اطبع هذه الصفحة


ذوْق الشّعر

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


للشعر أثره على نفس الإنسان - سواء أكان قائلاً له أم قارئاً -، وله وقعه في القلب، و تكاد تظهر آثاره على جوارح الإنسان، لأجل هذا يختلف رأي الناس في شعر ما لاختلاف وارده وباعثه.
"ذوق الشعر" وظيفة لم يدرك قيمتها إلاّ الندرة من الناس؛ لأن الذوق إنما يكون في القلب للمعاني، فإذا كان الشاعر قد قال شعره متذوقاً إياه بإتقانه مبنى الأبيات و سبكه جودة المعاني، و قابل متلقياً متذوقاً لجمال المعنى المبطن في كمال المبنى حصل للقلب طربه وللنفس رقصها.

فلا غرابة حينئذ إذا وقفنا في أخبار المتذوقين عند سماع الشعر على أحوال مختلفة، قد تكون صراخاً، بل ربما رقصاً و هزَّاً، و لا عجب أن انتهى بخروج الروح؛ لأن السماع قلبي و ليس أذنياً، و فِقْهُ القلبِ للمعاني لا يُدْرَكُ و لا يُحَدُّ؛ فقد يكون إدراكاً بعيداً عَن ظاهرِ اللفظِ، و الذَّوْقُ القلبيُّ سِرٌّ مكنونٌ لا يُظْهَرُ إلاّ لِمن يَسْتَحِقُّه.
إنَّ ورود المعاني على القلبِ في قوالبِ مبانٍ متينةٍ مُحْكَمَةٍ يُحدثُ في الفؤاد جلَبَةً و أثراً، و كلُّ كلامٍ متينِ المعاني له أثرُه في الأنفسِ؛ لأنَّ كلام الحكمةِ عليه نورُ المعاني، و القلوبُ تفْقَهُ المعاني، و الأذن تُدْرِكُ جَرْسَ المباني.

حَديثُ الروحِ للأرواحِ يسري و تدركُهُ القلوبُ بلا عناءِ
فإذا كانت هذه صورةُ و أثرُ الشعرِ في قائلِه و سامعه، فكيف السبيلُ لتحصيل ذاك التَّذَوُّق؟
مَن مِن الناسِ لا يُحِبُّ أن يكون ذوَّاقاً للشعرِ، مُدركاً لذَّتَه؟
لما يقولُ الشاعرُ أبياتَه، و يقرِضُ أشعارَه يكون لحالِه أثر في إلباسِ شعرِهِ لبوساً يحكي تلك الحال، فمجالاتُ الشعرِ المطروقةُ مِن الشعراءِ كثيرة، و لكلِّ شاعرٍ إتقانٌ و إحسانٌ لمجالٍ أو أكثر دون غيرِه، و غالباً ما تكون الأطروحات الشعرية نابعةً من حرارةِ الحال، و التذوُّقُ يتحقَّقُ لما يكون القارئ للشعرِ متعايشاً معَ ما تضمَّنَه الشعرُ من معانٍ، فإنْ قرأَ شِعراً فيهِ من معاني الحزن ما يقطع الأفئدة و هو في حالٍ من الطربِ أو الأُنْسِ فلن يجد أثراً للشعرِ، و كذا لو قرأ محزونٌ أبياتَ الفخرِ و المديحِ فلا يلتفتُ الفؤادُ إليها لأن الحالين مختلفان، فالقراءةُ بَرُوْحِ الشاعرِ تَذَوُّقٌ لمعاني شعرِهِ.

فَمَيْلُ القارئ إلى شِعْرِ شاعرٍ يَحكي في شِعْرِهِ ما تميلُ إليه نفْسُهُ أجودُ أثراً مِن مَيْلِهِ لشعرٍ لا تتوافقُ معانيه و مبانيه مع ميولِه، فلما يقرأُ فَخورٌ أشعارَ المفتخرين يكون الذوقُ ظاهراً عليه، فانتقاءُ القارئ شعراً يستقيمُ مَعَ ما تعشقه نفسه يجعل تذوُّقَه للمعاني قوياً.

مجالاتُ الشعر التوظيفية - و أعني: ما يُوَظِّفُ فيه الشاعرُ شِعرَه - تَعْتَمِدُ على بُنْيَةِ القَصِيْدَةِ، فليسَ الشعراءُ في انتقاءِ بُنْيَةِ الشعرِ على نَسَقٍ واحدٍ، و ملاحظة القارئ اختلافِ البُنى يجعلُه في تذَوُّقٍ للمعاني، و البُنى إما أن تكون بالمعاني و إما أن تكون بالألفاظ، و البُنى اللفظية يَتَفَنَّنُ فيها الشعراءُ كما يتفننون في البُنى المعنوية.
يسلُك الشعراءِ في أشعارهم أنواعاً مِن البُنى اللفظية المختلفةِ، و هذه البُنى يختلِفُ فيها القارئون، و الذَّوْقُ في التوافُقِ بين الشاعر و القارئ.

القلبُ يُرْسِلُ للسانِ ما يُعَبِّرُ عنه، فإذا كان الشاعرُ و القارئ متوافقينِ في نمطٍ و ليسا مختلفين كان وَقْعُ الشعرِ قوياً، و كان للقارئ تذَوُّقَه البارعُ.

إنَّ مِن الشعراءِ مَنْ يقْرِضُ أشعارَه و هو سارِحٌ في خيالٍ واسِعٍ، فيَنتقلُ في أبياتِهِ بين ميادينَ رَحْبَةٍ، يَخْلُقُ صوراً و أحداثاً ليَعِيْشَ حياةً يَطمحُ أن يكون فيها، أو يَحكي حُزْنَه في مضامين تلك الصورِ المُتَخَيَّلَةِ، فلا يَدعُ خيالاً إبداعياً إلاّ و يسلكُه في أبياتِ شِعْرِه، كثيرٌ من الشعراءِ يأخذون بهذا الأسلوبِ البِنْيَوي، و لا يكادُ ينْفَكُّ القارئ ذو النَّمَطِ الشَّبِيْهِ بالشاعرِ من التأثُّرِ بما يقرأ، و قَد يَكون التشابُه في حكاية الحال بينهما قوياً، عندها حدِّثْ عَن التذَوُّقِ.

و آخَرُ في حكايةٍ لأحداثٍ يَسْمعُ أصواتَاً من داخلِ نفسِهِ، أو مِن خارِجها، تُشَنِّفُ مَسَامِعه - الداخلية و الخارجية -، و تكون بُنْيَةُ قصيدته اللفظية من تلك الألفاظ المُوْحِيَةِ لَفْظاً سمعياً، فيميلُ إلى أن يكونَ سَمْعُه مَادحاً أو مواسياً أكثَرَ مِن ميلِهِ إلى سِواه مِمنْ لا يستعملُ ألفاظَ السماعِ، و تميلُ إلى هذا النوع النفسُ المُحِبَّةُ للمدحِ و الثناءِ.

طائفةٌ أُخرى من الشعراءِ تَنْثُرُ في بُنى القصائد إحساساً و مشاعرَ مُرْهَفة، فالشِّعْرُ قِوامُه على إيرادةُ القلبِ، و القلبُ يُتقِنُ فَنَّ المشاعرِ و الأحاسيس، فينبعثُ الحُزْنِ بِشكايةٍ و استضعافٍ، تَمُرُّ على الشاعرِ أزمنةٌ يكون نَثرُ ما يَجدُ من أَسَىً في أشعارٍ تُفِيْضُها قريحتُه.

للبلاغَةِ طرفٌ كبيرٌ في التذَوُّقِ الشِعري، فإنَّ البلاغَةَ صنْعَةُ الألفاظ و المعاني، فإذا كان القارئ للأشعارِ لديه أثارةٌ من أصولِ البلاغةِ، و أخذ بمقاصِدِ البليغِ و مراميه في كلامِهِ، كانت قراءتُه للشعرِ قراءة الذائق الغارقِ في معانٍ لا يسبُرُ غورَها إلاّ مَن نحى فوقَ مَنْحاه، لأجلِ ذا كانت للأشعارِ جولتها في قلوبِ المتذَوِّقَة.

و هكذا تختلفُ أشعارُ الشعراءِ بِحَسْبِ انبعاثِ المعاني من قلوبهم، و تذوُّقِهم لتلك المعاني، و بِحَسْبِ بُنْيَةِ ثقافتِهم اللفظية و المعنوية و التي تُظْهِر للقارئ أشعارَهم جوانبَ التذَوُّقِ، و بِحَسْبِ سَكْبِ الصناعة البلاغية في تضاعيفِ القصائد، و بهذه المسالك في أشعارهم كانت التذَوُّقات مختلفة من قارئ لآخر.
لم ينتهِ الكلامُ بَعْد، و في الجعبةِ رَغْبَةٌ، و المكتوبُ طرَفٌ نظري، و الشعرُ هو المعتبَرُ في تطبيقِ ذلك.

 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية