اطبع هذه الصفحة


( النُّهُوْضُ بـ [ التأريخ ] )

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


 القاريءُ في كُتُبِ ( التأريخ ) يرى أنه حَظِيَ بالإهمالِ من كثيرٍ من أهله ، و ذلك في كوْنِهِ أُبْقِيَ على حالٍ واحدةٍ ، و تُرِكَ على وضْعٍ راكدٍ لم يتغيَّر .
و لا شكَّ أن إهمالَ ( التأريخ ) مَفْسَدَةٌ كُبْرى ، و خطيئةٌ جُلَّى ، لأن فيه تغييبٌ لحقائقه ، و سَتْرٍ لمصداقية أخباره .
و مِنْ جرائره _ كما مرَّ _ جعلُه خامداً ، و تصييرُه ساكناً ، مما أدى إلى حِرْمانه من ( النهوض ) به نحوَ ما يقتضيه كلُّ زمانٍ بحسبه .
و ( النهوض ) بـ ( التأريخ ) مما يتوافق مع مَسِيْرِ ( التأريخ ) : الزمني ، و المكاني ، و النوعي .
إيضاحُ ذلك : أن الزمان يدورُ دائرته ، و المكانُ يتبدَّلُ ، و الأحوالُ تختلف ، و ذلك كلُّه لابدَّ و أن يكون فيه اختلافٌ بينَ السابق و اللاحقِ ؛ فإما حسَنٌ و إما سيءٌ .
و المُرَادُ : أن يُنْهَضَ بـ ( التأريخ ) نحوَ : الحُسْنِ و الرُّقِي ، و إقصاءَ ما يُسَبِّبُ له التَّخَلُّفَ و التدنِّي .

و ( النهوض ) بـ ( التأريخ ) يكون بأمورٍ ثلاثةٍ :

الأول : التَّنْقِيَة .
إن القاريءَ لـ ( التأريخ ) يَسْتَاءُ جدَّاً مما شابَه من الشوائب المُذْهِبَةِ لِرَوْنَقِ حقيقته ؛ و هاتيكَ الشوائبُ على أقسامٍ :
أولها : أخبارٌ مُخْتَلَقَةٌ مَكْذُوْبَةٌ .
حينَ يتجرَّدُ الكاتبُ لـ ( التأريخ ) عن المِصْدَاقِيَّةِ في الكتابة يكون العبَثُ في ( التأريخ ) .
و هذه الشائبَةُ عَمَّتْ في السياق التأريخي ، و انتشرَتْ في المصنفاتِ التأريخية .
و أسبابُها الباعثةُ عليها عديدةٌ لكنَّ جُمْلَتَها :
أولاً: الصراعُ الديني .
ثانياً : الصراعُ السياسي .
فَمْن الأول أخبارُ الروافض ، و من الثاني الأخبار المكذوبة على بني أمية .

ثاني الشوائب : التفسيرُ الكاذب .
و أعني بالكاذب : معنيين :
الأول : الكذب الذي هو ضدُّ الحقيقة و الواقع ، و هو عَكْسُ الصدق .
الثاني : الخطأ .
و هما معنيانِ معروفان عند العرب .
لابد لمن أراد أن يُدِيْمَ النظرَ و الاطِّلاع في تأريخ الزمان من تحليلٍ و تفسيرٍ لوقائعه و أحداثه .
و إن ممن تصدَّوا لتفسير ( التأريخ ) قَوْمٌ خانوا ( التأريخ ) ففسروا أحداثَه وَفْقَ ما يتناسبُ و أهوائهم و مذاهبهم .
و بذلكَ قُلِبَتْ حقائقُ ( التأريخ ) ، و ضُيِّعَتْ نفائِسُ خبايا أحواله .
فهاتان شائبتان رئيستانِ في ( التأريخ ) ، لابد من تصْفِيَةِ ( التأريخ ) منهما ، و إظهارِ الخُلاصَةِ الحَقَّة .

الأمر الثاني _ مما يتعلَّقُ بالنهوض _ : التَّقْعِيْدُ .
مِنْ صُوَرِ الإهمال لـ ( التأريخ ) فُقْدانُ التَّقْعِيْد له ، و غيابُ التأصيل لأبحاثه .
التقعيدُ من مهماتِ العلوم _ أي: في ذات العلوم _ فَبِهِ يكونُ ضبطُ أصولِ العلم ، و بِهِ يكونُ إحكامُ الطَّرْح ، و بِهِ يكون توجيهُ الخلاف و تبيين الوفاق في العلم .
و كلُّ عِلْمٍ خَلا من التقعيد فهو زيفٌ و هباءٌ ، و الاشتغال به ضياعٌ و فساد .
و العَجَبُ أن ( التأريخ ) من العلوم التي لحقَها قُصُوْرٌ في التقعيد ، و هي بالأهمية له بمكانٍ كبير ، و ذاك من جهتين :
الأولى : كوْنُهُ ديوانُ الزمان و الإنسان .
الثانية : ما مرَّ من كون التقعيد مهمٌّ في العلوم .
و لابدَّ من مُراعاة أمرين حالَ التقعيد :
الأول : كونُ القاعدةِ مَنْصُوْصَاً عليها عند جُملَةِ المؤرخين .
الثاني : مراعاة الوفاقِ في القاعدة و الخلاف فيها .
و التقعيدُ لـ ( التأريخ ) داخلٌ فيه :
أولاً : التقعيدُ ( الكتابي ) .
و أعني به : وَضْعُ قواعدَ لمن يتصدَّى للكتابة التأريخية ، فإن كثيراً من المشتغلين في كتابة ( التأريخ ) يكتُبُ على غيرِ قواعد ، أو على قواعدَ اخترعها .
و هذا مما لا يُرْتَضَى أن يكون في الكتابات التأريخية .
و مما يُلْحَقْ بهذا :
أ- التقعيد في التفسير التأريخي .
ب- التقعيد لمسائل الترجيح ؛ فإن أغلبَ مَنْ يكتُبُ في ( التأريخ ) يَعْمَدُ إلى ترجيحٍ و نَصْرٍ لقولٍ دون اعتمادٍ على قواعدَ في ذلك .

ثانيها : التقعيدُ للقراءةِ في ( التأريخ ) .
و ذلك بوضْعِ أصولٍ لمن أراد أن يقرأ في ( التأريخ ) .
و بمعنى آخر : وضْعُ منهجيةٍ للقراءة في ( التأريخ ) ، و يُرَاعى فيها :
أ- كونُ الكتابِ ، أو المنهج مما هو عُمْدَةٌ عند مُحقِّقي المؤرخين .
ب- التدرُّج في القراءة .

الأمر الثالث _ مما يتعلَّقُ بالنهوض _ : صياغة ( التأريخ ) .
إن صياغةَ ( التأريخ ) مرَّتْ في زمنِ التأليف التأريخي على نوعين :
الأول : صياغةٌ من حيثُ الترتيبُ التسلسلي ، كما هو الحال من ابن جرير و ابن كثيرٍ و غيرهما .
الثاني : الصياغة من حيثُ الانتقاءُ لأحوالٍ منه .
هذان النوعان يتعلَّقان بالترتيب _ أصالةً _ و جعلُهما نوعين للصياغة لما للترتيب من تأثيرٍ قويٍ في صياغة ( التأريخ ) .
و النهوض بـ ( التأريخ ) في صياغته صياغةً تتناسبُ مع أهل الوقت الذي تكون فيه صياغة ( التأريخ ) .
و من أمثلة الصياغة : السؤالُ و الجواب ، الجدولَة ، التشجير .
على أنه يَنْبَغي ملاحظةُ شيئين :
الأول : البساطةُ و السهولةُ في الصياغة ، فلا طولٌ مملٌّ ، و لا اختصارٌ مخلٌّ .
الثاني : الشمولية لـ ( التأريخ ) و أحداثه ، سواءً شموليةً عامةً للتأريخ كله ، أو شمولية خاصة لبعض أزمانه .

و إذا سلكنا تلك الأمور الثلاثة في النهوض بـ ( التأريخ ) يكونُ خروجنا بفوائد ثلاث :
الأولى : فهمُ ( التأريخ ) .
الثانية : استيعابُ ( التأريخ ) .
الثالثة : الاستفادةُ من ( التأريخ ) .
و هذه واضحةٌ بَيِّنَةٌ لا تفتقر إلى إيضاح و شرح .
و صلى الله و سلم على نبينا محمد .

1/7/1423هـ
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية