اطبع هذه الصفحة


أنايَ الأُخْرَى

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


بسمِ ربِّ الروحِ أبدأ .
سألتَ ، سُدِّدَتْ لك الخُطى ، و عُصمتَ من الخطأ ، عن الصديقِ، و إنَّك لسائلٌ عن نفسٍ من نفسٍ، و روحٍ من روحٍ، فالصديقُ من أُسسِ بناءِ الذاتِ، بل به اكتمالها في غالب الحين، حيثُ يكون الصديقانُ بانيين لبعضهما،فالصداقة شراكة بالضرورة.أرسطو .و حينَ يكون الصديقان هكذا فهما يمتزجان في بعضهما، و يصيران شيئاً واحداً، حيث إنَّ الصداقة هي زواج الروح.فولتير ، و هذا الزواجُ هو ارتباطُ روحٍ بروح، و ارتباط الأرواحِ وثيقُ العُرى، فعندما تريد صديقاً فأنتَ تريد نفسكَ، و تبحث عن ذاتك، فليس الصديقُ من عَرَضِ الناس المارِّيْن في حياتك كل آنٍ، بل هو أنتَ، و أنتَ هو، و إذ لم تكونا كذلك، فاظفرا بفراقٍ، فـ متى أصبح صديقك بمنزلة نفسك فقد عرفت الصداقة.ميخائيل نعيمة .

نبأني بريقُ عينك عن سؤالٍ مخفيٍ وراءَ اللمعانِ، عن حقيقة الصداقة، و إنه لسؤالُ نبيه، و تساؤلُ وجيه، و إني لمنبئك عنه خَبراً، فاظفرْ به خُبْراً، فدونَكَ ما أفوه به : الصداقة حب دون أجنحة.لورد بايرون، فلا تطيرُ يمنة و يسرةً في سماء الروحِ، و إنما مستقرةٌ في جنة القلبِ، فلا أجنحةَ لديها، لأنها لا ترغبُ إلا بالبقاء، و حين تكون الصداقةُ حُبَّاً ذا أجنحةٍ فإنها تعني أنَّ أساسها سيكون مرتحلاً، فمن ملك الجناحينِ ملكَ السِّماكين، وما حجبته أرضٌ، و لا أعاقته سُحبٌ، لأجلِ هذا يولد الأصدقاء ولا يُصنعون.هنري بروكس آدامز، فيأتي بهم القدرُ بما هم فيه، متأهلون ذاتاً لذاتٍ، و أخلاقاً لأخلاقٍ، يجمع بين الطرفين حُبٌّ ذا استقرارٍ، و مودةٍ ذاتِ قرار، فـ لو كانت الصداقة أمراً لا قيمة له لصارت سهلة، فلا تأسَ على صعوبة الحصول على الصديق. و حين تصنع صديقاً فإنكَ صانِعُه على وَفْقِ وَحْي العقلِ، و الصداقةُ من شأن الروحِ، و إنما العقلُ مُرشدٌ في المعاملة، و لا يصنع العقلُ إلا على وفْقِ مقاييسَ و معاييرَ يستحسنُها، و الصداقةُ حيثُ هي روحية لا ترضى بأحكام المحسوسات، إذ الحُبُّ أساسٌ في الصداقةِ فـ غالبا ما تتحول الصداقة إلى حب.لورد بايرون. إذا نَمَّتْها المعاملاتُ الحِسان، و سَقتها الأخلاق الكبارُ، و قام البذلُ كما الاحترامُ، وصار سيِّدَ الوَصْلِ امتزاج الأرواحِ، ببراهين الجوارح، لكن يستحيل أن ينزل الحب إلى درجة الصداقة.لورد بايرون.

ومهما بذلتَ في شأنها فالأمرُ هو أنَّ تمنِّي الصداقة عمل سريع، لكن الصداقة نفسها ثمرة بطيئة النضج .أرسطو ، لذا لا يكون كائنا لك إلا شيءٌ من زُلالِ ماءِ حياتها، و أما غُلالها فلا سبيل إليه، و إن كُنتَ حصلتَ على الصداقةِ فاعلم أن الصداقة كالمال، اكتسابها أسهل من الحفاظ عليها.صمويل بتلر.

إنَّ أصعب أنواع الصداقة كافة هي صداقة المرء لنفسه.أفلاطون ، إذْ كان الصديقُ، كما أبنْتُ لك خبرَه، هو خليلُ الروح، و لصيق النفس، وجزء الذاتِ، و من كان له صديقٌ كهذا فإنما حِيْزَ له كمال الحياةِ، فلا يعتريه نقصٌ إلا بفقدِهِ، وفقدُ الصديقِ جُرْحٌ نازفٌ، ومرضٌ عُضالٌ، يفري في الصديقِ الموجودِ على روحِ الصديقِ المفقودِ، و هيهاتَ أن يُشفى، و بعيد أن يُعافى، فيا لشأن تلك الصداقةِ و يا لعظمتها، فالصديقُ واحدٌ فقط، لا شريك له فيك، فقانون الصداقة لا يقبلُ التعدُّدَ، فـ الصداقةُ تعني قلَّةَ الأصدقاء. وِلْ ديورانت.

من جميلِ الحالِ، و أدبِ الفَعالِ، أنَّ الصداقة تغمض عينيها.فريدريش نيتشه، عن كلِّ زلةٍ، و لا تُبصرُ سَوءَةً، و لا ترى مكروهَ صديقٍ، حيث إنها عين الرضا فهي عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ، لأجهل ذا كانت الصداقة الحقيقية نبات بطيء النمو.جورج واشنطن، إذ لا أحد سيُراعيها كما يجب، فما كان نَبْتُه بطيئاً كان عطاؤه مريئاً، فـ من يبحث عن الصديق الحق حتماً سيعيش وحيداً طويلاً، و ذلك لأن ما يبحث عنه لا ثمن له. وإن ظفرتَ بصديقٍ، مُوَثَّقِ العُرى في قلبكِ فإنه باعثٌ لكَ زاجلاً بألوكةٍ من صميم القلبِ : يا صديقي؛ إنَّ معنى الصداقة هو أنني _ تلقائيّاً _ أراك جديراً بأن أئتمنك على جزء من كرامتي.أحمد خالد توفيق، لأنك مستودَعٌ لسرِّه، و مأمنٌ من حَذَرِه، فهَبْه ليَهَبَكَ، و أعْطِهْ ليُعطِيَك، و إن نقضتَ فأنتَ قائمٌ على نفسك بمناداة بالحرمانِ، و في ميدان الحياة بالاعتزال، إذ أسوأ أنواع الوحدة أن يكون المرء محروما من الصداقة الحقَّة .فرانسيس بيكون، و عندئذ تبقى في سائر الأيامِ حليس البيت، و جليس الدار، لا يلوي عليكَ أحدٌ، و يُقام عليك قانون : أبدٌ.

بادرتَني يا هذا بسؤالك عن حالِ اللقاءِ بين الصديقين، و إنَّه للقاءٌ، فيه سرُّ النقاء، حيث سيادة الصفاء، لاستدامة البقاء، فلا تكفيهما حين يلتقيانِ أزمنة الوجود، و لا تَسَعهما أمكنة الكون، و الوقتُ ببؤسه يمرُّ سريعاً، وبالإسراعِ ضليعاً، إن التقيا أخذ الوقتُ بالمرور سارقاً السرور، و إن غابا اشتاقا فأبطأ الوقت بمروره، وحين يكون اللقاءُ فـ جميل أن تبدأ الصداقة بابتسامة . أوسكار وايلد ، للشوقِ العامرِ الغامرِ الذي اعتراهما في قلبيهما، فأنِسَا وابتهجا، فحين التقيا سَعُدَا، و حين يكون الوقتُ معموراً ببسمةٍ تجذب أختها، و مؤانَسَةٌ تنادي خدينتها، و تحين ساعةُ الفراقِ الجسدي، فـ الأجمل أن تنتهي بابتسامة.أوسكار وايلد. فيا عجباً لأمر الصداقة، فهي لا تعرف سوى الابتسام، فبرؤية صديقك يبتسم ثغرك لأن عينك تقر، و ببعده يبتسم قلبك لأن شخصاً ما قد عمره. أأدركتَ سِرَّ البسمة حين يلتقيانِ؟!
لا؛ لا تتعلق الصداقة بزمان أو مكانٍ، فالحدود الكونية تحكُمُ الأجسام، و الصداقة من شأن الأرواح، فعندما تظفرُ يا صاحِ بصديقٍ فالأماكنُ كلها مكانكما، و الأزمنةُ كلها لكما، إذ لا تفتقدان بعضكما، و لا تغيبان عن بعضكما، فلا تغيبُ روحٌ عن نفسها، و لا تختبيءُ نفسٌ عن رمسها، فإن فقد أحدكما الآخر فلعلةٍ مَّا جرَتْ بينكما، فنقِّبَا و ابحثا، و إن لم تجدا، فاحزنا كثيراً، فما تباعدت الأرواح إلا لشيءٍ في قانون الصداقةِ غيرِ مُباح.

إنما عماد الصداقة الثقة، فلا يمكن وجود صداقة حقة بين شخصين مع انعدام الثقة بينهما، لأن الثقةَ تعني الأمان القلبي المطلق بمشاعر صديقك تجاهك و إخلاصه، فأنتَ إن بنَيْتَ صداقةً على عمود الثقةِ، فإن الصديقَ منتظرٌ منك أن تريه دوما البرهان الفعلي لتخطيكما حدود الشك و الريبة بمبادلته ذلك، و هذا هو الصدق.
السعادة لازمة للصداقة، فالسعادة هناءُ الروح و رضاها، و قناعتها بالحال، و لا تكون لها تلك إلا بالأُنسِ بطرفٍ آخرٍ، كما أنها تكون لها بطرفٍ في الذاتِ، لذلك فالشخص السعيد في ذاته يجد في الصداقة كذلك، فصار حقاً أن الصداقة ضرورية للإنسان السعيد أكثر من الإنسان التعيس. وِلْ ديورانت، و بتحقُّقِ الصداقة الحقَّة الجميلة بكل معانيها تتحقَّقُ العدالة، لأن التصافي سيكون ظاهراً، و ستكون السعادة الغامرة قاهرةٌ لكل ما يُذهبُ رونقها، إذنْ؛ لا حاجةَ للعدالة عندما يكون الناسُ أصدقاء. وِلْ ديورانت، هذه الصداقة الجوهرية لا تكون عند أي أحد، و لا يملكها أي إنسان، بل إنها لا تأتي إلا عند أهل الصفاء الصادق، المتأهبين لحلول المعاني الجوهرية في نفوسهم.

أومأتَ، بُورِكتَ، إلى انفكاكِ العُرى في علائق البشرِ، و اعتراكَ خوفٌ أن تكون الصداقة مما تعتريها تلك الصفة، و أقول لك: هدوءُ الروعِ من مطالبِ الثقة، فاعلم أنه حينما تتحقَّقُ الصداقة الحقيقية، و تكمنُ موجودةً في الأرواح، فإنها لا تنفصمُ و لا تتصرَّم حبالُها، و لا تعتريها القواطع، حيثُ أن الصداقة الحقَّة تقتضي الدوام لا الشدَّة المتقطِّعة.وِل ديورانت، و أما الصداقةُ التي تُصاب بمرض القطعِ فهي تلك التي لم تتصل في الأصل، فلا قيمة لها، فالصداقة لا تُعتبر إلا إذا قامت على قانون الوصل، و مِن ثَمَّ كان التفعيلُ بالتواصل، فهناك يكون إيصال المقاصد الروحية عبر الأبردة الجسدية. ربما تعجبُ من ذلك، و لكن لا عجبَ إذا بان السببُ، إذ القطْعُ لا يكون إلا في الغريبِ، و أما القريبُ فلا يأتي عليه القطعُ، أنتَ راءٍ كثيراً في أحوال الحياة أن المقطوعَ هو ما ليس منضماً إلى فئة، و لا منتميا إلى جنسه، لهذا فلا يكون في الصداقة انقطاعٌ، لأن الصداقة قِوامها على التشابُه، و التشابُه جزءٌ أصيلٌ، فـ المتشابهون يتصادقون. هيمروس، فحيث تمَّ التشابُه فلا يُمكن أن يقطعَ الشبيهُ شبيهَهُ، إذ الأصلُ أنَّ شبيهَ الشيءِ مُنجذبٌ إليهِ. المتنبي، و ههنا يكون من اللازمِ عليَّ تبيانُ موَثِّقاتُ الصداقة و ممكِّناتُها، ليستبينَ الطريقُ للصديقِ، فيكون مع صاحبه في منزلةِ الصِّدِّيْق، فالصدِّيقُ الأولُ حظيَ برتبة الصِّدِّيْقيَّةِ لتحقُّقِ معاني الصداقةِ فيه، من ذلك أن يكون لازمَ الظلِّ لصديقِهِ غيرَ مفارقٍ له جُلَّ وقته، و ليس المرادُ ملازمة الظلِّ الشخصَ، و إنما ملازمة الحالِ الحالَ، و مطابقةُ الفعالِ القالَ، و أن يكون أحوجَ ما يكون صديقه إليه، فـ الصديقُ وقتَ الضيق، و هذا قانون وثيقٌ متين، عميقٌ مكينٌ، فإنَّه يُعرف الأصدقاءُ الحقيقيون وقتَ المحنة. إيزوب. فهذه هي التي تُظهر حقيقة مناجمهم، و كرائمَ نفوسهم، فـ لا يكون الصديقُ صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاثٍ: في نكبته، و غيبته، ووفاته. علي بن أبي طالب.

و أيها الصاح الجميل، ثِقْ أنك لستَ بحاظٍ بصديقٍ في هذا الزمان الأغبرِ، و لا نائلٍ إياه في تلاطم هذا الوقت، حيثُ التناكرُ سجيَّةُ الناس، و التناحرُ مطيةُ الأرجاس، ولست زارعاً فيك الشؤمَ، و لا باذراً في أرضِ فكركَ اللؤمَ، و إنما أصفُ لك الحالَ، فالصديقُ الوفيُّ أندرَ من كبريتٍ أحمرَ، وواجدُه واجداً كنزاً خُصَّ به بين العالمين، فإن أردتَ أن تجد صديقاً، و قد أخبرتُك أن الصديقَ لا يُنالُ بالطلبِ، فعليكَ أن تجعلَ منكَ أنتَ صديقاً لنفسك، و امنح من حولك وصف الصداقةِ منكَ، و إيَّاك أن تمنحهم ذاتَك صديقةً، فتلك دعها للصديقِ المُدَّخَرِ، فـ الوسيلةُ الوحيدة لاكتساب الأصدقاء هي أن تكون أحدهم. إمرسون، تلك سبيل حسنةٌ محمودةٌ، تكسبُ من خلالها أصدقاء الروح، و إن رُمتَ أصدقاءَ الزيفِ فكُن مع العدوِّ، و امنحه الأمان، فقد قيلَ: سامحْ عدواً واحداً تَكسَب أصدقاءَ كثيرين. بوبليلوس سيروس، إذ بمسامحتكَ العدوَّ كسرتَ شوكةَ الصديقِ و قوَّيْتَ هُزال الأعداءِ فتكالبوا حولكَ زيوفاً و طيوفاً، و قريباً يتلاشَوْن عنكَ، و تلك طريقٌ مذمومةٌ مرذولةٌ عند أهل المكارم، فإياكَ إيَّاكَ فإنَّ صديقَكَ من صدَقَكَ لا من صدَّقَكَ. علي بن أبي طالب. و تعظُمُ البلَيَّةُ، و يكبُرُ الخطرُ حينَ تُصغي للعدوِّ، و تُرْخي له السمعَ، ليُملي عليكَ عن صديقٍ وثيقٍ، فـ مَن أطاع الواشي ضيَّع الصديق. مثل فرنسي. فذِهْ مُمكِّناتُ الصديقِ، و صائناتُ الصداقة، و قدْ أتيتُ لك بالكلامِ ههنا تباعاً حيثُ جاد به العَفوُ من الخاطر، مُضمَّنا كثيراً من قولِ الروحِ العاطر. فتشبَّثْ بها، و عُضَّ عليه بنواجذ القوة، فقد جمعتُ لك أصولَها، و كنتُ أنا لك رسولها.

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق
31/3/2010
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية