذلك، و بالمقابل تُقُبِّلَتْ الناسُ المُستعينةُ بالشياطين، فمن أدركَ بطريقٍ حقٍ رُفضَ، ومن أدركَ بطريقٍ محقٍ قُبض.

يمنحنا هذا النوع من الناس أملاً في أن القادم المجهول قد يكون أفضلَ بكثير مما عليه الحاضر، فيكون الأملُ باعثاً على العمل، و العملُ يقينُ الظن، و حقيقة الحُلم، و كذلك يمنحنا هذا النوع إلى أن نُوسِّع المدارك لمواكبة الزمان القادم أيضا، و هذا بذاته سيجعلنا نتأهبُ استعداداً، و الاستعدادُ للقادم لا يكون إلا على بيِّنةٍ واضحة، و هذا مما يُحقق النهضات الحضارية للأمم.



 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية