اطبع هذه الصفحة


قَهوةُ الإفطار
15/9/2007
3/9/1428

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


في لحظةٍ يَرتفعُ فيها الإعلامُ الرباني مُعلناً للنفوسِ المؤمنةِ أن تُطلِقَ لنفسها العنانَ بَعد أن قامتْ بالإمساكِ نهارَ ذاك اليوم _ و كُلِّ يوم _ فتلتقمُ رُطَبَاً طيبةً ، و تطرُقُ بابَ ربٍّ رحيمٍ ، فرحها بإدراك تلك الساعة لا يقلُّ شأناً عن فرحها ببلوغِ الشهرِ .

تَرتَشِفُ بِشفاهٍ طيبةٍ طاهرةٍ آنيةً صغيرةً جميلةً ، ذاتَ أشكالٍ لطيفةًٍ ، تحتوي قهوةً عربيةً ، أصيلةَ العِشْرَةِ بالعربيِ ، تلك القهوة التي أخذتْ من الأباءِ و الأجدادِ قلوبَهم فصيَّرُوها ضراتٍ غيرَ ضارَّاتٍ لآزواجهم ، و جعلوها عشيقةً يتقصَّدونها بأشعارِهم ، و يتنافسون في تجويدِها .

راقَتْ لي يوماً و أنا أرتشفُ منها رشفةً تشنَّفت الأُذنُ بصوتِ معناها ، موحيةً إليَّ خطاباً حُلواً جميلاً ، أدرَكْتُ المعنى المرسول ، و فَقَهْتُ المنقول ، فكانَ أن كتبتُ ، و قيدتُ ، فنظرتَ ، فقرأتَ .

النَّبْتَةُ : القهوةُ نباتٌ ، يُدفَنُ ، فيُسْقى بَذْرُه ، فينمو ، بعد زمنٍ مُقدَّرٍ لَه ، و في زمنٍ مُعَيَّنٍ ، و ليست كلمحِ البصرِ بَرَزَتْ ، كما أنها لن تنبُتَ بجودةٍ ما لم تَذُقْ طعمَ الدَّفْنِ .
فَدَفْنُ الشئِ و إخمالُه ليكون ظهوره بجودةٍ و قوةٍ كمالٌ ، إذِ الدَّفنُ حُسْنٌ في التربية ، و كمالٌ في الإنباتِ ، و الزَّرْعُ دونَ دفنٍ هلَكة .

فليَكُن مِنَّا دَفْنُ أمورنا ، و كتمانُ أسرارنا ، فإذا حانَ زمنُ الحصادِ كان النتاجُ طيباً ، و الثمر مأكولاً ، و بالضِّدِ ضِدٌّ .

و ما كلُّ ما دُفِنَ مُمْتَهَنٌ ، فالدرُّ في الصَّدَفِ ، و الصَّدَفُ في قاع البحرِ ، و لا يَصِلُ عُمْقَ البحر إلا ماهرُ غَوصٍ ، فالكريمُ يُخفَى كي لا يُمتَهَن .

التحميس : تُقتَطَفُ القهوةُ ذات لونٍ نباتي ، فتُوْضَع على نارٍ لِتُحَمَّسَ ، و نادراً ما تُرتَشف دون تحميسها ، فكمالُ لذتِها في إحراقِها .

البقاءُ على أصلِ شئٍ دونَ تغييرٍ له ليس محموداً في كلِّ الأحوالِ ، و دوامُ الحالِ قد يكون ذماً ، و لا يظهرُ كمالُ الشئِ إلا بعد أن يُمتَحَنَ ، فيُنتَفَعُ بِهِ ، فالإحراقُ إشراقٌ ، و كَيُ الذاتِ طَيُّ الهِنَاتِ ، و كلَّما زِيْدَ في الكَيِّ بان الذهبُ ، و تميَّزَ الكبريتُ ، و الزيفُ طيفٌ .

لم يُقَصَد شئٌ من أشباهِ القهوةِ بالإحراقِ و التحميسِ ، لأنَّه ليسَ مرْغوباً في كمالِه ، و لا مطلوباً ليُنتَفَعَ بِهِ ، فليسَ كلَّ محروقٍ ممحوق ، و ليسَ كلَّ حَبِّ يُحَب .

اللون : أصلُها خضراء ، و عند التَّحميسِ لها على النارِ يبدو التذوُّقُ في التفنُّنِ في تحميسها ، فإما أن تكونَ مائلةً إلى اللونِ البُنِّي ، و إما أن تكونَ مائلةً إلى السواد _ على اختلافِ تدرُّجاتِهما _ ، و لا تُرْغَب في لونها الأصلي _ إلا نادراً _ ، و لا تُستَطْعَم إلا بسوادها .

لكلِّ لونٍ أثَرٌ و فائدة ، ففي سوادِ الليلِ أُنْسُ المحبِّ ، و هدأةُ البالِ ، و سكينةُ القلبِ ، و في بياضِ النهارِ وُضوحُ الرؤيةِ ، و إبصارُ الدربِ ، يُسْرُ العمل .

هكذا الحريقُ يُحدثُ لونَاً ، و لونُ المعنى أشدُّ من لونِ المبنى ، حُسْناً و سوءاً ، جمالاً و قُبحاً ، فما كلُّ حمراءَ لحمة ، و ما كلُّ بيضاءَ شَحمة ، فاللونُ غرارٌ خدَّاعٌ ، فالميزانُ ما خلْفَ اللونِ لا اللون .

المرارةُ : القهوةُ العربيةُ تميَّزَتْ بمرارتها ، و تميُّزها بها من أجملِ صفاتها ، و أكملِ سِماتها ، فعلى كونها مُرَّةً إلا أن اللذَّةَ تأخذُ المرتَشف بنشوةٍ لا يكادُ يُخفي معالمَها من على وَجهه . عَجباً لُمُرَّةٍ تُورِثُ لذةً !

و لا يقفُ عندَ ارتشافها مرةً واحدةً بل يأخُذُه التَّكرارُ لذلك ، فيزداد تلذُّذُهُ بمرارتها ، حتى لربما أتى على كمٍّ كبيرٍ من شُربِ آنيةٍ منها .

فليسَ كُلّ مُرٍّ سيئاً ، و ليسَ كل حلوٍ حَسناً ، فكانَ ما نُريدُه حلواً فهو كذلك و لو كانَ علقماً ، و ما أردناهُ مُرَّاً فهو كذلك و لو كان عسلاً صافياً .

حينَ نُصاب بالأمورِ المُرَّة ، و الأحوالِ العلْقَمية ، إما أن ندعها تسري علينا كما هيَ ، فنكون في نظرتنا متأثرينَ ، مغلوبينَ ، في دَوْرِ الضحية .

و إمَّا أن نقفَ و نقلبَ المعيارَ و نتلذَّذَ بتذوُّقِنا للجانبِ الآخر ، فنُصبحَ في دَورِ المُؤَثِّرِ الغالبِ المُنتصِرِ .

كم هي تلك الأحداث التي مرَّتْ بنا ، فأخذنا جانبَ الشؤْمِ ، و تركنا كثيراً من الجوانبِ الحَسَنَةِ ، فقلْبُ المُرِّ إلى حُلْوٍ مُمكنٌ ، كما هو في القهوةِ .

الهالُ ( الهَيْلُ ) : يُوضَعُ معها ، بعد تمامِ غليانها ، و تجهيزها للتقديم ، يُعطيها نَكْهةً كمالية ، تَدْعَمُ نكهتها الأصلية ، و البعضُ يَعُ القُرنفل أو الزعفران ، قَد لا تُقَدم و لا تُشْرَب بدون شئٍ من ذلك ، إلا عند الضرورة ، و الضرورةُ لا مُعَوَّلَ عليها .

الإطراءُ الحسَنُ يُعطينا شيئاً من الإقدامِ على الثقةِ بما نسعى إليه ، فليكُنْ ترويجنا بتحسينٍ و تكميلٍ ، و إلا فلنْ يُقبَلَ شئٌ دونَ تبيينٍ لميزاتِه و صفاته ، فالذواتُ تتشابَه ، و تتمايزُ بالصفاتِ ، فمن أظهرَ قدرَهُ قُدِّرَ .

قهوةُ الإفطار : في ذاك الوقت ، و بعد ساعاتٍ من الانتظارِ ، تتمتَّعُ بقهوتك ، لِتنطلِقَ في :

الارتشاف : هنا مَشْهدٌ جميل ، حينَ تَرتشِفَ القهوةَ من إنائها الخاصِّ بِها ، تعتريكَ النشوةُ ، و تأخُذك اللذةُ ، متمتِّعاً بِـ : مرارتها ، و لونها ، و حرارتها ، و إنائها ، فلم يمنعك سوادها عن التلذُّذِ بِها ، و لا حرارتها ، و لا مرارتها ، حيثُ كانتْ رَغْبَتُكَ هي الباعثَةُ ، و همتُك هي الدافعة ، و إصرارُكَ هو المعينُ .

فلْتَكُنْ في مسيرتِك لهدفك و غايتك كمسيرة القهوة عند الإفطار إليك ، و بعد الارتشاف يكون انطلاقُكَ ، فلا ترْجِع إلا لغايةٍ ثانية ، و هدفٍ آخر ، و هكذا في سلسلةٍ من مراحلِ بروزِ : قهوة الانتظار .

آهٍ ، كم هي المعاني في تلك القهوة ، أزدادُ يقينا بأنَّ كلَّ شئٍ فيهِ درْسٌ ، فلنقتَبِس ، تحيتي لكَِ .

 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية